جعل اللّه _تعالى_ مهمة رسله وأنبيائه وأتباع رسله هي البلاغ أي إبلاغ دعوة الحق إلى جميع الناس وإلى الثقلين، ولكنة ليس كأي بلاغ إنه (البلاغ المبين) ولفظ البلاغ المبين جاء في القرآن في ثلاثة مواطن، هي:
1- قال _تعالى_: “وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ” (المائدة:92).
2- وقال _عز وجل_: “فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ” (النحل: من الآية35).
3- وقال _سبحانه_: “وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ” (يّـس:17).
وقفة مع اللغة:
كلمة بلغ: تعنى وصل أو قارب على الوصول.
يقول ابن فارس: (الباء واللام والغين أصل واحد، وهو الوصول إلى الشيء: بلغت المكان إذا وصلت إليه، وقد تسمى المشارفة بلوغاً بحق المقاربة)(1).
وقال الأزهري: (والعرب تقول للخبر يبلغ أحدهم ولا يحققونه،وهو يسوؤهم: سمع لا بلغ، أي تسمعه ولا يبلغنا،ويجوز سمعاً لا بلغا)(2).
وقال في اللسان: رجل بليغ: حسن الكلام فصيحة،يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه)(3).
وبيان يذاع في رسالة ونحوها(4).
وهذا دليل على أن استعمال كلمة البلاغ إنما كان لما فيه من طبيعة الوصول والانتهاء.
يقول الشيخ السعدي _رحمة الله تعالى_ في تفسير قوله _تعالى_: “وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ” أي: البلاغ المبين الذي يحصل به توضيح الأمور المطلوب بيانها وما عدا هذا من آيات الاقتراع ومن سرعة العذاب فليس إلينا، وأن وظيفتنا هي البلاغ المبين.
من مقتضيات البلاغ المبين:
أ – عدم التقصير في البلاغ: قال _تعالى_:” يأيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدى القوم الكافرين” (المائدة66).
يقول القرطبي _رحمة الله_: “وهذا تأديب للنبي _صلى الله عليه وسلم_ وتأديب لحملة العلم من أمته ألا يكتموا شيئاً من شريعته”(5).
ب – توفر عنصر الوعي لدى المبلغ: قال _صلى اللّه عليه وسلم_ (نضر اللّه امرءاً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها، فرّب حامل فقه إلى من هو أفقه منه…” الحديث رواه أحمد، استفاد الخطابي من هذا الحديث كراهة اختصار الحديث لمن ليس بالمتناهي بالفقه، وعلى هذا فإن الوعي يكون بحفظ النص وأدائه كما قيل، ويكون للفقيه بمحافظته على المعاني المستفادة.
ج – ومن مقتضيات البلاغ المبين البلاغة: وتتضح البلاغة المقصودة في قوله _تعالى_: “وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً” (النساء: من الآية63) ويقصد بها أن يكون الكلام حسن المعاني واضح في ألفاظه مع تجنب وحشي الكلام وغريبه ولا يقصد بالبلاغة التكلف والتشدق والتفيهق، فهذا مخالف لمنهج السلف الصالح _رضوان الله عليهم_ فقد(مرّ السلف الصالح في بث الشريعة للمؤالف والمخالف، ومن نظر في استدلالهم على إثبات الأحكام التكلفية علم أنهم قصدوا أيسر الطرق وأقربها إلى عقول الطالبين،لكن من غير ترتيب متكلف، ولا نظم مؤلف، بل كانوا يلقون الكلام على عواهنه ولا يبالغون كيف في ترتيبه إذا كان قريب المأخذ سهل الملتمس)(7).
د – ومن فقه البلاغ المبين كراهة الخوض فيما لا ينبني عليه عمل:
يقول الإمام الشاطبي _رحمه الله تعالى_: “كل مسألة لا ينبني عليها عمل، فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعاً، و الدليل على ذلك: استقراء الشريعة فإنّا رأينا الشارع يعرض عمّا لا يفيد عملاً مكلفا به، ففي القرآن الكريم “يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج” فوقع الجواب بما يتعلق به العمل، ومن هنا نهى _صلى الله عليه وسلم_ عن قيل وقال وكثرة السؤال) البخاري.
لأنة مظنة السؤال عما لا يفيد، وقد كان مالك بن أنس يكره الكلام فيما ليس تحته عمل.(8)
ويترتب على ذلك:
أن العلم الشرعي وسيلة إلى عبادة الله و(ذلك أن روح العلم هو العمل وإلا فالعلم عارية وغير منتفع به،قال _تعالى_: “إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ” (فاطر: من الآية28) قال سفيان الثوري: “إنما يتعلم العلم ليتقي به الله وإنما فضل العلم على غيره؛ لأنة يتقي اللّه به”(9).
وكل ذلك يحقق أن العلم وسيلة منا لوسائل ليس مقصوداً لنفسه من حيث النظر الشرعي، وإنما هو وسيلة إلى العمل.
هـ – وعلى المبلغ تحديد الهدف من بلاغة بدقة، والبدء بالمهم فالأهم، وأن يعرف كيف يبدأ وما هو مضمون دعوته وأن يعرف رسالته بدقة فالرسالة رسالة إحياء وبعث، ولن يتم الإحياء إلا بتصحيح مفهوم العقيدة،وتصحيح مفهوم التوحيد بمعناه السلفي الشامل، توحيد الأئمة وسلف الأمة،وأن يدعو الناس على أن يقيموا حياتهم على(قبول شرع الله ورفض ما سواه).
و – ومن مقتضيات البلاغ المبين كذلك: إيجاد(واقع) دعوي يؤمن بفكرة الداعية لا بشخص الداعية، وغني عن القول أن نذكر أن فكرة الداعية حتماً وأن تكون نابعة من أصول وتصورات أهل السنة والجماعة…..فالداعية حين يجد من يؤمن بفكرته وتصوره تزداد همته ويزداد وضوح الفكرة في قلبه وعقلة، ويزداد(إقبال الناس على(الأفكار) لوجود (واقع) عملي لها،وقد كان السلف الصالح _رضوان الله عليهم_ ينادون كل صاحب سنّة ويدعونه إلى إقامة (واقع) له على منهج أهل السنة والجماعة فروى ابن وضاح عن غير واحد:
(أن أسد بن موسي المسمى(أسد السنة) كتب إلى أسد بن الفرات: اعلم أي أخي أن ما حملني على الكتابة إليك ما ذكر أهل بلادك من صالح ما أعطاك الله من إنصافك الناس وحسن حالك مما أظهرت من السنة وعيبك لأهل البدعة، وكثرة ذكرك لهم،و طعنك عليهم، فقمعهم الله بك وشد بك ظهر أهل السنة،وقواك عليهم بإظهار عيبهم والطعن عليهم…
ثم ذكر بعد كلام………(فاغتنم ذلك وادع إلى السنة حتى يكون لك في ذلك فئة وجماعة يقومون مقامك إن حدث لك حدث، فيكونون أئمة بعدك، فيكون لك ثواب ذلك إلي يوم القيامة كما جاء الأثر فأعمل على بصيرة ونية وحسبة(10).
وأخيراً وليس بآخر: فإن نجاحنا في الإقلاع بالأمة مرهون بمدى أدائنا للبلاغ المبين الواضح الناصع القوي الواسع الانتشار، وذلك أداء لأمانة الدعوة)(11).
أسأل الله بكرمه وفضله أن يرزقنا حسن البلاغ وأن يجعله (بلاغاً مبيناً)، وأن يرزقنا الإخلاص والصدق معه، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يغفر ويرحم كل صاحب(بلاغ مبين) آمين….آمين….آمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آلة وصحبة أجمعين.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
_________________
(1) معجم مقاييس اللغة 1/201
(2) تهذيب اللغة9/14 نقلا عن(قواعد الدعوة إلى الله)د.همام عبد الرحيم.
(3) لسان العرب 10/302.
(4) المعجم الوجيز61.
(5) تفسير القرطبي6/242.
(6) معالم السنن للخطابي 4/187.
(7) تهذيب الموافقات للجيزاني40.
(8) السابق37.وأصل كتاب الموافقات للشاطبي _رحمة الله_.
(9) السابق.
(10) أهل السنة والجماعة معالم الانطلاقة الكبرى. محمد عبد الهادي المصري.
(11) أ. خالد أبو الفتوح (رؤية في مسيرة العمل الإسلامي)البيان155.ص95.