المغرب: نموذج التنمية القائم على الواجهة و التسويق  لم يعد مجدي و حكومة أخنوش “شاي قديم في أكواب جديدة”

 

 

د. طارق ليساوي

خلصت في مقال الأمس ” قراءة تقنية في حكومة أخنوش …لست متفائلا” إلى أن بناء مغرب المستقبل و إخراج البلاد من أزماتها الداخلية و الخارجية، لا يمر قطعا من بوابة المنهجية السياسية المتبعة ، و إنما المدخل بنظرنا هو القطيعة مع النموذج المعتمد منذ الاستقلال في تدبير قضايا الوطن مركزيا و جهويا ، و إبعاد الإدارة البيروقراطية و الأسلوب الأمني عن إدارة الشأن التنموي.. فمحاربة الفقر و البطالة و الهشاشة الاجتماعية لا تتحقق باستعمال “الهراوة” و القبضة الأمنية، و تكميم الأفواه ، كما لا تتحقق بالشعارات و الوعود الزائفة ، و إنما تتحقق بتنفيذ إصلاحات جذرية وجادة .. فإنجازات “مغرب الاستثناء” لا نجد لها أثرا إلا في وسائل الإعلام العمومية، كما أن البرلمان و الحكومة المنبثقة عن انتخابات عامة و دورية ، لا قيمة لها في ظل بلد غالبية شعبه يتنفس تحت الماء و غارق في الأزمة ، فالركن الأساس في البناء الديموقراطي هو احترام حرية الرأي والتعبير و تصفير السجون من معتقلي الاحتجاجات السلمية ورد الاعتبار لسلطة النقد والمساءلة…

و قد تابعت تصريحات رئيس الحكومة و بعض الوزراء المعينين، و بدا لي أن الشكل و سياسة التسويق و الماكياج هي التي تحكم المشهد السياسي بعد انتخابات 8 شتنبر، إسقاط الإسلاميين عبر صناديق الاقتراع و إنهاء مشروع الدولة الإسلامية و التأسيس لدولة ليبرالية على حد تعبير أمين عام حزب جبهة القوى الوطنية، و ايضا  انتخاب ثلاث نساء لعمودية ثلاث مدن و استوزار  العديد من النساء في حكومة أخنوش، بنظري الشكل غير ذي أهمية ، المهم الجوهر الأفعال و السياسات و البرامج الواقعية التي لها تأثير مباشر على حياة المغاربة و واقعهم المأساوي،  التغيير على مستوى التعليم الصحة و  كلفة العيش، على مستوي الحريات المدنية و السياسية، على مستوى محاسبة الفاسدين و التأسيس لدولة الحق و القانون، و عدم الإفلات من العقاب ، المهم فعالية الإنجاز و شرعية الأداء…

ليس المهم الحكومة أو من فيها، نعلم جيدا أن السلطة الحقيقية بيد المؤسسة الملكية، و أن برنامج الحكومة الحالية و الحكومات المقبلة إلى غاية 2035 مرسوم مسبقا في سياق ما أصبح يعرف بالنموذج التنموي الجديد ، أو الميثاق الوطني من أجل التنمية ، و بنظري شخصيا ليس هناك مانع في تعيين الحزب الشيوعي الكوري الشمالي، المهم هل من يتم تعيينهم في المناصب العمومية يملكون القدرة و الفعالية لإبهار العالم  بإنجازات واقعية ملموسة، لأن  سياسة التسويق الإعلامي لم تعد تجدي، و وسائل الاعلام الأجنبية و صناع القرار الأجانب أكثر دراية و معرفة بحقائق المشهد الداخلي….و للأسف، المؤشرات الأولية لا توحي بأن هناك تغيير جاد و أن  دار لقمان ستبقى على حالها…

فالتغيير بنظري جماعي و ليس فردي، و لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، موقفي هو دفاع عن الحرية و الكرامة و العدالة، دفاع عن مستقبل أبناؤنا و أحفادنا..دفاع عن التغيير الجاد و الموضوعي…أما القول بأننا دولة عظمى و إقتصاد قوي و إنجازات رائدة و مشاريع كبرى، فكل هذه العناوين غير مدعومة بإنجازات تحظى بقبول عام،  فيكفي مؤشر واحد لتوضيح أن ما يقال مجانبة للصواب، فمتوسط الدخل الفردي في المغرب لازال في 2021 لا يتعدى 3200 دولار في السنة، بينما وصل  في تركيا لحوالي 12000 دولار ، و لكي يصل المغرب لنفس مستوى الدخل الفردي في تركيا يحتاج لمعدل نمو يتعدى 8٪و لمدة  تزيد عن 15 سنة..

أيها السادة، كم أود أن نجد بالفعل اقتصاد مغربي قوي و ينمو بوثيرة سريعة ، فأنا لن أتحدث عن الوضع الإقتصادي الراهن ، فنحن ندرك أن جائحة كورونا أثرت على مختلف المؤشرات الاقتصادية ، لكن سوف أحلل على مدى أبعد و في ظروف نعم فيها المغرب باستقرار سياسي و إجتماعي ووفرة في رؤوس الأموال و مصادر التمويل و مع ذلك فإن الإنجازات لم تكن فعالة ،  فمتوسط ذلك أن ، معدل النمو طيلة  العشرية الممتدة من 2010 إلى 2020 بلغ في المتوسط 3،5 ٪، و هو معدل أضعف من متوسط النمو الذي تحقق في العشرية من 2000إلى 2010 و الذي وصل لحولي 4.5٪ و كلا المعدلين أقل بكثير عن 8٪…

لست متفائلا لأني لا  أقبل على المستوى الشخصي ان أكون مطبلا لسياسات مؤمن بأنها لم تنجح لعقود ، و سياسيين فاقدين للإبداع  و كل ما لديهم هو  تجريب للمجرب ، و ما يحصل مجرد تغيير للعناوين و الإبقاء على ذات المحتوى بمعنى “شاي قديم في أكواب جديدة “، لأن قذراتهم الذهنية و  أفقهم الفكري و السيكولوجي محكوم و مقيد بأدبيات سياسية و ثقافية و أيديولوجية عنوانها الأكبر:  الولاء  و التبعية لفرنسا و الخضوع التام التوصيات صندوق النقد الدولي و البنك الدولي…

إن نموذج التنمية القائم على الواجهة و التسويق  لم يعد مجدي ، فعلى مستوى تهيئة المدن الكبرى نجد تفاوت واضح بين الشوارع الكبرى و الأحياء الهامشية بداخل نفس المدينة، فمثلا في مدينة طنجة بشمال المملكة ، نجد أحياء و شوارع راقية مثل “كورنيش مارينا” و “أشقار” و شارع محمد الخامس و ” الجبل الكبير” و ساحة الأمم…لكن و أنت تتوغل أكثر في دروب و شوارع هذه المدينة تكتشف عالما أخر مثل ” حومة الشوك” و “حومة صدام” و ” سوق المصلى” و “مسانة ” و هي أحياء شعبية بامتياز ، فالزائر ينتقل من عالمين مغايرين عالم الغنى الفاحش و عالم الفقر المدقع…مع العلم أن أغلب المدن الكبرى تعاني من هذه الإشكالية فمدينة بحجم “بكين”  و “كوالامبور” تجد فيها مثل هذه التناقضات لكن ليس بنفس الدرجة  …

و هذا التناقض يطال بنية الاقتصاد المغربي أيضا فهناك اقتصاد مهيكل و هناك إقتصاد غير مهيكل، و المسؤول عن هذه التناقضات السلطات العمومية على المستوى المركزي و على المستوى المحلي، فلجوء البعض إلى الاشتغال في الخفاء راجع إلى عدة أسباب و لعل أهمها تعقيد المساطر الإدارية و تعددها و تعنت الإدارة المحلية و أيضا الغلو في الضرائب و الرسوم المختلفة…و أيضا إرتفاع كلفة الأراضي و المحلات المعدة للأنشطة الصناعية و التجارية…

و للأسف علينا الإقرار بأن جزء من الفشل التنموي راجع إلى هذه البيروقراطية التي أحيانا تتصف بالبطء و عدم الكفاءة أو الجرأة في اتخاذ القرارات، أو نتيجة لفساد بعضها و رغبتها في الحصول على بعض المكاسب، و عندما نحلل نوعية القوانين المتصلة بجذب الاستثمار نجذها مقبولة بل إن الدولة بذلت جهودا محمودة في مجال البنية التحتية الأساسية ، لكن الإشكال يكمن في نوعية البيروقراطية ، و أيضا في زواج السلطة بالتجارة، فمن غير المقبول لدى أغلب رجال الأعمال أن يكون ممارس السلطة و الوظيفة العمومية تاجرا ، فبحكم وظيفته هو مطلع على المعلومة اللإقتصادية ، وهذا أمر غير متاح لعموم رجال الأعمال و خاصة المبتدئين ، وهو أمر قاتل للمنافسة الحرة و لمبدأ تكافؤ الفرص…

فالإشكاليات و الإختلالات الكبرى في المغرب لها صلة بفشل الإدارة السياسية و ضعف أداءها إلى جانب انحراف السياسات و تحيزها للأقلية بدل الانحياز للغالبية، هذا إلى جانب ضعف الشفافية و غياب المساءلة و المحاسبة، فالبلاد تعرف فسادا إداريا و ماليا فاحشا، إلى جانب سياسات توزيعية سيئة و تجعل ثمار النمو على ضعفه حكرا على القلة، كما أن ثروات البلاد تجد طريقها لحسابات وجيوب قلة من المسؤولين بدلا أن تكون أداة للتنمية و إشباع حاجيات الأغلبية لذلك فإن الحديث عن المقاولة و الاستثمار لا يستقيم في ظل هذه الأوضاع…كما أن الحديث عن جذب الاستثمار الأجنبي و المحلي لا يستقيم في ظل هجرة رأس المال الوطني و تهريبه إلى الخارج تحت مسميات مختلفة…فالمدخل العملي لتشجيع الإستثمار في البلاد يمر عبر إجرائين لا محيد عنهما:

أولا- استرداد الأموال المهربة إلى الخارج، فهذه الأموال المنهوبة و المهربة أضرت بالوضع الإقتصادي و الإجتماعي بشكل مباشر، على اعتبار أن رأسمال جبان، و لا يمكن له أن يدخل لبلد طارد لرؤوس الأموال،فالأموال التي تتسرب من البلاد بالعملة الصعبة،تعبر عن أحد الاحتمالات التالية :1-  الإستثمار في المغرب محفوف بالمخاطر أو2- عائد الإستثمار أقل مما هو متاح في بلدان إفريقية أو غير إفريقية تكون ملاذا لرؤوس أموال مصدرها المغرب أو 3- الوضع في المغرب على المدى المتوسط و البعيد، يتجه نحو الأسوأ..

فكيف يمكن إقناع المستثمر الأجنبي ، أن يجازف و هو يتابع عن كثب حجم  الأموال المهاجرة من المغرب، ووثائق باناما و تسريبات ويكيليكس و ذهب دبي تلخص الحكاية …

ثانيا-الحد من ظاهرة زواج السلطان بالتجارة، فهما كانت كفاءة المستثمر أو المقاولة، لن تستطيع النمو و الاستمرار في بيئة  تنافسية ناقصة، و يسودها الإحتكار الظاهر والخفي، فزواج السلطة بالمال، يحد من المنافسة، و يجعل المعلومة الإقتصادية محتكرة من قبل الفاعل السياسي/التاجر، و هذا الأخير يوظف هذه المعلومة لصالح مؤسساته التجارية أو المؤسسات التي يرتبط  بها بشكل مباشر أو غير مباشر…

والتغلب على ظاهرتي هجرة رؤوس الأموال و زواج السلطة بالمال، يعد المدخل الأساسي للحديث عن تشجيع الإستثمار و دعم المقاولات ، تم بعد ذلك تأتي الإجراءات و التذابير المواكبة ، فاتخاذ قرار الاستثمار من عدمه،مرتبط بتواجد حزمة من التدابير التي تحدد نوعية مناخ الاستثمار ومنها:

أولا:مجموعة من العناصر الكلية التي تشمل الدولة ككل،والمتصلة أساسا بالقضايا الاقتصادية،والاستقرار السياسي والسياسات الوطنية في مجال التجارة الخارجية، والمؤشرات المتصلة بالاقتصاد الكلي: كالسياسات المالية والنقدية ،وسياسات سعر الصرف…

ثانيا:  الكفاءة التنظيمية للبلد، فالشركات المعنية تهتم بقضايا الدخول والخروج، والمرونة في علاقات العمل واستخدام العمالة،والكفاءة والشفافية في التمويل، الضرائب، وكفاءة الأنظمة المتعلقة بالبيئة والصحة العامة ،وإنفاذ القانون،ونزاهة القضاء،فالكفاءة التنظيمية عنصر ضروري لمناخ استثماري ملائم.

 الثالث:جودة البنية التحتية، مثل وسائل النقل والاتصالات، والكفاءة المالية،إلى جانب العمالة الماهرة،وهي محددات رئيسية للقدرة التنافسية والربحية.

وهذه العوامل مجتمعة من الصعب الوفاء بها في ظل النمط السياسي الحالي،فالمغرب بالرغم من توفره على إمكانيات ناذرة من الممكن أن تجعله وجهة استثمارية أكثر تنافسية في السوق الدولي،غير أن الإدارة السياسية والاقتصادية عاجزة عن تحقيق البنية التحتية والتنظيمية الضرورية لتحقيق الإقلاع الاقتصادي، وإخراج النمو من عتبة مادون 3.5 %  إلى ما فوق 8% سنويا و لمدة طويلة و ممتدة، باعتبارها النسبة القادرة عمليا، على امتصاص حجم البطالة في المغرب…

والسبب الرئيس في تخلف المغرب اقتصاديا، رغم الإصلاحات الاقتصادية والمالية المتتالية، راجع بالأساس إلى أن السلطة السياسية لا تتمتع باستقلال أصيل، وإنما موجهة من قبل من بيدهم المقدرات الاقتصادية، فكبار التجار والصناعة والمزارعين هم من يقبضون بالخيوط الأساسية في صياغة ووضع السياسات،ويوجهون الدولة إلى إصدار قرارات تهدف في النهاية إلى تحقيق مصالحهم.

فالسلطة السياسية في المغرب وسيلة للحصول على القوة الاقتصادية، فالمناصب لا تطلب لذاتها، وإنما للاستئثار بمزايا اقتصادية، ومادام الأمر كذلك فمستقبل البلاد لن يتجه إلا نحو مزيد من الانحدار والفقر والبطالة وسوء توزيع الثروة الوطنية ، وبالتالي اتساع حالة اللااستقرار وانعدام السلم الاجتماعي، فالمنهج المتبع يقود البلاد والعباد لا محالة إلى الهاوية ووقف هذا الانحدار مرتبط باستراداد الأموال المنهوبة و تطهير دواليب الدولة من الفاسدين ومصادرة أموالهم التي تمت مراكمتها بطرق غير مشروعة، فهذه الإجراءات العاجلة مقدمة ضرورية و حتمية لأي إصلاح سياسي أو إقتصادي أو اجتماعي جدي و حقيقي ..و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون…

إعلامي و أكاديمي متخصص في الإقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة…

Source: Raialyoum.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *