الحديث عن المقاصد في هذه الأيام آخذ في التجاسر على النصوص والنظر إليها على أنها تابعة لا متبوعة ومقودة لا قائدة، وهي في فلك المقاصد أشبه بالرحى في يد الطّحان، وهذه النظرية الغريبة مهما حملت من التجديد وتجاوز المنحى التجزيئي في تفهم أحكام الشريعة – زعموا – لا تنطلي إلا على القليل من الناس.
فإن أول من تولى كبر هذه الدعوى هو إبليس اللعين حين اعترض على النص بالمصلحة، فقابل “اسْجُدُوا لِآدَمَ” (البقرة: من الآية34) بقوله: “أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ” (صّ: من الآية76) توهم عدو الله أن الخالق _تعالى_ قد قصد بخلقه من النار تفضيله، وهذه المصلحة المتوهمة ملغاة وغير معتبرة؛ لأنها صادمة النص الصريح: “اسْجُدُوا”.
وجمهور علماء الأصول يسمون المصلحة المناقضة للنص مصلحة ملغاة ولا خلاف بينهم في عدم الاحتجاج بها. ذلك أن مثل هذه المصالح المزيفة هي في حقيقتها أهواء وشهوات ألبست ثوب المصلحة زوراً وبهتاناً، وقد كان أهل الجاهلية قبل الإسلام يرون في الإشراك في عبادة الله ووأد البنات وقتل غير القاتل وحرمان المرأة من الإرث المصلحة بينما ولا يرون في أكل الميتة وشرب الخمر ومعاشرة الأخدان مفسدة، ولازال هذا المنطق الجاهلي يتكرر عبر قوانين وصحف وقنوات ومنابر أخرى يلبس المفاسد لباس المصالح.
وعلى هذا النهج يظهر بين الفينة والأخرى من لا يرعوي عن استباحة حرمة النصوص الشرعية مع الجهل بدلالات الألفاظ على المعاني والتي هي الينبوع الثر للأحكام، وما كان لهؤلاء المتعالمين أن يبسطوا أيديهم وألسنتهم بالسوء لو وجدوا من يرد أيديهم في أفواههم.
وهؤلاء الثلة الذين فتنوا بزيف المدَنية الغربية قد يجدون في التراث الإسلامي من الشذوذ ما يسترون به عن الناس حقيقة زيفهم وتجافيهم عن أساس الدين الذي يتظاهرون بالدينونة به… فربما جعلوا من لغو الطوفي – عفا الله عنه – ونظره المصلحي ملجأ أو مُدخلا لتمرير ما نسمعه من دندنة حول فقه المقاصد، وأنها القبلة التي يجدر بالفقيه المجتهد أن يولي وجهه شطرها لمعالجة المشكلات التي تواجه المسلمين أيا كانت.. اقتصادية أو سياسية أو ثقافية.
وهذه الدعوة – المتجاسرة على النصوص المتسترة بالمقاصد – متلازمة مع دعوات أخرى تنادي بتجديد الأصول الفقهية للإسلام كما هي الدعوة الترابية المشهورة.
وحين نتكلم عن خطورة مثل هذه الظواهر، فلا يعني هجر الفقه المقاصدي أو تهميشه .. كلا فحديث القرآن الكريم عن مقاصد الأحكام كثير كما أن من هديه _صلى الله عليه وسلم_ في تقرير الأحكام أن يأتي الحكم مقترناً ببيان مقصده وشواهد هذا في السنة بين لمن طالعه ، وكل الذي ننادي به أن توضع الأمور في نصابها الصحيح، ذلك أن النظر المقاصدي نظر متأخر عند المجتهد وليس سابق على الأدلة الشرعية، وهذا متقرر عند فقهاء المقاصد كالشاطبي وغيره.
وفات القوم أن نظرية المقاصد التي يحتطبون بحبالها إنما وضعت في الأساس وضعاً تبريرياً لما عليه أحكام الشريعة بإضفاء صيغة المقاصد والحكمة عليها، ولم توضع من أجل تأسيس الأحكام وبنائها، فهي جعلت لتبرير ما هو كائن، وليس لما ينبغي أن يكون. فكم يكون الخطل عظيماً، والزلل فادحاً حين تتداخل منزلة الأدلة والأحكام الشرعية ومقاصد الأحكام، وكما أسلفنا فالمقاصد تنبني على الأحكام، والأحكام بدورها مبنية على الأدلة، وتصور لو قلبت المعادلة؟! فامتثال ما أمر به الشارع أو التجافي عما نهى عنه هو عين المصلحة.
وليس أدل على زيف النظر المصلحي – الذي يخالف أو يعارض فيه الباحث الكتاب والسنة – من إجماع الصحابة على ذلك فقد ذموا هذا الرأي الذي يتجاسر على النصوص ويتشبث بطاغوت المصلحة. فهذا الصديق _رضي الله عنه_ تأتيه الجدة تسأله نصيبها من الإرث فيتوقف في أمرها حتى يبحث عن الدليل ولم يلجأ إلى المقاصد والاجتهاد المقاصدي؛ لأن الأدلة مرتبتها متقدمة على المقاصد.
والصحابة – رضوان الله عليهم – عندما يعدمون النص ما كانوا ظاهرية الاجتهاد، وإنما قاسوا الفروع على الأصول، وربطوا الأحكام بمداركها، وإنما قصدوا في ذمهم للآراء .. تلك الآراء التي تقفز فوق الأدلة وتتفلت من ضوابط الاستدلال، وما أجمل قول عمر _رضي الله عنه_: “أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم السنن أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها، واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا: لا نعلم، فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم” .
والمقاصديون الجدد ينفخون في بعض العبارات المقاصدية لبعض الأئمة، ويجعلونها تجري على ألسنتهم صباح مساء، وما عبارة (أينما وجدت المصلحة فثم شرع الله) بسر .
حتى أن العلامة ابن القيم _رحمة الله علينا وعليه_ يقول وكأنه يخاطب هؤلاء المقاصدية: (الرأي الباطل أنواع، أحدها الرأي المخالف للنص، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده وبطلانه ولا تحل الفتيا به ولا القضاء).
ولعل من الأمثلة المعاصرة التي روعيت فيها المقاصد المزعومة على حساب النص، ما نسب لأحد العلماء المعاصرين من أصحاب المدرسة المقاصدية – عفا الله عنه – استغفاره وترحمه على البابا الهالك يوحنا بولس الثاني. مع أن النهي صريح في هذه المسألة “مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ” (التوبة:113)، وجاءت بصيغة النفي لا النهي، وهذا من أبلغ صيغ التحريم، فهل المقاصد هي اتباع الأوامر امتثالاً، والنواهي اجتناباً أو شيء آخر؟
لا يخفى أن ما يفصح عن مقاصد المتكلم هو ظاهر خطابه إلا إذا وجدت القرينة الصارفة للنص عن ظاهره، فإذا لم يوجد شيء من ذلك فاللفظ باق على ظاهره، ويكون ظاهره هو المعنى المقصود للشارع، وقد استدل فقيه المقاصدية الشاطبي – رحمة الله علينا وعليه – على أن الأمر الصريح والنهي الصريح يفيدان بظاهريهما قصد الشارع إلى إيقاع المأمور به، واجتناب المنهي عنه.
إن الأمر والنهي كلاهما يستلزم أمرين:
الأول: الطلب: طلب الفعل المأمور به أو طلب ترك المنهي عنه.
الثاني: الإرادة: إرادة إيقاع المأمور به وإرادة عدم إيقاع المنهي عنه.
وأخيراً فالطريق السليم لفهم المقصود الشرعي من الأوامر والنواهي – كما قرر ذلك الشاطبي – يكون بالنظر في أمور ثلاثة:
الأول: استقراء ما ورد في المسالة: موضوع الأوامر أو النواهي من النصوص.
الثاني: النظر في القرائن الحالية والمقالية المصاحبة للأوامر والنواهي.
الثالث: محاولة استخلاص علة ذلك الأمر أو النهي _إن وجدت_.