القَسَم والحلِف بمعنى واحد، ويُقْصَد به (القسم) تأكيد وتقوية معنى يراد غرسه في نفس المستمع، ويُؤْتَى به لدفع إنكار المنكرين، أو إزالة شكِّ الشاكين، أو لبيان عِظَم المُقْسَم عليه، قال الزركشي: “(القَسَم) إنما جيء به لتوكيد المقسم عليه”، وقال الآلوسي: “(القَسَم) يتضمن الإخبار عن تعظيم المُُقْسَم به، وأن الإقسام بالشيء إعظام له”. والنبي صلوات الله وسلامه عليه كان تارة يحلف بقوله: (والذي نفسي بيده)، وأخرى يقول: (والذي نفس محمد بيده) ومرة أخرى يحلف بقوله: (والله)، (والله الذي لا إله غيره).. فلا ضير في تعدد صيغ الحلف مادام أن الحلف يكون بالله تعالى، إذ أن الحلف بغير الله شرك بالله عز وجل، فقد سمِعَ عبد الله بن عمر رضي الله عنه رجلاً يحلف ويقول: لا والكعبة، فقال له: (إنِّي سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من حلف بغير الله قد أشرك) رواه أبو داود وصححه الألباني.
والناظر في السيرة النبوية يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم على بعض الأمور للتأكيد عليها وبيان أهميتها، ومن ذلك:
رؤية المؤمنين لربهم في الجنة:
أقسم النبي صلى الله عليه وسلم على رؤية المؤمنين لربهم عز وجل في الجنة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربَّنا يوم القيامة؟ قال صلى الله عليه وسلم: (هل تُضارون في رُؤية الشَّمسِ في الظهيرة، ليست في سحابة؟ قالوا: لا، قال: فهل تضارُون في رؤيةِ القمر ليلة البدر، ليس في سحابة؟ قالوا: لا، قال: فوالذي نفسي بيدِه! لا تُضارون في رُؤيةِ ربِّكم إلا كما تُضارُون في رؤيةِ أحدِهما (الشمس والقمر)) رواه مسلم.
حوض النبي صلى الله عليه وسلم:
مِنْ خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم وفضائله الكوثر، وهو المراد في قول الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}(الكوثر:1)، والكوثر نهر عظيم وعده الله به في الجنة، وهو يصب في حوضٍ له صلى الله عليه وسلم، فهو مادة الحوض كما قال ابن حجر في الفتح. وهذا الحوض من مكرمات نبينا عليه الصلاة والسلام في الآخرة، وقد جاء في صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بوجود هذا الحوض الآن، وقد أقسم على ذلك، لعظم شأن هذا الحوض، وأهمية تعريف الأمة به، حتى يأخذوا بأسباب الورود عليه، فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلّى على أهل أُحُد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: (إني فَرَطُكُم (سابقكم)، وأنا شهيدٌ عليكم، وإني والله لأنظر إلى حَوضي الآن). وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني على الحوض حتى أنظر من يَرِدُ عليَّ منكم، وسيؤخذ أناس دوني، فأقول: يا ربِّ! مِنِّي ومن أُمَّتِي، فيقال: هل شعرتَ ما عملوا بعدك؟ والله! ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم) رواه البخاري.
حُرمة الصحابة، وبيان فضلهم، وعدم جواز التعرض لهم:
التعرض لأحدٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالإيذاء والانتقاص في غاية الخطر، وهذه المسألة مما ابتدعها أهل البدع والزندقة، للوصول إلى إسقاط السُنة، ومِنْ ثم فقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم على حرمة أصحابه رضوان الله عليهم، وعدم جواز التعرض لهم، فقال: (لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا، ما أدرك مُدَّ أحدهم، ولا نصيفه) رواه مسلم. والمُد، جمع اليدين، فما أنفقه الصحابي بملء يديه، أو نصف ذلك، أفضل من نفقة أحدنا بمقدار جبل أحد. قال أبو زرعة الرازي ـ وهو من علماء الحديث المتقدمين ـ: “إذا رأيتَ الرجل ينتقص أحداً مِن أصحاب رسول الله، فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة، فمن جرحهم إنما أراد إبطال الكتاب والسنة، فيكون الجرح به ألصق، والحكم عليه بالَزْندقة والضلالة والكذب والفساد، هو الأقوم الأحق”.
وجوب محبة المؤمنين:
محبة المؤمنين لبعضهم واجبة، وكل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ومن الأشياء التي توصل إلى المحبة بين المسلمين: إفشاء السلام، فهو مفتاح المودة، وسبب الألفة، وإظهار لشعار من شعائر الدين، مع ما فيه من التواضع، ورعاية حرمة المسلمين، وإدخال السرور عليهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والَّذي نَفسِي بيده، لا تدخلونَ الجنَّة حتَّى تُؤمنوا، ولا تُؤمنوا حتَّى تحابُّوا، أوَلَا أدلكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحابَبتُم؟ أفشوا السَّلامَ بينَكُم) رواه مسلم.
ثلاث أمور هامة أقسم عليهن النبى صلى الله عليه وسلم في حديث واحد:
عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث أقسم عليهن (أحلف عليهن) وأحدثكم حديثا (تحديثا عظيماً) فاحفظوه، قال: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظُلِمَ عبْدٌ مظلمةً صبر عليها إلا زاده الله عِزَّا، ولا فتح عبد باب مسألة (سؤال الناس) إلا فتح الله عليه باب فقر) رواه أحمد وصححه الألباني. قوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث أقسم عليهن) فيه أن على دعاة الخير في أثناء تبليغ العلم والنصح أن يشوقوا السامع، ويجعلوه يشتاق وينتبه إلى ما سيُقال.
حُرْمة إيذاء الجار:
إيذاء الجار يكون بالفعل أو بالقول، وقد يكون إيذاء الجار في نفسه، أو في أهله، أو في أولاده، أو في مسكنه، أو في ضيفه. والنبي صلى الله عليه وسلم أقسم فيما أقسم به على تحريم أذية الجار، فقال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، ـ ثلاث مرات ـ قيل من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه (مصائبه وشروره)) رواه البخاري. هذا الحديث والقَسم من النبي صلى الله عليه وسلم شديد فى الحض على ترك أذى الجار، إذ أكد ذلك بقسمه ثلاث مرات: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن).
فضل سورة الإخلاص:
القرآن الكريم مليء بآيات التوحيد، والقصص، والأحكام: ومعلوم أهمية التوحيد في الإسلام، و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تشتمل على التوحيد، قال السعدي في تفسيره: ” فهذه السورة مشتملة على توحيد الأسماء والصفات”. وقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم على فضل سورة الإخلاص وأنها تعدل ثلث القرآن الكريم، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ رجلًا سمع رجلًا يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يُردِّدُها، فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، وكأنَّ الرجلَ يتقالُّها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيدِهِ، إنها لتعدلُ ثلثَ القرآن) رواه البخاري. وفي ذلك حافز كبير على قراءة هذه السورة العظيمة، ومعرفة تفسيرها، والوقوف على معانيها، والامتثال لأوامرها، والتسليم بمقتضاها.
فضل التوبة والاستغفار:
كان صلى الله عليه وسلم يحث دائما على التوبة، ويُرَغِّب كثيراً في الاستغفار، ويقسم على فضل وأهمية ذلك فيقول: (والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا، لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم) رواه مسلم. قال الطيبي: “لم يرد به ونحوه قلة الاحتفال بمواقعة الذنوب، كما توهمه أهل الغرة (الغفلة)، بل كما أنه أحب الإحسان إلى المحسن أحب التجاوز عن المسيء، فمراده لم يكن ليجعل العباد كالملائكة منزهين عن الذنوب، بل خَلق فيهم من يميل بطبعه إلى الهوى، ثم كلفه توقيه، وعرفه التوبة بعد الابتلاء، فإن وفَّى فأجره على الله، وإن أخطأ فالتوبة بين يديه، وسر ذلك إظهار صفة الكرم والحلم والغفران”. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) رواه البخاري.
نبينا صلى الله عليه وسلم علمنا ديننا، وبين لنا الحلال والحرام، بالترغيب تارة، وبالترهيب أخرى، وحذر وأنذر، وقصَّ القصص، وضرب الأمثال.. ومع علمه صلى الله عليه وسلم بيقين أصحابه رضوان الله عليهم ويقيننا بصدقه، إلا أنه لجأ أحياناً للقَسَم والحلف في بعض المواقف والأمور العظام، ليوقظ الهمة، ويبين خطورة وأهمية الأمر الذي يقسم عليه. وقد كان قسمه صلوات الله وسلامه عليه إما على فضل وأهمية طاعة أو عمل صالح، فعلينا طاعته فيه وسرعة امتثالنا والتخلق به، وإما على أمر يحذرنا ويخشى علينا من خطره وعاقبته، فعندئذ يجب علينا الحذر من مغبة الوقوع فيما حذّرنا منه، وإما أن يكون قسمه وحلفه صلوات الله وسلامه عليه لتقرير أمر أو غرس معنى من معاني العقيدة في نفوسنا، فيجب علينا حينها الإيمان بما يخبرنا به ولو خالف عقولنا، لأنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.. ومِنْ هنا يتعلم الدعاة والمربون مِنَ النبي صلى الله عليه وسلم أهمية أسلوب القسم، في جذب حواس المستمعين، وشحذ هممهم لما سيأتي بعد القسم والحلف، من أمور العقيدة والعبادة، والحلال والحرام، والجنة والنار، والفضائل والأخلاق، ومع ذلك ينبغي الإتيان به ـ القسم والحلف ـ في حينه وموطنه، وعدم الإفراط فيه، والإكثار منه.