دكتور محيي الدين عميمور
دفعت وفاة الرئيس السابق عبد العزيز بو تفليقة إلى سطح سيول التعاطف الواعي بزبدٍ، رأيت من الضروري أن أتوقف أمامه لحظات لأوضح معطيات لعلها غابت عن ذاكرة كثيرين، والنسيان من صفات الإنسان، كما يُقال.
فعندما لاح فجر استرجاع الاستقلال الجزائري في مطلع الستينيات، وانتهت المهمة التاريخية للحكومة المؤقتة بالتوقيع على محادثات إيفيان، أو هذا ما كان مفروضا بعد “انفضاض” مؤتمر طرابلس، حيث أنها لم تكن قيادة للثورة بقدر ما كانت سفارة كبرى تشكل واجهة الثورة وتتفاوض مع العدو باسمها. (ولعلي أذكر هنا أنه وطوال المحادثات الجزائرية الفرنسية التي قادها الشهيد كريم بلقاسم، لم يصافح الوفد الجزائري نظيره الفرنسي إلا بعد أن تم التوقيع فعلا على المباحثات، ولم تكن هناك قبلات ولا عناق، ربما لأن القرار كان جزائريا مائة في المائة.)
في تلك المرحلة رأى رئيس أركان جيش التحرير الوطني، العقيد هواري بو مدين، أن واجبه الثوري، كممثل للقوات المسلحة التي كانت تواجه العدو على أرض المعركة، يفرض عليه أن يعمل لكي يتحمل الأحياء من رجال القيادة التاريخية للثورة الجزائرية مسؤولياتهم السياسية في تسيير الدولة المسترجعة، إلى جانب من يرونهم من بقية القيادات في الصفوف التالية، وكان أمامه القادة الخمسة، رابح بيطاط ومحمد بوضياف ومحمد خيضر وحسين آيت أحمد وأحمد بن بله، وكانوا نزلاء قلعة “أولنوا” الفرنسية، وهكذا أرسل بو مدين سكرتيره الرائد عبد العزيز بو تفليقة إلى محمد بو ضياف، ربما من منطلق أنه كان منسق مجموعة الـ22 التي أعدت للثورة، وأحد ثلاثة أخذوا الخطوات الأولى نحو أول نوفمبر 1954 (بجانب أحمد بن بله وعلي مهساس) وعُرِض على الزعيم الجزائري أن يتقدم لقيادة المسيرة.
كان بو ضياف مناضلا وطنيا أصيلا، وكان اسمه الثوري هو ” الطيب الوطني”، لكن تصرفاته آنذاك، بل وفيما بعد، أثبتت أنه لم يكن قادرا عن الانسجام مع منطق الدولة ومتطلباتها، حيث رفض العرض بحجة أنه، كما رُويَ، لا يريد أن يكون رهينة في يد العسكريين، لكنه نسيَ أنه كان بعيدا لنحو ستّ سنوات عن تطورات الأحداث في الساحة الثورية، لدرجة أن كثيرين لم يكونوا يعرفون عنه الكثير، وأهمل جانبا أساسيا من متطلبات التعامل مع الواقع، حيث أن توازن السلطة لم يكن ولن يكون في صالح أي قائد سياسي إذا تناقض مع القوة الرئيسية المنظمة التي تتحمل مسؤولية القيادة الفعلية لقوات الثورة المنظمة والمنضبطة، وهي الجيش.
وبرغم أنه لا وجود في المنطق السياسي لكلمة “لوْ”، فإن استعمالها هنا ضروري في إطار التحليل السياسي البَعديّ للحدث، وبغض النظر عن أن بو ضياف قبـِـل، في 1992، وضعية كانت أسوأ بكثير من الوضعية التي كان قد رفضها قبل ثلاثة عقود.
وهكذا يمكن أن أتصور أن الأمور كانت ستأخذ منحىً أخرَ “لو” استعرض بو ضياف الأمر مع زملاءه الأربعة، وأحمد بن بله بوجه خاص، بوصفه أهم الوجوه المعروفة دوليا، وآخرين من أمثال مهساس وأيت أحمد وبن طوبال وكريم بلقاسم وعبد الحفيظ بو صوف وربما بن خدة وأحمد توفيق المدني وعبد الحميد مهري وغيرهم ليقترح عليهم أن يكونوا إلى جانبه في المرحلة الجديدة الذي استدعته أركان القيادة العسكرية لقيادتها.
وكان يمكن لبوضياف أن يُحدد مجموعة من الشروط التي يجب أن تقبل بها رئاسة الأركان لتتفاعل إيجابيا مع ما تتطلبه المرحلة، أي بناء تحالف سياسي تكاملي ينسجم مع القاعدة الرئيسية للثورة، وهي أن الجميع مناضلون في جبهة التحرير الوطني، منهم من يرتدي الزي المدني ومنهم من يرتدي الزي العسكري.
وهكذا تنطلق الدولة المستقلة بقيادة جبهة التحرير الوطني، حيث يكون الجيش الوطني عمودها الفقري، والقيادة التاريخية قاطرتها السياسية، والمجاهدون العائدون إلى مجرى الحياة المدنية ضميرها ومحركها ومجموع العاملين في الحقل الوطني أداتها.
ولا أعرف ما إذا كان كلّ القادة في السجن قد استشيروا في الأمر، لكن بن بلة فهم الوضعية تماما عندما طرح عليه بو تفليقة الاقتراح بعد رفضِ بو ضياف، ولن أتوقف كثيرا عند ما تَردد من أن بو تفليقة كان يشعر بتعاطف تجاه بن بله، لأنه من المنطقة الجغرافية التي ينتمي لها، لأن هذا لا يُغيّر من الأمر شيئا.
وانطلقت الجزائر على درب الاستقلال بعد مخاض لم يكن سهلا، وأجهِض التناقض بين مجموعتي “تيزي وزو” و”تلمسان”، التي كسبت المعركة بفضل تحالف نضالي واسع بقيادة بن بله وخيضر وبتعاون فرحات عباس وآخرين، وبدعم قوات جيش التحرير الوطني، الذي سيحمل اسم الجيش الوطني الشعبي.
وبدا للجميع بأن الحلف الاستراتيجي الذي نشأ بين أحمد بن بله وهواري بو مدين خلال الشهور الأولى من استرجاع الاستقلال سيحقق التكامل المرجو بين المؤسسة السياسية والمؤسسة العسكرية، في إطار نفس المفهوم الذي انطلقت به جبهة التحرير الوطني.
لكن تناقضا جديدا بدأ يتفاقم بين رئيس الجمهورية ووزير الدفاع وسيؤدي إلى انهيار التحالف الاستراتيجي بينهما، وكان ذلك في الواقع أمرا إنسانيا لا يمكن تجاهله بقد ما كان أهم عثرة واجهت جزائر الاستقلال.
كان بن بله، ولنحو ست سنوات، كزملائه الأربعة، بعيدا إلى حدّ كبير عن مسار الثورة منذ اعتقاله في 22 أكتوبر 1956، وكان بالتالي بعيدا عن التطورات التي عرفتها الثورة، ومن أهمها نتائج مؤتمر الصومام وشعاراته التي تم إجهاض بعضها في المؤتمر التالي للجبهة، الذي احتضنته القاهرة في 1957 بعد “استشهاد” عبّان رمضان، وانتهى بذلك التناقض بين الداخل والخارج والعسكريين والمدنيين.
لكن وضعية بو مدين كانت مختلفة تماما، إذ كان جزءا من الأحداث فاعلا فيها ومؤثرا عليها، وكان يرتبط بكل القيادات الميدانية التي تسيطر على مجريات الأمور.
ووقف بو مدين وراء بن بله، الذي كان قد اكتسب شعبية دولية هائلة دعمت الشعبية التي عرفها إثر اختطاف طائرته، وأصبح الجميع، في الداخل وفي الخارج، يرونه نظيرا للقيادات العالمية المرموقة، بدءا بكاسترو ومرورا بعبد الناصر ووصولا إلى تيتو وبورقيبة.
لكن بن بله بدأ يُحسّ بأنه لا يتحكم في كل الأمور، وربما كان حوله من زكّى لديه هذا الشعور، وبعد التخلص من عباس فرحات من خلال التناقض حول التعامل مع الدستور ومن محمد خيضر كقائد للتنظيم الحزبي، لم يعد سرّا أن بن بله بدأ يعمل على “قصقصة” أجنحة بو مدين، وبدأ الأمر باستفزاز وزير الداخلية أحمد مدغري ودفعه للاستقالة ثم تحجيم شريف بلقاسم كوزير للتوجيه الوطني وتحويل سلطات الإعلام لرئاسة الجمهورية.
وهكذا وصل المقص في منتصف الستينيات إلى عبد العزيز بو تفليقة، حيث أن نجاحه في تنظيم وزارة الخارجية بالتعاون مع العديد من الإطارات، ومن بينهم عبد اللطيف رجال (وهو ما أشار له تقرير سري رفعته المخابرات الفرنسية للرئيس الفرنسي في ديسمبر 1964 وتم نشره فيما بعد) جعلت الرئيس يُحسّ بأنه قد يكون في المستقبل خطرا عليه، نتيجة سيطرته على كل منتسبي وزارة الخارجية، ومن بينهم قائد الولاية الثانية التاريخية علي كافي، وكان يومها سفير الجزائر في بيروت، ورفض مصافحته خلال حفل أقيم في قصر الشعب، على هامش اجتماع عقده الرئيس مع سفراء الجزائر بهدف تأكيد سيطرته على قطاع الديبلوماسية الجزائرية.
وسيطرة بو تفليقة على السفراء معناها، في نظر بن بله، سيطرة بو مدين عليهم.
ومن هنا طلب بن بله من بو تفليقة أن يلتحق برئاسة الجمهورية كمستشار، مطبقا التعبير البريطاني القائل “إركله إلى أعلى”، وأصبح واضحا أن الخطوة التالية ستكون التخلص من بو مدين نفسه، بعد أن قام الرئيس بتعيين الطاهر زبيري رئيسا للأركان في غياب وزير الدفاع الذي كان يقوم بزيارة رسمية إلى موسكو، وكانت القشة التي قسمت ظهر البعير تكوين الميليشيات العسكرية بقيادة محمود قنز، وهو ما رأى فيه بو مدين أرضية حرب أهلية.
وبدا أن بن بله ينتظر اختتام المؤتمر الإفريقي الآسيوي الذي تقرر عقده في منتصف 1965 لينفرد بالسلطة العليا في البلاد، وسمع بو مدين تفاصيل عن ذلك من العقيد علي كافي والذي قال لوزير الدفاع مُحذّرا: الغداء يأتي قبل العشاء، وهو ما سمعته شخصيا من القائد السابق للولاية التاريخية الثانية.
وتجاهلَ بن بله المثل المعروف: “من مأمنه يِؤتي الحذِر”، فبرغم كل الشكوك كان يعتقد أن “وطنية بو مدين ورفاقه ستمنعهم من القيام بأي تحرك يمكن أن يُفسد المؤتمر التاريخي المرتقب”، وهو ما قاله لي عبد العزيز بو تفليقة شخصيا، ومن هنا قرر الرئيس أن يلتهم وزير دفاعه ومجموعته في وجبة العشاء، أي بعد اختتام المؤتمر الإفريقي الآسيوي، ورأى بو مدين أن يستفيد من وجبة الغداء مستفيدا من انشغال الجميع بالتحضير للمؤتمر، وربما استعمل تصوير فيلم “معركة الجزائر” الذي استدعى وجود قوات عسكرية في شوارع العاصمة كغطاءٍ لتحركات الجيش، وهكذا تم عزل أحمد بن بله، ولم يُعقد المؤتمر نتيجة لهذا، وسيعوضه بو مدين بواحد من أهم مؤتمرات عدم الانحياز، وهو المؤتمر الرابع، في سبتمبر 1973، الذي أعطى الحركة عمقها الاقتصادي إلى جانب البعد السياسي.
والسؤال الذي يستعد كثيرون لطرحه، على ما أتصور، هو: أي الرجلين كان على حق في تحركه ضد الأخر؟
وأنا أقول بأن كلاهما كان وطنيا مخلصا صلبا متقشفا مؤمنا بمبادئ ثورة نوفمبر وبالانتماء العربي الإسلامي وبالجزائر كطليعة من طلائع الكفاح المتواصل ضد قوى الشر حيثما كانت وكيف ما كانت، وينطبق عليها مقولة “أميلكار كابرال”: إنها مكة الثوار.
لكن المشكل الحقيقي، في نظري، هو أن قمة الدولة ليس فيها إلا مقعد واحد.
وأتذكر أني قلت يوما للرئيس بن بله في منزله: لقد عملتُ نحو ثمان سنوات إلى جانب الرئيس بو مدين، ولم أسمعه يوما تلفظ ضدك بكلمة سيئة، فأجابني، بما كتبته في حينه: سي “سي” بو مدين رجل وطني.
ولم أسمعه يوما ، ومنذ استرجاع الاستقلال، يذكر بومدين، بدون “سي”، والمغزي يعرفه من يعرفون الجزائر.
رحم الله رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
مفكر ووزير اعلام جزائري سابق
Source: Raialyoum.com