المعرفة والقبول والإذعان

معرفة الحق شيء وقبوله شيء آخر، والإذعان له أمر ثالث. الأول (المعرفة) عمل ذهني بحت، والثاني (القبول) عمل القلب، والثالث (الإذعان) هو عمل الجوارح ومنها اللسان...

يعرف الإنسان فيفكر ويخطط ثم ينفذ… هذه مراحل ثلاث موجودة في كل عمل يقوم به كل إنسان
1- مرحلة المعرفة الخبرية: و يسميها علماء العقيدة “قول القلب”.
2- مرحلة التفاعل بالوجدان: ويسميها علماء العقيدة “عمل القلب”.
3- مرحلة التنفيذ : ويسميها علماء العقيدة “عمل الجوارح” ويدخل فيه قول اللسان ضمناً.

نعم هكذا… يعرف الإنسان فيُحِب ويَطلب، أو يعرف فيكره ويَبْعد، فهي معرفة تنشأ أثراً في القلب تنقاد بموجبه الجوارح خيراً أو شراً.. قوة أو ضعفاً.
فمثلاً يسمع الإنسان عن الجنة… أفنانِها وأنهارِها وقصورِها وحورِها وشبابِ أهلها – هذه كلها أخبار – تُولِّد في القلب محبة أو شوقا ثم تنقاد الجوارح فتأتي كل ما يقربها من محبوبها وتبعد عن كل ما يبعدها عن محبوبها, بل تدفعه إن أتاها.
وكلما قويت المعرفة (قول القلب) قويت الإرادة (عمل القلب) وظهر ذلك على الجوارح ولابد..

لذا “إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ” (فاطر: من الآية28)؛ لأنهم أعرف الناس به كما قيل.

ولذا من أمحل المحال أن يكون المرء عالماً بفرضية الصلاة وعِظم أجرها, وجرم تركها، ولا مانع يمنعه ثم لا يصلي كما يقول شيخ الإسلام بن تيمية.
ومن أمحل المحال أن يكون المرء محبا لله ورسوله وعباده المؤمنين ثم يعاديهم ويحب أعداءهم, فيقيناً “لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” (المجادلة: 22).

ومن يتدبر كلام العلماء في الولاية: يجد أنها تدور على أمرين : محبة وهي عمل القلب الناشئ من معرفته, ونُُصْرة وهي عمل الجوارح الذي هو ثمرة عمل القلب ولازمه.

فكل محبٍ متبع ناصر، وكل مبغض مخالفٍ معاد، وتمام الولاية مع تمام المحبة والحصة للحصة.
(أرجو قراءة السطر الأخير مرة ثانية)!

وأحيانا يسمع المرء آيات الله ويصدق ما يتلى عليه ثم تصطدم هذه المعرفة الخبرية ـ النظرية ـ بعارض يحول دون حدوث أثر لها في القلب، مثل الكبر وعرف الآباء والشهوة وغير ذلك، وبالتالي لا تنقاد الجوارح فيكون صاحبها مصدق أو قل مقتنع بعقله وهواه (عمل القلب) مع آبائه وأجداده أو إخوانه وأقرانه وجوارحه مع من يحب فتراه على ملة أبيه, ومع إخوانه في مراتع الفسق ومواطن الشبهات.
فهو عارفٌ بالصواب، ناطقٌ بالحق، إلا أنه لا يمتثل بالجوارح، كأبي طالب فقد أقرَّ ونَصر حمية، ولكن غلبهُ حُبُّ آبائه فمات على ملة أبيه.
وكيهود، فيروى أن حيِّي بن أخطب – سيِّد يهود المدينة – وقف مع قريب له ينظران رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين قدم المدينة مهاجراً فسأله صاحبه أهو و.؟ فأجاب: نعم هو هو. فقال: فعلام عزمت؟ فأجاب حَيِّي: معاداته أبد الدهر. وصدق الله “فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ” (البقرة: من الآية89).

وهناك من يعرف ويستيقن ولا تنشأ المعرفة في قلبه أي شيء، بل يبغض ويكذب ويعادي كفرعون موسى “وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً” (النمل: من الآية14)، وكفرعون الأمة أبو جهل “فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ” (الأنعام: من الآية33).

وهناك المنافقون الذين يعرفون ويستيقنون فيبغضون وظاهرا يتَّبعون ثم هم يتربصون حتى يجدون فرصة فينقلبون أو عدواً غازياً فيتواطؤون.
وهناك المعرضون الذين رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آيات ربهم غافلون.

ومن يقرأ قليلاً في حال من زالوا ومن لا زالوا، يجد أن أغلب من ينصرف عن الدين ليس يجهله، ومن يعاديه يعاديه وهو يعلم ما فيه من الخير…. هذه حقيقة تشهد لها كل أحداث السيرة وينطق بها القرآن في كل صفحاته تقريباً.
“قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ” (هود:32).
“قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً” (نوح:5-7).
“قَالُوا سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ” (الشعراء: 136).
“…وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ” (هود: من الآية 53).
“وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ” (فصلت:5).
“فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ” (النمل: 56).
“وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ” (الأعراف: 13).
“وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ” (النمل: 14).

نعم: معرفة الحق شيء وقبوله شيء آخر، والإذعان له أمر ثالث. الأول (المعرفة) عمل ذهني بحت، والثاني (القبول) عمل القلب، والثالث (الإذعان) هو عمل الجوارح ومنها اللسان.
فالقضية إذاً ليست تكذيب وجهل، بل عناد واستكبار عن الحق.. هي معرفة بدون قبول ولا إذعان. وكفار الأمس ما كانوا يجهلون الشرع الحنيف، بل كانوا يعرفونه كما أخبر عنهم ربهم _جل وعلا_، ومنهم من كان يقر (أبو طالب وبعض اليهود)، والمحك هو الإتباع قال الله _تعالى_: “قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” (آل عمران: 31).
وبدونه فالأمر نفاق أو عناد أو جحود ونكران، وكله في النار إن مات صاحبه على ذلك.

Source: www.almoslim.net

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *