لِوجهه وهج نار.. لا إشراقة نور.. ظهرت عليه آثار النعيم والترف.. قلبه ملتهب, ووجنتاه كاللهب, وسيصلى ناراً ذات لهب, إنه أبو لهب… رمز لكل متكبر جبار, ولكل مناعٍ للخير معتدٍ أثيم؟؟
نسي التاريخ اسمه فلم يعد يُعْرف إلا باللهب.. ومضت الأجيال تلو الأجيال تردد عهد الله له بنارٍ ذات لهب.
لقد أعلنها أبو لهب حرباً شعواء على الدعوة وأهلها من أول يوم، رضي أن يكون مندوب إبليس في مكة, فقام بدور الشيطان وزيادة. أخرج البخاري عن ابن عباس:(أن النبي خرج إلى البطحاء فصعد الجبل فنادى ” يا صبحاه ” فاجتمعت إليه قريش، فقال: أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم فقال: ” فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ” فقام أبو لهب ينفض يديه ويقول: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله “تبت يد أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى ناراً ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد”.
إنها آيات تختصر الأحداث وتخبر بنهاية المعركة لصالح النبي والعصبة المؤمنة التي تعاني الضيم والقهر في مكة، آيات تعلن للعالمين أن الحق مكتوب له البقاء, وأن الزبد سيذهب جفاءً, وأن أي معركة تخاض ضد الدعوة فليست إلا معركة خاسرة بائرة مهما طال الزمن.
لقد كان في مكة بيوتات كثيرة كافرة غير بيت أبي لهب، وكان يسع بيت أبي لهب ما وسع البيوتات الأخرى، لكن هذا البيت أبى إلا أن يتميز بالعداء لهذه الدعوة والكيد لها؟!
– كانت زوجة أبي لهب تضع الأذى في طريق النبي وأصحابه، تروح وتغدو.. تنقل الشائعات.. وتثير الفتن وتمشي بالنميمة تبتغي الوقيعة بالمسلمين (لقد كانت في تكليف نفسها المشقة – ضد الدعوة – بمنزلة حامل الحطب الذي في عنقه حبل خشن يشد به ما حمل إلى عنقه, حتى يستقل به) فاستحقت; جزاءً وفاقاً[ النبأ 26] أن يعلق في جيدها حبل من مسد.. وأين؟! في نارٍ تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى[الليل 16,15].
– وأما ابن أبي لهب فله كأبيه سهم جارح في العداء – ومن يشابه أبه فما ظلم – ذكر ابن عساكر عن حبار بن الأسود: أن عتبة بن أبي لهب كانت تحته بنت رسول الله; فأراد الخروج إلى الشام مع أبيه فقال: يا محمد, هو كافر بالنجم إذا هوى وبالذي دنا فتدلى ثم تفل في وجه رسول الله; وردّ عليه ابنته وطلقها، فقال: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك، وكان أبو طالب حاضراً فوجم لها، وقال: ماكان أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة، فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره، فقال: يا بني: والله ما آمن عليك دعائه. قال: فسرنا إلى الشام حتى نزلنا الشراة، وهي مأسدة فنزلنا إلى صومعة راهب، فقال الراهب: يامعشر العرب ما أنزلكم هذه البلاد فإن الأسد تسرح فيها كما تسرح الغنم. فقال لنا أبو لهب: إنكم قد عرفتم كبر سني وحقي وإن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوة: والله ما آمنها عليه، فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة وافرشوا لابني عليها، ثم افرشوا حولها ففعلنا، فجاء الأسد فشم وجوهنا، فلما لم يجد ما يريد تقبض (أي: اجتمع على نفسه) فوثب فإذا هو فوق المتاع فشم وجهه ثم هزمه هزمة (أي: ضربه) ففضخ رأسه. فقال أبو لهب: قد عرفت أنه لا ينفلت عن دعوة محمد.
أما أبو لهب فكان من أشد شيء على الدعوة, سلك في ذلك وسائل عدة, كان من بينها وسيلة قديمة حديثة هي التضليل الإعلامي – والذي لا يزال يزاول على المسلمين صباح مساء –
روى الإمام أحمد عن ربيعة بن عباد الديليّ، قال: (رأيت النبي; في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا والناس مجتمعون عليه ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب, – يتبعه حيث ذهب – فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب)
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة* على النفس من وقع الحسام المهند
إن صورة أبي لهب تتكرر في كاتب مأفون ينعق بما لا يسمع, أو قناة آثمة و إذاعة مغرضة – تعبد الدينار والدرهم صباح مساء – تُغيب الحقائق, تلبس الباطل لباس الحق, وتصور الإسلام وكأنما هو أسد كاسر وذئب غادر.
لقد مضت الأيام وتقضت السنون فماذا خسرت الدعوة وماذا كسب أبو لهب؟!! لقد أبانت لنا الأيام – ولا تزال تبين – أن الدعوة تزداد ثباتاً ومضاءً كلما اشتد عليها العداء وتتابع عليها البلاء, وإن ما يجعله أبو لهب وغير أبي لهب في طريق الدعوة من عقبات فإنما هي – كيد شلا تريد حجب أشعة الشمس أن تنتشر في الأرض, أو كطحالب عائمة في البحر تريد اعتراض السفن الماخرة في عبابه – فهل تراها تقف أمامها أو تقطع عليها الطريق!!
لقد زاد غرور أبي لهب بجمال منظره, وكثرة ماله وولده, وحسبه ونسبه, فقابل دعوة النبي; بالتتبيب (تباً لك ألهذا جمعتنا..), فكان أن تولى الله _سبحانه_ الرد عليه بقوله:” تبت يد أبي لهب وتب”;
تبت يدا أبي لهب…
أنى أتى.. أنى ذهب…
بخيله.. برجله… وماله وما كسب…
ومن له به نسب …
عليه آيات الغضب…
تبت يدا أبي لهب…
ولم تطل المعركة كثيراً فقد مات أبو لهب, مات الذي يتزعم المعارضة أمام النبي; مات أحدُ أشد الشخصيات حماساً لرد الإسلام ولكن كيف مات؟! هل حزنت عليه الجماهير؟! هل أحست بفقده الأجيال؟ وهل بكت عليه السماء والأرض؟! هل حضرت الأمة دفنه.. لا لقد ضاق بموته حتى أقرب الأقربين إليه!! حدث أبو رافع مولى رسول; فقال: إن الله رمى أبو لهب بالعدمة (وهي قروح في البدن) فقتلته. قال: فلقد تركه ابنيه بعد موته ثلاثاً ما دفناه, حتى انتن, وكانت قريش تتقي هذه العدمة كما تتقي الطاعون.. حتى قال لهم رجل من قريش: ويحكما ألا تستحيان أن أباكما قد انتهى في بيته.. ألا تدفناه؟ فقالا: إنا نخشى عدواة هذه القرحة. فقال: انطلقا فأنا أعينكما عليه، فوالله ما غسلوه إلا قذفاً بالماء عليه من بعيد ما يدنون منه, ثم احتملوه إلى أعلى مكة، فأسندوه إلى جدار ثم رخموا عليه بالحجارة..!!
ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء; هذا جزاؤه في الدنيا, وأما في الآخرة فسيصلى ناراً ذات لهب.
لم يغن عنه ماله وكسبه, وأرصدته ومدخراته, بل عاد ذلك وبالاً عليه كما قيل: (من أحب شيئاً وقدمه على طاعة الله عذب به) وأما زوجه التي كانت عوناً له في عداوة النبي _صلى الله عليه وسلم_, فقد صارت عوناً على عذابه في النار مع مشاركتها له في العذاب والنكال – ليكون ذلك أبلغ – “احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم…”(الصافات23,22).
مات أبو لهب وزوجه وولده, ومات النبي;, وشتان بين الميتتين, مات أبو لهب ليهبط ويذل ويخزى ويلقى عند الله من العذاب ما يلقى. ومات النبي; ليرتفع إلى الرفيق الأعلى, ولترتفع دعوته ويعلوا دينه وتشرق رسالته, ولينادى بالشهادة له بالرسالة على مآذن الصين وفي منابر أفريقيا “ورفعنا لك ذكرك” (الشرح ).
وقصة أبي لهب تتكرر في شخصيات تحارب الإسلام, وبيت أبي لهب يتكرر في بيوتات وأحزاب وطوائف ودول تنابذ الدين (قد أنزل الله في أبي لهب وفي زوجته هذه السورة, ليكون مثلاً يعتبر به من يعادي ما أنزل الله على نبيه, مطاوعة لهواه وإيثاراً لما ألفه من العقائد والعوائد والأعمال, واغتراراً بما عنده من الأموال, وبما له من الصولة أو المنزلة في قلوب الرجال, وأنه لا تغني عنه أمواله ولا أعماله شيئاً, وسيصلى ما يصلى..
إن على من يعادي الدعوة ويقف أمام طريقها أن ينتظر مصرعاً كمصرع أبـي لهب وما ربك بظلام للعبيد.. وما هي من الظالمين ببعيد..