د. عبد الحميد فجر سلوم
1ــ
من حقنا أن نحتفل بالذكرى 48 لِحرب تشرين التحريرية (أو حرب رمضان وحرب العبور كما يُطلِقون عليها في مصر) التي حطّمت الغرور الإسرائيلي، وأسطورة الجيش الذي “لا يُقهَر” وتحصيناته.. ورفعتْ معنويات شعبنا السوري، وشعوبنا العربية، عالية فوق عنان السماء..
لم تكن حرب تشرين مجرّد حربٍ بين الجيش العربي السوري، الذي سطّر بطولات خلّدها التاريخ، وبين جيش العدوان الإسرائيلي، وإنما حربا شارك فيها كل سوري، وكلٍّ من موقعهِ، وهو يتفانى في عملهِ وإنتاجهِ وانصهار أبناء الشعب خلف الجيش كما لو كانوا كتلة نارٍ متوهجةٍ في بوتقةٍ واحدةٍ، ملتهبة بمشاعر العز والفخار واستعادة الكرامة، وهم يتابعون انتصارات جيشهم.. حتى الباعَة على العربات كانوا يبيعون ما تحملهُ عرباتهم بأسعار التكلفة، وأحيانا أقل، وأحيانا مجّانا، كما كان يفعل بائع الموز في حي الشيخ سعد، بأول طلعة المشفى العسكري، فرَحا منهم بالانتصارات التي كانوا يزهون بها.. لم نرى الاحتكار والجشع والطمع والاستغلال، الذي نراهُ في هذا الزمن.. لماذا تغيّرت البشر؟. ما الأسباب؟. ما هو التحليل؟.
2 ــ
لن أتحدث طويلا في عُمق تلك الانتصارات ومعانيها، فقد كُتِبت حولها المجلدات.. وعشتُها ميدانيا في تلك الفترة كناشطٍ في اتحاد الطلبة في السنة الجامعية الثالثة، نصلُ الليل بالنهار ودموعنا تنهمر من شدّة الفرح والفخر والافتخار، ونردِّدُ جميعا: اليوم قد خُلِقنا من جديد.. وسورية يا حبيبتي.. ونحنُ نتنقّل في دمشق من مستشفى إلى آخرٍ نزور الأبطال الجرحى، نواسي جراحهم، نعتزُّ بهم، نُقبِّلُ جباههم، بينما هُم كانوا حقيقة من يرفعون من معنوياتنا العالية أساسا، لترتفع أكثر وتحاكي عنان السماء والنجوم.. لا استطيعُ أن أصفَ تلك المشاعر في تلك الأوقات، لاسيما أن ثلاثة أخوة لي كانوا في أخطر جبهات تلك الحرب: ضابط في القوات الخاصة على مرصد جبل الشيخ، وضابط طيار يُحلِّق كما النسور ليحمي سماء الوطن ويتصدّى للعدو الغادر، وثالثٌ صف ضابط مُجنّد في إحدى القِطع المتقدمة على الجبهة.. كان شعوري أنّ كل عسكري في تلك الحرب، ضابط وغير ضابط، هو بمثابة أحد تلك الأخوة.. هكذا كانت المشاعر الوطنية، الجميعُ أهلٌ وأخوة..
لم نتمالك أنفسنا ونأوي للملاجئ، أو نبقى حتى داخل البيوت حينما كانت تندلع صافرات الإنذار في إشارةٍ إلى غارةٍ إسرائيليةٍ غادرة.. بل ما إن نسمع صوت الصافرة حتى نخرج حالا إلى الأسطح، خلافا لكل التعليمات، ونرى سماء دمشق تتلوّنُ بألوان النار واللّهب والدخان، وصواريخ سام 6 التي كانت مفاجأة الحرب، تُدمِّر طائرات العدو وتتساقط كما العصافير.. كمْ كنتُ استمتعُ بذاك المنظر من فوق سطحِ بيتنا في حي الشيخ سعد بالمزّة، حينئذٍ..
3ــ
أكّدتْ تلك الحرب أن تضامن العرب فيما بينهم، يصنع المعجزات.. وفي تلك الحرب تحققت المعجزات.. انكسر جدار الخوف والرهبة وهيبة العدو.. وحينما تتحرّر من كل ذلك، فأنتَ تُخلَقُ من جديد..
ولكن بالمقابل: لماذا لم نستطع أن نحافظ على معاني ومكتسبات حرب تشرين؟
لماذا بدا الانهيار على الصعيد العربي، وعلى الصعيد الداخلي بعد تلك الحرب؟
لماذا لم نستطع أن نستثمر في نتائج تلك الحرب ونبني عليها؟
لن أخوض في جانب الانهيار على الصعيد العربي الذي وصل إلى مرحلةٍ يندى لها الجبين، من التطبيع والصداقة وتبادل الزيارات والتبرُّك بالإسرائيلي والحاخامات، كما لو كانوا طيلة عمرهم أشقاء للإسرائيلي ويتسترون على ذلك، أو أنهم اعتنقوا اليهودية بدل الإسلام ويخفُون ذلك.. وتناسوا فلسطين والقُدس والأقصى وخضعوا بالكامل لمشيئة وإرادة الإسرائيلي..
ولكن لماذا لم نحافظ على مكتسبات تلك الحرب ومعانيها ونتائجها، ونبني عليها على الصعيد الداخلي؟
لماذا ذهبت الدولة إلى اتجاهٍ مُغايرٍ تماما لاتجاه حرب تشرين؟. لماذا غالبية مسؤوليها انغمسوا في سلوكياتٍ وممارساتٍ بعيدة بالكامل عن قدسية حرب تشرين، هُم وأبناؤهم وأقاربهم وأهاليهم؟
لماذا انحدر الاتجاه نحو الفساد والإفساد وتكديس الثروات بكافة الأشكال الممكنة، ونحو حياة البذخ والتّرف، والجولان ما زال يصرخ، وفلسطين وقدسِها وأقصاها تئنُّ تحت حِراب الاحتلال؟
لماذا لم نتّجِه لبناء دولة مؤسسات وقانون وعدالة وتكافؤ فرص، ونحو التطوير والتحديث والنمو؟. لماذا سمحنا للسوس أن ينخر في جسد الدولة والمجتمع أمام أعيننا، ولم نكافح ذلك بكل صرامةٍ وقوةٍ وعزيمةٍ وبأحكامِ الإعدام لكل سارق وفاسد ومرتشٍ ومهرِّب ومتلاعب بلقمة عيش البشر؟. ألمْ يكُن كل ذلك تفريغا لحرب تشرين من معانيها السامية والمقدّسة؟
لماذا كان خطابنا الإعلامي بعيدا عن جوهر الأمور وحقيقتها؟. لماذا كنا نتغنى بتلاحُم الجماهير خلف قياداتها بينما كنا نعيش بونا شاسعا بين القيادات والجماهير، وكان هذا البون يتّسعُ دوما، إلى أن وصنا لمرحلة لم يعُد المسؤول يرى الناس أمامهُ أكثر من حشراتٍ صغيرةٍ لا معنى لها؟. طبعا الكلامُ ليس عامّا..
هل لنا أن نتخيّل اليوم أنّ من تلك القيادات التي كان الإعلام يتحدثُ عن الانصهار بينها وبين الجماهير، وتلاحم الجماهير خلفها، هي من غادرَ بعضها إلى باريس وأمريكا ليعيشوا بقية عمرهم يتنعمون بالمليارات التي جمعوها( من كدِّهم وتعبهم وعرق جبينهم) ثم لِيموتوا هناك ويُدفنون في تراب أراضي الإمبريالية، التي أشبعوها ضربا وشَتما وهجوما ونقدا وعداءً في الخطابات والتصريحات والمهرجانات، ويحمل أولادهم جنسياتها ويعيشون فوق أراضيها بعيدين عن تراب وطنهم..
حتى أولادهم لم يقتنعوا بمصداقية خطابهم.. ولذلك تمسكوا بالعيش في بلدان الإمبريالية..
لماذا تحولت الدولة مع الزمن إلى إقطاعيات ومزارِع وإلى أسيادٍ وأشباهِ عبيدٍ وتحت ظل الحزب ذاتهُ (حزبيْ الذي انتسبتُ إليه منذ العام الدراسي 1968 ـ 1969) والذي ما زال يرفع شعارات الاشتراكية والعامل والفلاح والفقير والكادح نظريا، ولكنهُ ابتعد عن كل ذلك عمليا؟..
لا أتحدثُ هنا عن عُشرية الحرب الحمراء والسوداء الأخيرة، وإنما عن عقودٍ سبقَتها.. لماذا أصبحت شريحةٌ ضيقةٌ للمناصب والمكاسب، وشريحة واسعة للتضحية وحياة الفقر والعَوز؟. لماذا غرقت البلد بثقافة المُحاباة والمحسوبيات والتنفيع والولاءات الخاصة وغابت فيها معايير العدالة وتكافؤ الفرص وعدم وضعِ الرجُل المناسب بالمكان المناسب وأصبحت الواسطة والدّعم هي أساس كل شيء، وليس المؤهلات والخبرة والكفاءات والتراتُبية والأقدمية ونظافة اليد والتضحية والنضال الحزبي والشعبي؟. وتعمقت العصبيات الدينية والطائفية والمذهبية؟
لماذا بات لدينا هذه الفوارق الطبقية الهائلة ونحن ما زلنا نرفع شعار الاشتراكية؟
ألف لماذا ولماذا، ولا جوابا على واحدة..
4ــ
نُدرِك أن الأعداء يتربصون دوما ببعضهم، وسورية لها أعداء، وقرأنا عن مخططاتهم التي نشروها علنا وبلا خوفٍ وحذرٍ، في تفتيت المُفتّتْ، عن طريق الصراعات والحروب الدينية والطائفية والمذهبية والعُرقية.. لماذا نجحت مخططات الأعداء ولم تنجح مخططاتنا في القضاء عليهم، أو على مخططاتهم؟.
كم هو مُحزنٌ اليوم حالُ سورية، وحالُ شعبها؟
كنا نرفض اتفاق سايكس ــ بيكو الذي فتّتَ سورية ونغرس في أذهان الأجيال المتتابعة أن هذا الاتفاق يجب أن ينتهي وتعود سورية كما كانت.. اليوم نعيش حالة تفتيت المُفتّتْ.. وطموحنا هو الحفاظ على حدود سايكس ــ بيكو..
لقد تحدثتُ بالماضي عن مساحة الأراضي الخارجة عن سيادة الدولة السورية، وسأعيدُ التطرُّق إلى ذلك، كي يعي الجميع الحالة الخطيرة التي آلت إليها أحوال بلدنا..
سورية الموروثة عن سايكس بيكو كانت مساحتها 185,180 كم2 ..
ما تزالُ إسرائيل تحتلُّ 1250 كم2 حتى بعد اتفاقية فكْ الاشتباك عام 1974 ..
تُسيطرُ ما يُعرفُ بـ “قوات سورية الديمقراطية” على ثُلث مساحة سورية، التي تحوي غالبية ثروات الوطن.. أي أكثر من 60 ألف كيلو متر مربع..
تحتلُ تركيا 8835 ألف كيلو متر مربع.. وتَتّبعُ فيها سياسة التتريك بهدفِ سلخها نهائيا عن الجسد السوري، كما فعلت في اسكندرون..
واستقلّتْ محافظة إدلب (حتى اليوم) ومساحتها 7700 كيلو متر مربع وتحولت إلى إمارة إسلامية..
لو جمعنا هذه الأرقام لَبَلَغَ المجموع 77,785 ألف كيلو متر مربع خارج سيادة الدولة.. فيبقى تحت سيادة الدولة في الوقت الراهن 107,395 كيلو متر مربع.. ( الأرقام من الإحصائيات الرسمية ومن محركات البحث)..
نأمل أن لا يطول هذا الوضع أكثر من ذلك، حتى لا يترسّخ كأمرٍ واقعٍ، وأن تعود كافة الأراضي السورية إلى سيادة الدولة، ويرحل كافة المُحتلين والمُعتدين حتى نحتفل بالنصر النهائي ورؤوسنا مرفوعةٌ فوق السماء.. وهنا يخطرُ ببالنا أسئلة عديدة:
ما هي الرؤية والخُطط والمشاريع لإعادة توحيد الأراضي السورية؟
ما هي الخُطط والمشاريع لطرد المحتل التركي والأمريكي؟
ما هي الخُطط لاستعادة الجولان السوري المحتل؟
لماذا يطالب الروسي بخروج الأمريكي ويتجاهل وجود التركي؟
لماذا لم تُعلَن أية تفاصيل عن نتائج لقاء الرئيسين التركي والروسي في سوتشي يوم الأربعاء 28 أيلول 2021 الذي كان مُخصّصا في جُلِّهِ لمناقشة الوضع في سورية وفُرص الحل السياسي، واكتفوا بالتصريحات العامّة الروتينية والمجاملات؟
أينَ نحنُ اليوم كسوريين من تقرير مصير ومستقبل بلدنا؟. كيف سنخرجُ من هذا المستنقع الخطير، ومتى؟
أعرفُ أن المؤامرة كبيرة وخطيرة، وأننا تعودنا دوما أن نلقي بكل شيء، كل شيء، على المؤامرة، ولكن ألا
نتحمّلُ نحنُ أية مسؤولية من أي نوع؟
المؤامرة موجودة بالتاريخ، ولكن ليس كل التاريخ مؤامرة.. هذا خطابُ الهروب للأمام والعجز عن مواجهة الواقع، والتنصُّل من المسؤولية..
هل استفدنا وتعلمنا من كل ما حصل وأننا بحاجة إلى آلياتٍ ونهجٍ ومقارباتٍ مختلفة بالكامل في قيادة وإدارة الدولة والمجتمع، والقطيعة مع كل أساليب وآليات الماضي؟.
5 ــ
تحية لحرب تشرين، وتحية لكل من شاركوا بها وحافظوا على معانيها، ولم ينغمسوا لاحقا بوحولِ الفساد والإفساد واللصوصية والرشوة والتهريب، أو استغلال المنصب والنفوذ في سبيل الثراء وجمعِ الثروات والأموال.. وهم بذلك أفرغوا الحرب من كل معانيها واغتالوا كل نتائجها..
كاتب سوري ووزير مفوض دبلوماسي سابق
Source: Raialyoum.com