تتمتع اللغة العربية بمرونةٍ هائلة، واتتها بفضل الاشتقاق الذي لم يبلغ في لغة من اللغات مبلغه في العربية من سعةٍ وانضباط واطراد، “وتمتلك العربية، فضلًا عن ضمائم محدودة تجتمع أحرفها في لفظة [سألتمونيها] ، أسلوبًا آخر للتوالد تفتقر إلى مثله المجموعة الأوروبية، ويقوم على زيادة الأحرف والحركات أو الانتقاص منها في داخل الكلمة الواحدة، فالعربية لغة عمودية، تدور ألفاظها من حول الجذر أو “الجد” وفي داخل أحشائه، فيما تكتفي اللغات الأوروبية بالتفرع الخارجي من خلال الضمائم وحسب، فتظل أفقية المنحى”
هذه المرونة التامة في اللغة العربية، وهذه القدرة على الاشتقاق والمجاز والقلب والإبدال والنحت، هو ما مكنها من أن تكون لغة القرآن الكريم، والحديث الشريف، وما فيهما من معانٍ رفيعة سامية، وتعبيرات دينية واجتماعية وتشريعية، ولم يكن للعرب بها عهد في جاهليتهم، كما استطاعت بعد ذلك أن تكون أداةً لكل ما نُقل من علوم الفرس والهند واليونان وغيرهم، ففي نحو ثمانين عامًا من بدء العصر العباسي، كانت خلاصة كل هذه الثقافات مدونةً باللغة العربية، على الرغم من أن العرب لم يكونوا يعرفون شيئًا من مصطلحات الحساب والهندسة والطب، ولا شيئًا من منطق أرسطو وفلسفة أفلاطون، فإذا هم وقد أصبحوا يعبرون بالعربية عن أدق نظريات إقليدس، وطب جالينوس، وحِكَم بزرجمهر، وسياسة كسرى، وما كانت تستطيع ذلك كله لولا ما بلسانهم من حياة ومرونة ورقي، وبذا خرجت العربية من هذا المأزق سليمةً قوية واسعة، هي لغة الدين، ولغة العلم والفلسفة، ولغة الأدب، واضمحلت بجانبها كل لغات البلاد المفتوحة، فاللغة السريانية التي تُرجمتْ إليها الكتب اليونانية، أخذت تتدهور بعد أن نُقِل ما فيها إلى اللغة العربية.
والفرس في ذلك العصر أصبحت لغتهم العلمية والأدبية هي اللغة العربية، إن ألفوا أو نظم الشعر أو كتبوا فبالعربية، أما اللغة الفارسية فإنما كانت تستخدم في الحديث بين عامة الناس، أو في طقوس الديانة المجوسية.
وكذلك اللغات الأخرى، من يونانية في الشام، أو قبطية في مصر.
وكسبت اللغة العربية من ذلك أنها أصبحت في تأليفها وأدبها وعلومها نتاج كل هذه الأمم، تعبر عن كل أفكارهم، ويكسبون هم منها ما أفرزته من ثقافة دينية وأدبية.
كانت العربية لغة العولمة في خلال العصور الوسطى، وفرس الرهان لأعظم حضارات تلك الفترة المديدة، مما ليَّن مفصلاتها وأثرى عدتها الدلالية واللفظية، وأتاح إغناءها بالتعريب والاشتقاق والنحت وتوليد المعاني والأساليب، فإذا أريد بالصعوبة (أي صعوبة العربية) الغنى، جراء امتداد المدى الثقافي لأكثر من خمسة عشر قرنًا، وفوق رقعة فسيحة من العالم القديم، فتهمة الصعوبة هذه تشكل مدحًا في باب الذم.
مزايا صوتية:
تَستخدم العربية جهاز النطق في الإنسان على أكمل نحوٍ وأقومه، ولا تهمل منه أي شيء بوسعه أن يؤديه.
إن جهاز النطق الإنساني أداة موسيقية وافية، لم تحسن استخدامها على أوفاها أمةٌ من الأمم القديمة أو الحديثة كما استخدمتها الأمة العربية؛ لأنها انتفعت بجميع المخارج الصوتية في تقسيم حروفها، ولم تهمل بعضها، وتكرر بعضها الآخر بالتخفيف تارة والتثقيل تارة أخرى، كما فعل المتكلمون بسائر اللغات المعروفة.
العربية هي أوفر اللغات عددًا في أصوات المخارج التي لا تلتبس ولا تتكرر بمجرد الضغط عليها، فليس هناك مخرج صوتي واحد ناقص في الحروف العربية، وإنما تعتمد هذه اللغة على تقسيم الحروف على حسب موقعها من أجهزة النطق، ولا تحتاج إلى تقسيمها باختلاف الضغط على المخرج الواحد.
وعلى هذه الصورة تمتاز اللغة العربية بحروف لا توجد في اللغات الأخرى كالضاد والظاء والعين والقاف والحاء والطاء، أو توجد في غيرها أحيانًا ولكنها ملتبسة مترددة لا تُضبط بعلامة واحدة.
ليس هناك لبس بين مخارج الحروف في اللغة العربية، ولا إهمال لمخرج منها، ولا تكرار نطق من مخرج واحد.
والفصاحة هي امتناع اللبس، وهذه هي الخاصة النطقية التي تحققت في العربية لمخارج الحروف كما تحققت للحروف، فليس في العربية حرف يلتبس بين مخرجين، وليس في النطق العربي مخرج ينطبق فيه حرفان، ليس في العربية حرف يستخدم مخرجين كحرف “بسي” في اليونانية وهو مختلط من الباء الثقيلة والسين، ولا كحرف “تشي” في تلك اللغة وهو خليط من التاء والشين.
لا تزدحم أصوات الحروف في العربية على مخرجٍ واحد، كما قلنا، مع ترك مخارج الحلق مهملة، وهي تتسع من أقصى الحلق إلى أدناه لسبعة حروف هي الهمزة والهاء والألف والعين والحاء والغين والخاء، وهي مميزة في النطق والسمع بغير التباس ولا ازدواج في الأداء.
واللسان العربي المبين يتجنب اللبس في الحركات الأصلية كما يتجنب اللبس في الحروف الساكنة، فلا لبس بين الفتح والضم والكسر والسكون، وإذا وقعت الإمالة بين حركتين لم تكن وجوبًا قاطعًا تثبته الحروف، بل كان قصاراه أنه نمط من أنماط النطق يشبه العادات الخاصة عند بعض الأفراد أو بعض الجماعات في أداء الحركة وإشباعها أو قصرها، كيفما كان رسم الحرف في الكلام المكتوب، وكيفما كان جوهره المميز في الكلام المسموع.
معاني الأبنية:
من أهم مميزات العربية أن الأصل الواحد فيها يتوارد عليه مئات من المعاني، بدون أن يقتضي ذلك أكثر من تغيرات في حركات أصواته الأصلية نفسها مع زيادة بعض أصوات عليها أو بدون زيادة، وأن كل ذلك يجري وفق قواعد مضبوطة دقيقة نادرة الشذوذ، ولم تصل أية لغة سامية أخرى في ذلك إلى ما وصلت إليه العربية من ثراءٍ ودقة: تقول عَلِم عَلِمنا … أَعْلَم يَعْلم نَعْلم … اعْلَمْ اعلمي … عَلَّمَ نُعَلَّم … تَعَلَّم … تَعالَمَ … عُلِمَ يُعلَم … عِلْمٌ عَلَمٌ علامةٌ عُلومٌ أَعْلامٌ علامات عالمِ عليم عَلَّامة عُلَماء عالمِون مُتَعَلِّم مُعْلَم مُعَلَّم معلوم، عالَم عالَمون … إلخ”، ترى كم كلمة في الإنجليزية عليك أن تستظهرها بحقها الشخصي لكي تؤدي كل هذه الألوان المتفاوتة من المعاني؟ أليس هذا أمرًا يحسب في جانب السهولة في العربية لا في جانب العسر؟
ويطَّرِد ورود بعض الأوزان في العربية للدلالة على معانٍ خاصة، من ذلك أوزان أفعال الماضي والمضارع والأمر وأوزان اسم الفاعل وصيغ المبالغة والصفة المشبهة واسم المفعول وأفعل التفضيل والتعجب واسم الآلة والمصدر واسم الزمان والمكان وجموع التكسير.
الوزن في العربية هو قوام التفرقة بين أقسام الكلام، ولم تبلغ لغةٌ مبلغ العربية في ضبط المشتقات بالموازين التي تسري على جميع أجزائها، وتوفق أحسن التوفيق المستطاع بين المبنى والمعنى. بعض هذه الأوزان لا يقتصر على الإشارة إلى مجمل مدلول الكلمة، بل يشير كذلك إلى بعض تفاصيل تتعلق بهذا المدلول، الأمر الذي يمنح العربية دقةً خاصة في الدلالة والإمساك بالظلال الدقيقة للمعاني، ويتسنَّى به للكاتب بالعربية أن يطمح للتعبير العلمي الأدق والتعبير الفني الأكثر إيحاءً وأسرًا، كل ذلك ببساطةٍ وسهولة واطراد، واقتصادٍ ذهني ورفقٍ بالذهن والحافظة.