المقاومة أخلاق (2/2)

بقدر ما يمتلك الإنسان من الطبع الراقي والسجايا العالية والصفات الحميدة .. بقدر ما يقترب من درجات حُسن الخُلُق الجيدة في أقواله وأعماله وأفعاله ...

نتابع في الحلقة الثانية موضوع (المقاومة أخلاق) بعد أن استنتجنا في الحلقة الأولى الحقيقة الجوهرية التالية: [.. بقدر ما يمتلك الإنسان من الطبع الراقي والسجايا العالية والصفات الحميدة .. بقدر ما يقترب من درجات حُسن الخُلُق الجيدة في أقواله وأعماله وأفعاله .. وكلما كثرت أعماله وأفعاله التي تعبّر عن حُسن الخُلُق .. كان مؤهّلاً ليكون لبنةً صالحةً متينةً في بناء المسلمين، فيتقوّى البناء به، ويتمتّن، ويحقق خطوةً إضافيةً باتجاه الهدف السامي العظيم للأمة !.. وهذه الحقيقة تبيّن لنا بوضوح كم هي ثقيلة الأمانة التي يحملها كل منا، من أجل إنجاح مشروعات أمّته، وتحقيق أهدافها العظيمة، ودعم صمودها وصمود مجاهديها ومقاوميها .. بوجه العدوان والشرّ متعدّد الاتجاهات، سواء أكان هذا الشر عدواناً خارجياً سافراً، أم ظلماً وقمعاً داخلياً آثماً، يُرتَكب من قِبَلِ الحكام وأنظمة الحكم الجائرة] !..
وقد ناقشنا الفقرة الأولى في الحلقة الأولى، واليوم نناقش الفقرتين الثانية والثالثة من الفقرات الثلاث:

ثانياً : مصادر الخُلُق الحسن:
1- الإيمان بالله _عز وجل_ ، والخشية منه ، واستشعار رقابته _سبحانه وتعالى_ :
فعندما يعيش المسلم المؤمن بالله أجواءَ الإيمان به، ويستشعر في نفسه كل لحظةٍ من حياته.. يستشعر أنّ الله _سبحانه وتعالى_ يراقبه، ويراقب كل حركاته وسكناته، ويعلم السرّ وما تخفي الصدور.. فسيكون لذلك أثره العميق، في صقل النفس البشرية، وتهذيبها، واختيارها لطريق الخُلُق الحسن، في تعاملها مع عباد الله الأقربين والأبعدين ! ويُروى في الأثر [أنّ الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_، مرّ بغلامٍ يرعى الغنم، فقال له : بِعْني واحدة، فقال الغلام : إنها لسيدي، فقال عمر: بِعني إياها وخذ ثمنها وقل لسيدك: أكلها الذئب (أراد الفاروق عمر أن يمتحن الغلام)!.. فقال الغلام : فأين اللهَ يا سيدي ؟!.. فبكى عمر _رضي الله عنه_، واشترى الغلام من سيده وأعتقه قائلاً له : هذه الكلمة أعتقتك في الدنيا، وأسأل الله أن تُعتِقَ رقبتكَ يوم القيامة] !

2- القرآن الكريم :
فهو المنهج الربّانيّ الذي يربي الأجيال، ويوجّهها إلى أحسن الأخلاق، وينشئها على الفضيلة والطيب من الخُلُق، والصلاح من الأعمال والأفعال والالتزام: (كان _صلى الله عليه وسلم_ خُلُقُه القرآن) كما قالت السيدة عائشة _رضي الله عنها_ .. أي : كان _صلى الله عليه وسلم_ ملتزماً عملياً بآداب القرآن وأوامره ونواهيه.
3- القدوة الصالحة الحسنة :
نؤكّد على أنّ للقدوة الصالحة أثرها العميق في تهذيب النفس البشرية، وذلك على مستويين :
1- مستوى القدوة نفسها (المُربِي أو القائد) : التي تصبح أكثر تهذيباً، وأعمق كفاءةً في مجال الخُلُق الحسن، لأنها تحرص على تنفيذ معانيه، حتى تكون قدوةً صالحةً بحق، لغيرها من الناس .
2- مستوى الإنسان العادي (المُرَبَى أو الجندي) : فلا أعظم من تأثير القدوة الصالحة عليه، حين تكون تلك القدوة أهلاً لهذا، فتأثير الأفعال العملية .. خير ألف مرةٍ من تأثير الأقوال المجرَّدَة .
فالأب مثلاً : مهما ألقى على أولاده في بيته المواعظَ والدروسَ بأن يبتعدوا عن الغيبة والنميمة مثلاً، فلن يكون لمواعظه أي أثرٍ، حين يجدونه يقترف هذا الذنب، ولو مرةً واحدة، بل سيفعلون مثله ويقتدون به، إن لم يسبقوه في شدة اقتراف هذا الذنب الكبير !
يقول الله _عز وجل_ في محكم التنـزيل: “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً” (الأحزاب:21).
“قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ” (الممتحنة: من الآية 4)

4- الخوف من عذاب الله _عز وجل_ في اليوم الآخر :
فخوف المؤمن من عذاب الله الذي ينتظر الخاطئين المذنبين، سيكون محرّضاً له للبقاء على الصراط المستقيم في كل علاقاته مع الناس، على مختلف درجاتهم وأصنافهم .. وقد كان الرجل إذا ارتكب ذنباً أقبل إلى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ تائباً طالباً إقامة الحدّ عليه، خوفاً من الله _عز وجل_، وابتغاء مرضاته بعد المعصية، وهلعاً من عذابه يوم القيامة! وكلنا يعرف قصة تلك المرأة التي أقبلت على رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ طالبةً إقامة حدّ الزنا عليها! وكذلك حادثة (ماعز) _رضي الله عنه_، الذي أقام عليه رسول الله الحدّ برغبته: [.. وبعد أن أقام رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ الحدّ على (ماعز)، سمع رجلين يقولان : ما أحمق ماعزاً، ستره الله ففضح نفسه!.. فأنّبهما _عليه الصلاة والسلام_، ثم قال : “… إنه الآن لمنغمس في أنهار الجنة”].

5- استشعار قدرة الله _سبحانه وتعالى_ وعظمته :
فلا يغترّ المرء بقوّته أو سلطانه مهما كان، ولا بنفوذه مهما بلغ، وليتذكّر دائماً، أنّ الله أقدر منه قوّةً وبطشاً وسلطاناً ونفوذاً :
(رأى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ صحابياً يضرب عبداً خادماً عنده، فقال له : اتّقِ مَن هو أقدرُ عليكَ منكَ عليه، فقال الرجل: هو حُرٌ لوجه الله، فقال _عليه الصلاة والسلام_ : والله لو لم تقلها لمسّتكَ النار”! (مسلم).
* * *

ثالثاً : ما السبيل إلى تقويم الخُلُق المعوجّ ؟!
1- الدعاء .. بل الإلحاح في الدعاء :
فكل أمرٍ بيد الله _عز وجل_، ولا بد من الالتجاء إليه في هذه القضية أيضاً، وقد كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يدعو ربه قائلاً: “اللهم اهدِني لأحسنِ الأخلاق لا يهدي لأحسنِها إلا أنت، واصرف عني سيّئها لا يصرف عني سيّئها إلا أنت” (مسلم) .

2- العِلم واليقين :
أي أن تعلم وتتيقّن بإمكانية (التخلي) عن أي خُلُقٍ سيئٍ مهما كان، وإمكانية (التحلّي) بالخُلُق الحسن مهما بلغ، والأمر يتطلّب الاعتماد على الله عز وجل أولاً، والإرادة الحازمة منك ثانياً. “وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا” (الشمس:7-10)

3- المبادرة إلى إنجاز الأعمال الصالحة :
فأنت مسؤول عن نفسك وعن تزكيتها، فبادر إلى كل عملٍ صالحٍ يقرّبك من ربك، واعلم بأنك مطالَب بالإقدام على كل عملٍ صالح، فلا تفكر هل أعمل عملاً صالحاً أم لا .. بل فكّر بأفضل السبل لإنجاز هذا العمل الصالح :
[عن أبي موسى _رضي الله عنه_، عن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال : “على كل مسلمٍ صدقة، قال: أرأيت إن لم يجد ؟! قال : يعمل بيديه فينفع نفسَه ويتصدّق، قال : أرأيت إن لم يستطع ؟! قال: يُعين ذا الحاجة الملهوف، قال : أرأيت إن لم يستطع ؟! قال: يأمر بالمعروف أو الخير، قال : أرأيت إن لم يفعل ؟! قال : يُمسِكُ عن الشرّ فإنها صدقة”] (متفق عليه).

4- مغالبة الأخلاق التي يراد التخلّص منها :
أي: مراغمة الشيطان، وسلوك كل السبل لإرغامه على الابتعاد عنك.. بالصبر، والتمسّك بأخلاق المسلم القويّ العزيز الكريم .
وهكذا .. قابِل القسوةَ بالرحمة .. والبخلَ بالسخاء والكرم والعطاء .. والتكبّرَ بمخالطة الضعفاء والفقراء !.. مراغمةً للشيطان، وإغاظةً له .. إلى أن ييأس من غوايتكَ فينصرف عنك !
“شكى رجل إلى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قسوةَ قلبه، فقال له : امسح على رأس اليتيم، وأطعِم المسكين”.

5- مصاحبة الصديق الصدوق ، ومخالطة الإخوة الكرام الذين يعرّفونكَ بعيوبِك :
فمثل هؤلاء يحرصون عليك كما يحرصون على أنفسهم، ورضي الله عن الفاروق عمر _رضي الله عنه_ حين قال : “رحم الله امرأً أهدى إليَّ عيوبي”، وكان _رضي الله عنه_ يسأل أمين سرّ رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ باستمرار : “يا حذيفة : هل ذكرني رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ في المنافقين ؟!”.
وقبل أن نختم هذا البحث : (المقاومة أخلاق) .. نذكّر بالآية العظيمة: “خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ” (لأعراف:199)
فهذه الآية العظيمة تقول لك :
1- اتبع سبيل المساهلة مع الناس، واقبل أعذارهم، واعفُ عمّن ظلمك، وصِلْ مَن قطعك، وأعطِ مَن حرمك.. وبذلك تقابِل الإساءة بالإحسان، والأذى بأخلاق الكرام .
2- قم بما يمليه عليك شرع الله الذي عاهدتَه على الالتزام به، وائتمر بأمره .
3- ابتعد عن السفهاء والحمقى، الذين يضرّون ولا ينفعون، ويوقعونك في المحاذير.
أيها المجاهدون .. أيها المقاومون :
تذكّروا دائماً أنّ : المقاومة أخلاق !
5 من تموز 2005م.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

Source: www.almoslim.net

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *