حسن حمدان
هنري ألفريد كيسنجر وُلد باسم هينز ألفريد كيسنجر (27 مايو 1923)، هو سياسي أمريكي ودبلوماسي وخبير استشاري جيوسياسي، شغل منصب وزير خارجية الولايات المتحدة ومستشار الأمن القومي الأمريكي في ظل حكومة الرؤساء ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، هو لاجئ يهودي هرب مع عائلته من ألمانيا النازية عام 1938، أصبح مستشار الأمن القومي في عام 1969 و وزير الخارجية الأمريكي في عام 1973.
ومقالة كيسنجر هذه ينتقد فيها الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، واصفاً إياه بـ”الانتكاسة الذاتية التي لا يمكن أن تعوض”، (والانتكاسة هنا هي لفظة مخففة، يستعملها أي استراتيجي غربي، عندما لا يريد تهويل الحدث الجلل، أو يحاول التقليل من وقع الهزيمة؛ مع أنّ هذا الرجل هو مهندس فكرة انسحاب أمريكا من فيتنام، وكان من الداعين إلى فتح قنوات الحوار مع الصين، غير أنّه لم يتقبل هذا (الانسحاب غير المشروط من أفغانستان من قبل جو بايدن)، وقد طرح في مقاله المنشور في مجلة “ذا إيكونوميست” خيارات وبدائل كان من شأنها أن تخفف من وطأة الانتكاسة، وتحافظ على سمعة أمريكا)، وهنا لا بد من الوقوف على أبرز نقاط المقال :-
1- أخفقت جهود الولايات المتحدة في مكافحة التمرد بسبب عدم قدرتها على تحديد أهداف قابلة للتحقيق،و لم تكن الأهداف العسكرية واضحة بما يكفي.
2- الأهداف السياسية عبارة عن شعارات فضفاضة وغير واقعية.
3- أدى الفشل في دمج الأهداف العسكرية والسياسية إلى توريط الولايات المتحدة في صراعات دون نهايات محددة، وإثارة الكثير من الخلافات على الساحة المحلية.
4- مصدر القلق الرئيسي هو طريقة اتخاذ قرار الانسحاب دون تحذير مسبق أو تشاور مع الحلفاء أو المتعاونين الذين قدموا الكثير من التضحيات على امتداد 20 عاماً.
5- لماذا تم تصوير التحدي الأساسي في أفغانستان بأنه اختيار بين أمرين لا ثالث لهما، إما السيطرة الكاملة على البلاد أو الانسحاب التام؟!
6- أعادت أفغانستان إحياء الخلافات السياسية على الساحة الأمريكية، حيث أن ما كان الفريق المعني بمكافحة التمرد يعتبره تقدّما على الأرض، اعتبره الشق السياسي فشلاً كارثياً، وقد عمل كلا الجانبين على عرقلة الطرف الآخر في ظل الإدارات المتعاقبة من كلا الحزبين.
7- أهملت الولايات المتحدة في ظل تلك الخلافات طرح خطة بديلة تجمع بين كل الأهداف القابلة للتحقيق، وتحوّلت أهداف فريق مكافحة التمرد من العمل على تدمير طالبان بشكل تام إلى محاولة احتوائها.
8- الاستراتيجية التي مكّنت بريطانيا من الحفاظ على مصالحها لقرن كامل أثناء احتلالها لافغانستان عبر المسالك البرية المؤدية من الشرق الأوسط إلى الهند دون قواعد دائمة، بالتعاون مع الحلفاء الإقليميين. ويقصد هنا إهمال الولايات المتحدة التعاون مع الجوار والحلفاء لاحتواء التمرد.
9- الانسحاب كان مأساوياً ومفاجئاً، لا يمكن للولايات المتحدة أن تتهرب من التزاماتها كدولة محورية في النظام الدولي، ولا يمكنها بكل بساطة أن تنسحب وتتجاهل مسؤوليتها التاريخية.
10- أنه لا توجد أي خطوة استراتيجية متاحة في المستقبل القريب لتعويض انتكاسة الانسحاب من أفغانستان، مثل أن تتعهد الولايات المتحدة بمعالجة قضايا جديدة في مناطق أخرى من العالم.
11- أي خطوة أمريكية متسرعة تفاقم خيبة الأمل بين الحلفاء وتشجع الأعداء، وتنشر الارتباك على الصعيد العالمي.
هذه لعلها أبرز نقاط مقالة كيسنجر؛ وهي نقاط جوهرية تتحدث عن مظاهر مشكلة عميقة لم يتحدث عنها المقال، وهي ضعف الاستراتيجيات الأمريكية الحالية نتيجة ضعف التربة السياسية، وهذه برأيي أحد أهم وأخطر النقاط، ويتفرع عنها جميع النقاط، فهو يتحدث عن استراتيجة ضعيفة لم تقرأ الواقع بدقة وانعدمت عنها دراسة تاريخية سواء تعلقت بطول المكث البريطاني آنذاك أو كسر إرادة الاتحاد السوفيتي، وتم حصر الأمر إما بالسيطرة الكاملة أو الانسحاب مع استبعاد فكرة الاحتواء، ومع إشراك الحلفاء ودول الجوار في الحديث عن الخلاف بين المؤسسات الأمريكية السياسية والعسكرية، بل كان كل واحد يعمل جهود الآخر من خلال الإدارات المتعاقبة بين الحزبين، وهذا مؤشر واعتراف واضح حول الانقسام الكبير في الدولة العميقة الذي أخذ يطفو على السطح من خلال أدوات الحكم وأشخاصه، كيف لا؟ وهو يتحدث عن ميزة خطيرة كانت عند الساسة وراسمي السياسيات، وهي وضع أهداف قابلة للتحقيق وواقعية، والآن يتحدث أن الأهداف كانت غير قابلة للتحقيق، وغير واقعية، وشعارات فضفاضة، ودمج العسكري بالسياسي، مع أن العسكري منفذ للسياسي وللهدف السياسي، ثم اتخاذ طريقة انسحاب مذلة أنقصت من مكانة أمريكا، وأفقدتها هيبتها ومكانتها وجعلت منها قوى متغطرسة، وليست محل ثقة عند الحلفاء، وهذه إرهاصات خطيرة ومؤشرات نحو الانحدار السياسي.
إن الولايات المتحدة كإدارة عالمية فقدت التربة السياسية لإنتاج رجال سياسيين قادرين على إدارة العالم، خاصة مع بزوغ قوى جديدة بدأت تطفو على السطح في كل من شرق آسيا وأوروبا، وبعد تولّد إرادة التغيير عند الأمة الإسلامية، والتي أربكت العالم في حركتها، وشابت لحركتها رؤوس الغرب من حكام ومفكرين، وجعلتهم ينطقون بما كان محرماً عليهم ذكره، وليس معنى ذلك أن الولايات المتحدة لا يوجد بها سياسيين –فما زال لديها بقية باقية- فليس هذا المقصود؛ ولكن المقصود أن التربة أصبحت مالحة جداً بحيث لا تنتج رجالاً سياسيين؛ لأن التربة السياسية هي نتاج وجود مبدأ في الحكم، والولايات المتحدة لم تعد دولة مبدئية بمعنى الكلمة، -فالأزمة بالأصل هي أزمة مبدأ- بحيث أصبحت الإدارات الأمريكية تنظر إلى المصالح أنها غاية بحد ذاتها، فإذا تعارضت المصلحة مع المبدأ وَأَدَت مبدأها، وهذا ملاحظ في كل سلوك الإدارات الأخيرة، بحيث أصبحت عقلية رجال الحكم عقلية رجال الخلاف والمصلحة الشخصية وسرقة المال، أمثال ترامب ومن خلفه، وأصبح الكيان السياسي قوى متغطرسة أمثال المغول في التاريخ، وهذا باعتراف أطياف كثيرة داخلية وخارجية، وينبغي عدم التقليل سياسياً من سلبية النظرة لها داخلياً وعالمياً، فأمريكا اليوم كيان قهر وقوة غاشمة وليس دولة إيجابية، وكيسنجر يُحذر في مقاله من تخلي الولايات المتحدة تجاه التزاماتها الدولية، فهي مثلاً احتلت ألمانيا واليابان، لكنها كانت آنذاك دولة يحكمها رجال حكم عمالقة استطاعت أن تحتوي الخطر الألماني والياباني مع بناء نظام ودولة واستقرار، لكنها اليوم ماذا أنتجت في العراق وأفغانستان سوى الخراب والدمار والفساد، ثم تخرج بحجة أنها لم تات لبناء نظام، أي مهزلة تلك التي جعلت من بايدن يقول هذا؟! فهل هذه أمريكا الصعود والارتقاء أم الانحدار والتراجع؟!
إن الحزب السياسي المبدئي الذي أخذ على عاتقه استئناف الحياة الإسلامية بعودة كيانها السياسي والمنبثق عن عقيدتها، كحزب التحرير، سبق وأن بيّن هذه النقاط في أكثر من جواب سؤال وتحليل سياسي من نقاط بدأت تطفو على سطح الدولة الأولى، وكذلك يُراقب الموقف الدولي ليس من باب المتعة وحب التحليل وإنما هو مرتبط بعمله في كونه حزباً سياسياً يتطلع إلى عودة كيان سياسي عالمي يأخذ زمام المبادرة من الغرب ليوظف هذا الفهم في تتابع الكشف والبيان والتحليل والعمل الدؤوب في دول المجال، إدراكاً منه أن ضعف المركز بلا شك سيكون له أثره وتداعياته على العالم الإسلامي وضعف القبضة الغربية على بلاد المسلمين، وإزالة أو ضعف التأثير بلا شك دافع للمخلصين من أهل القوة والرأي لتحديد مواقفهم بدل كمونها في حالة الترقب، خاصة بعدما رأى العالم كيف تخلت الولايات المتحدة عن نظام أقامته وزرعته، وتخلت عن عملاء وأدوات، لتصبح فكرة الارتباط مع الغرب هشة ضعيفة، وتلك الهالة الكبيرة لدول الغرب ضعفت بعدما رأت الانسحاب الامريكي يتتابع بشكل مذل أمام استحقاقات سياسية دولية.
لعل الله ياذن بمرحلة جديدة تعلو فيها راية الإسلام خفاقة من جديد، كما قال تعالى: (…لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ* وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
Source: Raialyoum.com