حُسْن العَهْد مِن الإيمان

حسن العهد من الإيمان سيرة وحياة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هي الصفحة الجلية والروضة الندية التي نتعلم منها الأخلاق الكريمة فما من خلق عظيم أو صفة طيبة تحمد إلا وله صلوات الله وسلامه عليه منها أحسنها ولا من صفة تعاب إلا وهو أبعد الناس عنها ولن تجد في التاريخ والسير إلى يوم القيامة أحدا يضاهي رسول الله..

حُسْن العَهْد مِن الإيمان

سيرة وحياة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هي الصفحة الجَلِيَّة والروضة الندِيَّة التي نتعلم منها الأخلاق الكريمة، فما مِنْ خُلُقٍ عظيم أو صفة طيبة تُحْمد إلا وله صلوات الله وسلامه عليه منها أحسنها، ولا مِنْ صفة تُعاب إلا وهو أبعد الناس عنها، ولن تجد في التاريخ والسِيَّر إلى يوم القيامة أحدا يضاهي رسول الله صلى الله عليه وسلم في كمال خُلقه وعظيم وفائه، حتى أقرَّ بفضله ووفائه من لم يؤمن به، فقال مِكْرَز بْن حَفْصٍ: “يا محمد، ما عُرِفتَ بالغدر صغيرا ولا كبيرا، بل عُرِفتَ بالبر والوفا”، ويكفيه شهادة ربه عز وجل له بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(القلم:4).
وحُسْن العهد معناه حفظ الوُدَّ القديم، ورعاية العِشْرة السابقة، وعدم نسيان فضل أهل الفضل والمعروف، وهو خصلة مِنْ خصال الإيمان، وخُلق من أخلاق نبينا صلى الله عليه وسلم القائل: (وإن حُسْن العهدمن الإيمان) رواه الحاكم وصححه الألباني. قال القاضي عياض: “(حُسن العهد) الحفاظ ورعاية الحرمة، (من الإيمان) مِنْ شُعَب الإيمان أو مِنْ صفات أهله، وسبب الحديث: أن امرأة أتته صلى الله عليه وسلم فأكرمها وقال: (إنها كانت تأتينا أيام خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان“، وقال ابن الأثير: “العهد جاء لمعان، والذي في الحديث حُسْن رعاية الصُحْبة والحفظ على الحُرْمَة السابقة”. وقال السخاوي: “(وإنّ حسن العهد) ينصرف لغة إلى وجوه، أحدها: الحفظ والرعاية، وهو المراد هنا. أي: الوفاء والحفظ، ورعاية العهود القديمة، ورعاية من يحبّك أو يحبّ من يحبّك، (من الإيمان) أي: من أخلاق أهله وخصالهم، أو من شعب الإيمان ومقتضياته، لأن من كمال الإيمان مودّة عباد الله ومحبّتهم”.

والسيرة النبوية فيها من المواقف الكثير الدالة على حُسْن عهد ووفاء النبي صلى الله عليه وسلم، والتي نتعلم من خلالها عدم نسيان مواقف أهل الفضل والمعروف معنا ـ ولو كان صاحب هذا المعروف ميتا أو كافرا ـ، ومن ذلك:

حُسْن العهد مع زوجته خديجة رضي الله عنها:
عاشت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها طوال حياتها مع النبي صلى الله عليه وسلم مثالاً طيباً للزوجة الصالحة، التي تعين زوجها على أعبائه، وتقف معه بالعون المادي والمعنوي، وكان لها في حياته عظيم الأثر، ولها عند الله عظيم الأجر والمنزلة، وقد ظل النبي صلى الله عليه وسلم طوال حياته يعْرف ويذكر معروفها، ويُعَدِّد مواقفها الطيبة معه، ويذكرها بخير، ولا يسأم من الثناء عليها، والدعاء لها، ويكرمُ أهلها وذويها وصديقاتها ـ بعد وفاتها ـ، بِرَّاً بها، وهذا من باب حُسْن العهد معها. قال ابن العربي: “كان النبي صلى الله عليه وسلم قد انتفع بخديجة برأيها ومالها ونصرها، فرعاها حية وميتة، وبَّرها موجودة ومعدومة، وأتى بعد موتها ما يعلم أن يسرها لو كان في حياتها”.
ولما رأت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم يُكْثِر مِنْ ذِكْر خديجة رضي الله عنها، قالت: (ما غِرْتُ على امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم ما غِرْتُ على خديجة، هلَكَتْ (ماتت) قبل أن يتزوَّجني، لِما كنتُ أسمعه يذكرها) رواه البخاري. وفي رواية قالت: (كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة) فكان صلى الله عليه وسلم يرد بقوله: (إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد).
ودَخَلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند عائشة رضي الله عنها عجوزٌ تُدْعَى أم زُفَرَ كانت ماشطة لخديجة رضي الله عنها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أنتِ؟ قالت: أنا جَثامة المُزنية، فقال: بل أنت حَسانة المزنية، كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله. فلما خرجت قالت عائشة: يا رسول الله، تُقْبِل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال: إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حُسن العهد من الإيمان) رواه الحاكم. قال النووي: “في هذه الأحاديث دلالة لحسن العهد، وحفظ الود، ورعاية حُرْمة الصاحب والمُعاشِر حياً وميتاً، وإكرام معارف ذلك الصاحب”.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بالشيء يقول: اذهبوا به إلى فلانة، فإنها كانت صديقة خديجة، اذهبوا به إلى بيت فلانة، فإنها كانت تحبخديجة) رواه الحاكم وحسنه الألباني. وفي حديث البخاري: (وإنْ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيَذْبَحُ الشَّاةَ ثُمَّ يُهْدِي في خُلَّتِهَا منها)، قال ابن بطال: “حسن العهد في هذا الحديث هو إهداء النبي عليه السلام اللحم لأجوار (جيران) خديجة ومعارفها، رعياً منه لذمامها، وحفظاً لعهدها”.
وكان صلى الله عليه وسلم كثير الدعاء لخديجة رضي الله عنه بعد موتها، فعن عائشة رضي الله عنه قالت: (كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكرَ خديجة، لم يَكَدْ يَسأمُ مِن ثَناءٍ عليها، واستغفارٍ لها) رواه الطبراني. فالاستغفار والدعاء للميت مِنْ خير ما يُهْدَى إليه، وهو دليل حب ووفاء، وصورة من صور حُسن العهد مع أصحاب الحقوق والفضل.

مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
لم ينس النبي صلى الله عليه وسلم فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومواقفه الطيبة معه فقال: (ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه، ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدا يكافيه الله بها يوم القيامة، وما نفعني مال أحد قطّ ما نفعني مال أبي بكر، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا) رواه الترمذي. قال ابن حجر: “مَنْقَبة عظيمة لأبي بكر لم يشاركه فيها أحد”.

حُسْن العهد مع الكافر (الْمُطْعِم بْن عَدِيِّ، وأبو الْبَخْتَرِيِّ):
ـ لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف حزينًا مهموماً بسبب إعراض أهلها عن دعوته، وما ألحقوه به من أذىً، فضَّل أن يدخلها في جوار بعض رجالها، خاصة أن أهل قريش عزموا على منعه من العودة إلى مكة، حتى لا يجد مكانا يأويه، أو أناسا يحمونه، فدخل مكة في جوار الْمُطْعِم بْن عَدِيِّوكان كافراً، قال ابن القيم: ” فقال له زيْد: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ يعني قريشا. قال: يا زيد، إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه، ومظهر نبيه. فلما انتهى إلى مكة، أرسل رجلا من خزاعة إلى مُطْعَم بن عدي: أدخل في جوارك؟ فقال: نعم، فدعا بنيه وقومه، وقال: البسوا السلاح، وكونوا عند أركان البيت، فإني قد أجرتُ محمداً، فدخل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام المطعم على راحلته، فنادى: يا معشر قريش، إني قد أجَرْتُ محمداً، فلا يهجه أحد منكم”. وقال ابن الأثير: “وأصبح الْمُطْعِم قد لبس سلاحه هو وبنوه وبنو أخيه فدخلوا المسجد، فقال له أبو جهل: أمجير أم متابع؟ قال: بل مجير، قال: قد أجرنا من أجرت”. وبالرغم من أن الْمُطْعِم بْن عَدِيِّ مات كافرا، وأن قبوله لإجارة النبي صلى الله عليه وسلم كانت لها جذور تاريخية وقبَلية وهي من عاداتهم، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم ظل حافظاً للمطعم بن عدي هذا المعروف رغم موته على الكفر، فقال صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر من المشركين: (لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني (طلب الشفاعة) في هؤلاء النتنى لتركتهم له) رواه البخاري، في رواية أبي داود (لأطلقتهم له). قال ابن حجر: “بأنَّ ذلك مكافأة له على يدٍ كانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم، وهي إما ما وقع من المطعم حين رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف ودخل في جوار الْمُطْعِم بْن عَدِيِّ، أو كونه من أشدِّ من قام في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم ومن معهم من المسلمين حين حصروهم في الشعب”.
ـ وهذا أبو الْبَخْتَرِيِّ الذي كان في صف المشركين يوم بدر، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله، فقد ورد في السيرة النبوية لابن هشام، ودلائل النبوة للبيهقي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وَمَنْ لَقِيَ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ بْنَ هِشام فلا يَقْتُلْه)، ثم أورد البيهقي قول ابن إسحاق: “وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أبي البختري لأنه كان أكفَّ القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وكان لا يؤذيه، ولا يبلغه عنه شيء يكرهه، وكان ممن قام في نقض صحيفة المقاطعة”.

السيرة النبوية بما فيها من مواقف وأحاديث تعلم المسلم أنْ يظل حافظاً وذاكراً فَضْل ومعروف أهل الفضل والإحسان، ولو كان صاحب هذا المعروف كافراً، فلا ينسى مودة مَنْ ودّه، ولا ينكر إحسان ومعروف مَنْ أحسن إليه، وهذا مِنْ حُسن العهد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (وإن حُسْنَ العَهْد مِن الإيمان).

Source: islamweb.net

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *