القانون: نص مُلزم؛ أو قل: مادة + سلطة. مادة يُؤخذ منها صيغته، وسلطة تعطيه الصفة الإلزامية، و تميزه عن صيغة الطلب والدعاء والإرشاد… إلخ.
وحتى يكون القانون إسلامياً لابد فيه من أمرين:
الأول: أن يكون نصه ـ صيغته ـ مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله علية وسلم ـ.
الثاني: ولا بد أن يكون الالتزام به سببه فقط أنه من عند الله _عز وجل_.. أن الله أمر بهذا، لا لأنه يحقق مصلحة دنيوية، ولا لأنه أفضل من غيره من القوانين الوضعية.
وهذا هو بعينه معنى الإسلام.. إذ الإسلام هو الاستسلام الخالص لله _عز وجل_.. قبول شرع الله ورفض شرع ما سواه؛ والاثنان معاً، فمن قبل شرع الله وقبل معه غيره فقد أشرك ومن رفض شرع الله بالكلية فقد جحد وكفر.
وهو بعينه معنى العبودية.. الذل والخضوع لله _عز وجل_، فمن خضع وذل وانقاد لهواه ـ وإن وافق الشرع ـ فهو عبد هواه قال الله: “أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ” (الفرقان: من الآية43)، وقال الله: “أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً” (الجاثـية: من الآية23).
وهو السلطان الذي تكلمت عنه الآيات “إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ” (النجم: من الآية23)، “أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ” (الروم:35).
وهو الإذن الذي أٌشير إليه في قوله _تعالى_: “قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ” (يونس:59)، “أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ” (الشورى: من الآية21).
ولابد أن تُعرض القضية على الناس على أنها قبول شرع الله قبول بمحبة وإذعان ورفض شرع ما سواه.. رفض ببغض وعداء، على أنها أمر يدور على الإيمان والكفر لا على الراجح والمرجوح.
إذ إن (الاحتكام إلى منهج الله في كتابه ليس نافلة ولا تطوعاً ولا موضع اختيار، إنما هو موضع الإيمان أو… فلا إيمان “وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ” (الأحزاب: من الآية36)، “ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ” (الجاثـية:18) كما يقول صاحب الظلال.
أقول: فرق أي فرق بين أن تعرض القضية على أنها إيمان أو كفر ـ أكبر أو أصغر ـ وبين أن تعرض على العباد ليبدوا رأيهم فيها. أيحكمونها أم لا؟
وكي تستسلم الجماهير وتُذعن… كي تقبل الخطاب الإسلامي وتنقاد لرموزه لابد أن تخاطب بقضية أخرى قبل هذه.
لابد أن تُعَرَّف بربها… تَتَعرف على أسمائه وصفاته وآثار ذلك في مخلوقاته. وأنه ما خلقها وما أراد منها إلا عبادته وحده لا شريك له، وأنه أعدَّ لمن أطاع الجنة وفيها وفيها، وأعد لمن عصاه النار وفيها وفيها، ثم بعد ذلك يقال لهم: “إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ” (آل عمران: من الآية154). “فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ” (النساء: من الآية59).
وهذه هي طريقة القرآن حين يخاطب الناس بالتحاكم إلى الله ورسوله، قال _تعالى_: “وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ” (الشورى:10-12). والمعنى: لأن الله هو ربي الذي عليه أتوكل وإليه أنيب وهو فاطر السموات والارض الذي جعل لكم من….. لذلك إن اختلفتم في شيء فحكمه إلى الله.
ومثله “أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ” (الأعراف: من الآية54) فمن له الخلق لابد ـ عقلاً وشرعاً ـ أن يكون له الأمر.
ومثله قول الله _تعالى_: “فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً” (النساء: من الآية59).
وهو ما حدث على يد المُعلم الأول _صلى الله عليه وسلم_، فقد ظل القرآن حينا لا يتكلم إلا على الجنة والنار، ويعرف الناس بربهم، يقص عليهم حال من سبقوا.. حال من أطاع منهم ومن عصى ليعتبروا، ثم بعد ذلك كانت التشريعات.
وكي يستقيم الأمر لا بد أن يقف مَن يحاولون أسلمة القوانين في المجالس النيابية ويتركون حِلَق العلم ويسلكون طرق السياسة، لا بد أن يقفوا مع أنفسهم لمراجعة منطلقاتهم وتصحيح أهدافهم.
فنحن نُعبد الناس لله، ولسنا نطوع الشرع على هوى الناس، والفكرة هي التي تغير السلوك المنحرف لا أننا نأتي للسلوك المنحرف بفكرة تصححه أو تبرره.
ما أريد قوله هو أن: الإذن والسلطان لا يفترقان.. ولا تدرج في هذا، لا يقال اليوم النص وغدا السلطة… لا يستقيم هذا الكلام. وما استقام من قبل، فقرن ونصف من الزمان والمحاولات تبذل والنتيجة أننا نحن الإسلاميين الذين نقدم التنازلات والعلمانيون هم الرابحون، وإنما التدرج يكون في تعليم الناس التوحيد ثم مطالبتهم بتطبيق الشرع تماماً كما بدأت أول مرة.