د. طارق ليساوي
في الواقع أني من المؤمنين بالمثل الشعبي” الضرب في الميت حرام” ، لأني منذ أن غرقت إلى عنقي في مهنة المتاعب الصحافة و الإعلام، كمقاول بداية ثم كاتب رأي فيما بعد، من القواعد التي وضعتها للمؤسسة و لنفسي أني لا أتعرض بالنقد و الهجوم على المتوفي و المسلوبة حريته و المهزوم أو المظلوم..بل على العكس أدافع عن حقوقه حتى و إن إختلفت معه أو على الأقل ألتزم الصمت ، و قد يلاحظ البعض أني لم أكتب و لو كلمة بالنقد أو التجريح أو الاتهام لحزب العدالة و التنمية أو قياداته، بل إني إتخدت موقفا مدافعا عن حقهم في التواجد و أيضا عدم المس بقياداته بالسب و القدف و التهكم…فقد انتقدتهم عندما كانوا في الحكومة و في أوج عنفوانهم، عندما كان أغلب من يتكالب عليهم اليوم من صحفيين و إعلاميين ومثقفين و سياسيين، يسعى باليوم و اليومين و الأسبوع و الأسبوعين لإجراء لقاء مع برلماني في الحزب…
لكن للأسف البعض يريدك أن تدافع عن معركته الشخصية أو الحزبية.. بينما هو إختار الصمت و المهادنة، و عندما كان في السلطة “قلب الجيلي و بدل الهاتف”، و ما أثار إنفعالي و إستغرابي حقا، أن أحد الزملاء المنتمين لنخبة الحزب و في سياق نقاش، على خلفية لقاء صحفي مع إحدى القنوات الفضائية عربية، عندما قمت بتحليل علمي و أكاديمي موضوعي و محايد، لبعض الأسباب الموضوعية التي جعلت الحزب ينزل من الرتبة الأولى إلى الرتبة الثامنة، أي تراجع بنسبة 90٪ على مستوى البرلمان و حوالي 80٪ على المستوى المحلي، رد علي الرجل بشكل إستفزازي معتبرا أن موقفي متحيز، بل و حمل المقاطعين مسؤولية الهزيمة التي لحقت بالحزب في مجانبة واضحة للصواب، كما لو أني زعيم لحزب المقاطعة ، بل و أضاف أن خيار الحزب هو ممارسة المعارضة من الشارع و الإلتحام مع القوى الوطنية الحية في الشارع، و موقفه هذا دفعني إلى الرد بسؤال هل هذا الشارع لم تتذكروه إلا بعد 8 شتنبر؟
فطيلة عقد من الزمان شاركتم في إطفاء نور الأمل في التغيير الحقيقي و الجاد و الأمن ، بمناسبة حراك 20 فبراير، حرصتم على تنفيذ سياسات لا شعبية أفقرت الطبقة المتوسطة، أما الفقراء أصلا فهؤلاء حالهم لا يعلمه إلا الله، عاديتم حرية الرأي و التعبير ، ففي عهدكم تزايد عدد معتقلي الرأي و الإحتجاجات الشعبية، لستم مسؤولين –ممكن- لكن لولا صمتكم و سكوتكم لما تم التمادي في هذه السياسات القمعية… لا أريد الشخصنة فانا شخصيا تعرضت للخذلان من جانبكم عندما تم الضغط على مؤسستي لوقف بث قناة فضائية من لندن، بعد تعرضها لإحتجاج من دولة قمت بالتطبيع معها فيما بعد، دعوكم مني و من مؤسستي حتى لا نغرق في شبهة الشخصنة…
ألم يتم بأيديكم تنفيذ أبشع السياسات الاقتصادية و الاجتماعية؟ ، ألم يتم بأيديكم إغراق البلاد في المديونية، و إرتفاع منسوب الأموال المنهوبة و المهربة من البلاد؟ لا اتهمكم و لكن أوجه لكم إتهام السكوت و الصمت، و الساكت عن الحق مشارك في الجرم ، لو تكلمتم و خرجتم للشارع في حينه لتغيرت كثير من المعادلات…
مصلحة الوطن لستم انتم وحدكم من تعلمونها و تعرفونها، بدورنا عندما نقاطع فإننا نرى في ذلك خدمة للوطن، لعل و عسى يدرك الحاكمين الفعليين أن 60 ٪من الكتلة التي يحق لها التصويت رافضة للمشاركة في انتخابات شكلية و في إختيار أحزاب و قيادات فاسدة ، ففلسفة المقاطعة هي عدم إعطاء شرعية لممارسات تضر بالوطن و أبناءه…نعم قد يبدو هذا فكر ساذج وطهرانية سياسية ، لكن هذه النية و البساطة هي التي جعلت المغاربة يراهنون عليكم منذ ما قبل حتى 2011 ، عندما كنتم تعدوهم بعدل الفاروق، و لما لم يروا منكم عدل الفاروق نبذوكم ..
ندرك بموضوعية شديدة، ان الخاسر الأكبر يوم 8 شتنبر هو الشعب المغربي بدرجة أولى، فالظرفية المحلية و الإقليمية حبلى بالتحديات و المخاطر، و كانت المرحلة –بنظري- تحتاج توافق وطني و سعي باتجاه حكومة إنقاد و طني أولويتها وضع خريطة طريق للخروج من قوس الأزمات الاقتصادية و الاجتماعية بل و حتى الدبلوماسية، نعم تضرر حزب العدالة و التنمية، لكن مهما يكن فالحزب بإمكانه إعادة ترميم صفوفه ، لكن وجه تعاطفنا مع الحزب هو أن معاقبة الحزب لم يكن منبعها فساد قياداته و مناضليه ولا لاستعمالهم المال الحرام، ولكن لبلادة استراتيجياتهم المستقبلية وعجزهم عن التفريق بين مصلحة الوطن و بين انغماسهم و اصرارهم على الاصطياد في الماء العكر يتحالفون مع الشيطان و يرمونه بالحجارة …و لعل البلوكاج الحكومي 2016 كان مؤشر واضح على أن تحالفات الحزب و رهاناته كانت في غير محلها…
و مع ذلك ، تم التخلي عن السيد بنكيران و استبداله بأمين عام جديد السيد سعد الدين العثماني ليترأس الحكومة ، كما لو أن الأمر يتعلق بمباراة كرة قدم تم استبدال لا عب بلاعب ، و قد كانت العهدة الثانية لحزب العدالة والتنمية في الحكومة والأولى للعثماني في قيادتها، صعبة على مختلف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والاقليمية والدولية، تراجع فيها بريق الحزب وأصبح دوره ثانوي جدا، في مقابل عودة المؤسسة الملكية لتصدر المشهد و صعود نجم وزراء التكنوقراط، و أصبحت الحكومة مكون هجين في غياب واضح لمفهوم التضامن الحكومي، فشركاء في الحكومة ينتقدون أداءها في وسائل الإعلام وهم جزء أصيل منها، فالسيد أخنوش هو رئيس الحكومة الفعلي منذ 2016 …
لكن السذاجة السياسية لقادة حزب العدالة و التنمية أو سكرة السلطة و المناصب منعتهم من الإدراك أنهم ينتحرون سياسيا و شعبيا، عندما جعلوا من أنفسهم أداة لتنفيذ سياسات معادية للشعب و معادية للقيم التي يؤمن بها الحزب و أعضائه، و هذه الاستراتيجية قامت على مجموعة دعائم أهمها :
أولا – دفع الحزب إلى تحمل كل السياسات اللاشعبية و من ذلك مثلا : – تم توقيع إتفاق التطبيع مع الكيان الصهيوني من العثماني نفسه نيابة عن كل أفراد حزبه، رغم أنه لم يكن من مهندسي الاتفاق و لم يكن يعلم به أصلا… – فرنسة التعليم، و- تقنين إنتاج ” القنب الهندي” علاوة على تنازلات أخرى كثيرة..
ثانيا – حملة إعلامية ممنهجة لشيطنة الحزب و تصغير و تسفيه قياداته، فمثلا أصبح العثماني يوصف ب “البكماني”، و الجميع يعلم وخاصة أهل مهنة الإعلام و الصحافة و المثقفين أن الحكومة في النظام السياسي المغربي لا تحكم بالفعل، و تبعا لذلك، أصبح العثماني هو رأس المصائب و حزبه أس الفساد، في تجاهل واضح لمفهوم التضامن الحكومي و أن الحكومة هي أصلا حكومة ائتلافية مشكلة من أكثر من حزب، و زعيم باقي أحزاب الأغلبية -من غير العدالة و التنمية- هو السيد أخنوش الذي تولى قيادة المشاورات مع بنكيران و العثماني… فالإعلام لعب دور سلبي جدا و لم يكن محايدا بالمطلق فقد ساهم بشكل ممنهج في شيطنة الحزب و قياداته و في والتعتيم على كل إنجازات حكومة العثماني و إنجازات المجالس المحلية و المدن التي كان يشرف على إدارتها حزب العدالة و التنمية، فالواقع يؤكد أن البنية التحتية في مغرب 2021 ليست هي نفسها التي كانت في 2011، هناك تحول إيجابي لا يمكن إخفاءه أو إنكاره …
و علينا الإقرار أيضا أن هذا الاعلام يخدم أجندة خفية تأكدت في شتنبر 2021، و كان ممولا من قبل رجال أعمال فاسدين ، و ربما أيضا تم الاستعانة بالبيترودولار و خزائن بعض البلدان الخليجية المعادية للتيار الإسلامي…
من المؤكد أن حزب العدالة و التنمية دفع ثمن أخطاءه السياسية و رهاناته الخاطئة ، فكانت النتيجة الخسارة مدوية وعميقة أبعدته عن التراجع الطبيعي و العادي للأحزاب التي تتولى تسير الحكومات في وضع اقتصادي صعب، بل و حرمته من إمكانية ممارسة المعارضة من داخل المؤسسات الرسمية، بل و حرمته من إمكانية العودة للحكم بشكل طبيعي في 2026 ، ما حدث لا يمكن إعتباره تصويت عقابي بالمجمل، فأن يحصل الحزب على 4 مقاعد برلمانية و لولا القاسم المشترك على أساس المسجلين و ليس المصوتين لكان هذا هو نصيبه من الكعكة البرلمانية…
ارجوكم كفى تضليلا لأنفسكم ، فبداية العلاج هو الإعتراف بالخطأ و الإعتذار عنه ، و تغيير كل الوجوه التي كانت لها يد في ما حدث طيلة العشرية السوداء، و بما في ذلك السيد بنكيران الذي أحترمه كشخص،ولكن هو أول من يتحمل المسؤولية في الإضرار بمصلحة الوطن ، مصلحة الوطن كانت في محاسبة ناهبي المال العام لا التحالف معهم، مصلحة الوطن كانت في تبني سياسات تدعم السلع العمومية الحيوية الصحة و التعليم ، مصلحة الوطن كانت في فصل سلط حقيقي، مصلحة الوطن كانت في منع زواج السلطة بالمال، مصلحة الوطن بكل تأكيد كانت مغايرة لإختياراتكم…
و الواقع أني عندما ارغب في فهم الأحداث بموضوعية و بعيدا عن التضليل و التزييف، أعود لكتابات و محاضرات المرحوم المنجرة .. فمن مقولته المعبرة و الدالة بصدق عن واقعنا في شتنبر 2021 ، قال :” أنا الآن كمغربي أحس أنني كَمُسْتَعْمَرٍ أكثر مما كنت عليه قبل استقلال المغرب، أولا لأن الوسائل لم تكن أقوى مما هي عليه الآن، والمعرفة لم تكن متطورة مما هي عليه الآن، فحيثما ذهبت في بلادي أحس أن مستقبلي مرهون بيد الآخرين (…. ) مشكلتنا أن هناك خونة، هناك غياب للضمير في مُسَيِّرِينَا ببلداننا النامية، هم السبب الرئيسي فيما حَلَّ بنا الآن، وهناك نخبة باعت نفسها، هناك مرتزقة باعوا أنفسهم لأنهم مشاركون في اللعبة فاعلين ومستفيدين، إلى أين؟ كأننا في بورصة، هذا تشتريه بسيارة وفيلا، وذاك بكتابة دولة، وهذا بعامل لإقليم، وهذا بحقيبة وزارية، وذاك بسفارة.. “
فأما العودة إلى الشارع أو المعارضة ، فعليكم الأمان و كل انتخابات و أنتم بخير، فالشارع و المعارضة ستظل قوية و موجودة بوجود الحزب أو بعدمه، فمنذ فجر الدولة بالمغرب.. بل منذ فجر البشر على هذه الأرض كانت المعارضة موجودة و قوية .. يقول الله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج:40]…فولولا مواقف المعارضة الحقيقية الصادقة ورجالها الأحرار ونسائها الحرائر ما استطاعت الدولة المغربية إخراج المستعمر الفرنسي او الاسباني او غيرهم.. ولو جزئيا.. إن جيش التحرير المغربي كان قوة حرة غير نظامية.. شأنه شأن الكثير من جيوش المستضعفين عبر التاريخ..
إن لله تعالى جنودا مجندة وراء كل القضايا العادلة وخاصة تلك المتعلقة بتحرير الانسان من قيود الذل والإهانة والإستعباد.. فلا خوف ولا حزن عن المعارضة الحقيقية بالمغرب، هناك رب كريم يعين رجالها من فوق سبع سماوات..
رحم الله رجال العزة والشهامة أمثال الشهيد “علال بن عبدالله” و “الزرقطوني” و”موحا أوحمو الزياني” والشهيد “محمد الشريف أمزيان” الذي واجه من جهة أولى الفتان بوحمارة، ومن جهة ثانية قاوم المحتل الإسباني إلى أن استشهد في 15 ماي سنة 1912م بقبيلة بني سيدال بعد أن باعه إخوانه من قومه وعقيدته إلى جينرالات الإسبان طمعا واسترزاقا.. صحيح أن الطبيعة تكره الفراغ.. لكن الخيانة أكثرها كرها ومقتا..
لقد كان جلوس المدعو “محمد بن عرفة” على كرسي العرش المغربي ( 1953/1955) أشد إيلاما على المغاربة الأحرار من فراغ الكرسي.. ونفي السلطان الشرعي محمد بن يوسف رحمه الله.. وكذلك كان جلوس السيد سعد الدين العثماني على كرسي رئاسة الحكومة والأمانة العامة للحزب بعد البلوكاج الحكومي للعام 2016، جلوسا بطعم الخيانة.. و ختاما نقول : لقد صدق ناجي العلي رحمه الله في نبوءته حين قال : ” أخشى ما أخشاه أن تصبح الخيانة وجهة نظر” … و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون..
إعلامي و أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية والسياسات العامة..
Source: Raialyoum.com