د. طارق ليساوي
كان في نيتي جعل مقال الأمس “قراءة في نتائج انتخابات 8 شتتنبر: “من الخيمة خرج مايل” خاتمة سلسلة المقالات المتصلة بانتخابات 2021، لكن حدة الجدل الدائر بين تيارين متباينين في رؤى التغيير و الإصلاح بالمغرب ، هو ما دفعني إلى إضافة هذا المقال ،تيار يرى أن مقاطعة العملية الانتخابية هي المدخل الصحيح لبداية التغيير و الإصلاح، و تيار مؤيد للإنتخابات و معتبرا إياها طريق الخلاص و النجاة و بناء المغرب الديموقراطي مغرب الرفاه لكل المغاربة…و لعل ما جذبني لكتابة هذا المقال تعليق لأحد القراء على مقال ” “الإنتخابات المغربية أوهام و أوحال” و المنشور بجريدة رأي اليوم اللندنية، و إختار صاحب التعليق إسم “باحث في الاقتصاد” وقال في تعليقه :
” أستاذي المحترم لماذا مثل هذا الجدل غير مطروح في الديموقراطيات الغربية التي يتم الجمع فيها بين السياسة والتجارة ، حيث يكون فيها المال رافدا للسياسة . فمثلا في الولايات المتحدة تولى رجل الأعمال الميلياردير ترامب رئاسة اقوى دولة في العالم…الايديولوجية الاشتراكية التي تعتبر نقيض النظام الرأسمالي قد فشلت تجربتها وسقطت انظمتها بسقوط جدار برلين. كل الدول النامية تعطي امتيازات للمستثمرين الوطنيين و الدوليين . و من ينجح في مجال المال و الأعمال قد ينجح في السياسة بما سيقترح من مشاريع اقتصادية توفر معايش الناس”…
وصاحب التعليق مؤمن بأن الطريق للخلاص تمر عبر الانتخابات، بل ويرى أن رجال الأعمال أفضل من يديرون البلدان و في ذلك مغالطة، لكن بغض النظر فمن خلال تعليق القارئ المحترم يمكن تسجيل ملاحظتين:
فالقارئ المحترم ليعبر عن رأيه عمل على إختيار إسم مستعار، و هذا في حد ذاته يطرح أكثر من سؤال .. من قبيل الخوف ممن ممارسة حق النقد و الإعتراض، و حتى من يدعم أطروحة النظام السياسي فهو يتحاشى الخروج مباشرة ، و دعونا من الشكل و لنعود إلى الموضوع، فأما الملاحظة الأولى : فنحن في ديموقراطية شكلية و للأسف المجال لا يسمح بإعادة تكرار ما سبق و شرحته، فمنهجيتي فالكتابة أو في المحاضرات تتقوم على منهجية التدرج ، شرح الظاهرة توصيفها ثم البديل..
ففي المغرب لا توجد ديموقراطية و إنما توجد ذلقراطية حكم أوليغرشي، و القارئ لم يقرأ مقالي” الانتخابات المغربية بين الكليبتوقراطية وقانون جريشام”..وهو منشور بنفس الجريدة وقلت فيه ” عندما تكون قيادة دولة ما أو حزب ما بيد أناس يعيشون (بالمعنى الاقتصادي للكلمة) كليا من أجل السياسة وليس من السياسة، نكون أمام نموذج لنظام الحكم “البلوتوقراطي”: وهو النظام السياسي الذي تكون فيه الطبقات السياسية المسيطرة والماسكة بزمام السلطة طبقة الأغنياء وأصحاب الثروات..أو بتعبير أخر الحكم “الأوليغرشي”..و طبعا هذا النموذج لا يمكن وصفه بالحكم الديموقراطي لأنه حكم بيد الأقلية لا الأغلبية..
لكن هناك توصيف أخر ينطبق تماما على الأنظمة السياسية التي لم تنتج إلا الفقر و التخلف لشعوبها (و لك ان تختار أين تصنف المغرب) لأن معايير الاحترافية السياسية في بلداننا هي العيش “مِن” السياسة، ولذلك تكون قدرة وقوة الأحزاب والزعامات السياسية في الاستحواذ والهيمنة على المال العام وموارد الدولة، و يوصف هذا النمط من الحكم ب “الكليبتوقراط” Kleptocracy و هي ترجمة حرفية لنظام حكم اللصوص ويعرف هذا المصطلح في الأدبيات السياسية بأنه :”النظام الذي يسمح بالفساد وسرقة المال العام والخاص من خلال تسهيل استغلال المناصب الإدارية والسياسية من قبل القائمين على مرافق الدولة، ويعبّر عن نظام حكم جوهره الفساد واللصوصية أو نهب الثروات العامة”..
أما الملاحظة الثانية: القارئ المحترم يختم مقاله بالعبارة التالية :”من ينجح في مجال المال و الأعمال قد ينجح في السياسة بما سيقترح من مشاريع اقتصادية توفر معايش الناس”…ربما يعني بها ضمنا السيد أخنوش و الله أعلم، لو كنا بالفعل في بلد ديموقراطية لتمت محاسبته بداية على حادث طحن “محسن فكري” أليس هو وزير الصيد البحري أنذاك ،إذن له مسؤولية سياسية مباشر على تفجر الوضع في الريف المغربي..هذا إلى جانب أنه متهم باستغلال منصبه لتحقيق مكاسب إقتصادية و قضية 17 مليار و التلاعب في أسعار المحروقات ..فلا شيء شغل الرأي العام المغربي أكثر من السجال حول تقرير أعدته لجنة برلمانية عن سبب استمرار الارتفاع المهول لأسعار المحروقات في البلاد، دون باقي الجيران في شمال أفريقيا من غير المنتجين للنفط. فالتقرير أثار جدلاً واسعاً في الأوساط الإعلامية والحزبية والحكومية، بعدما كشف عن «أرباح خيالية» لشركات المحروقات الـ15 في المغرب، وصلت إلى حدود 300%، ما طرح أسئلة حول وجود «لوبي محروقات» متغول ومتحكم في مقاليد السياسة يتجاوز نفوذه الحكومة نفسها…
لسنا ضد الأشخاص و لكن ضد أن نجعل المغرب ضيعة مستباحة، لست ضد الأغنياء لأني بالنهاية و لله الحمد لست فقيرا، ففي قصتي التي سردتها في مقال اوهام أوحال صرحت بانتماءي الاقتصادي…لكن نعارض غياب المساءلة و الإثراء بغير سبب..أما ممارسة التجارة و الإستثمار فهي بنظرنا المكان الصحيح لخدمة المصلحة الخاصة و العامة معا، لكن أن يصبح المنصب أداة لتحقيق مكاسب شخصية فهذا ما نعارضه، نعارض الفساد و استغلال النفوذ لأنه يضر بالمنافسة و الإقتصاد الحر، يضر بمصالح رجال الأعمال الوطنيين ..
و لعل هذه الأسباب هي ما جعلت لتيار مقاطعة الانتخابات شعبية واسعة لدى غالبية شرائح المجتمع، فتوالي السياسات الخاطئة و ضعف التنمية ،و غياب فعالية و شرعية الإنجاز جعل من الانتخابات، و إعادة تدوير نفس الوجوه السياسية و تدوير نفس الشعارات ، غير مقنعة لغالبية المقاطعين، فالمغرب منذ 2016 دخل في دورة أزمات خانقة بدأت بطحن “محسن فكري” بعد أقل من شهر من انتخابات أكتوبر2016، و هاهو اليوم في ذروة أزمة اقتصادية و اجتماعية و صحية خانقة بل و أزمة خارجية مع بلدان الجوار الجغرافي، هذه الأسباب تجعل من مقاطعة الانتخابات –بنظري- شكل من أشكال النضال و ربما الأكثر تأثيرا في الظرف الراهن، و هذه أهم الأهم الأسباب التي دفعتني إلى تأييد المقاطعة ، وهي ذات الأسباب التي جعلتني من داعمي حراك 20 فبراير و مشروعه المجتمعي..
فلسنا من الباحثين عن تحسين الوضع المعيشي أو الإجتماعي، و إنما همنا بناء وطن يصلح لعيش أبناءنا و أحفادنا.. و حتى أكون صريحا وواضحا أنا مع المقاطعة و عدم المشاركة في العملية السياسية بشروطها الحالية، و لا أتكلم من منطلق عاطفي أو ضعف فهم لطبيعة الواقع المغربي، فقبل أن أكون أكاديمي و رجل علم فأنا رجل إعلام و رجل إقتصاد، بمعنى مدرك جيدا لواقع البلاد و ما خفي أعظم، عندما أقتنع بأن هناك إرادة للتغيير و الإصلاح ، فسأكون أولا من يقول نعم، عندما يتم الإعتراف بنا كمواطنين و ليس كرعايا و عبيد سأقول نعم ، و لكي أقتنع بأن هناك رغبة: في التغيير ينبغي البدء من الرأس ، بمعنى ضرورة وضع دستور جديد من قبل هيئة تأسيسية منتخبة من الشعب دستور يضعه الشعب و يحدد فيه دور المؤسسات المنتخبة و السيادية، يحدد بشكل واضح الإختصاصات و فصل السلط و استقلالها عن بعضها، يحدد دور الإعلام و القضاء باعتبارها سلط لمراقبة باقي السلط، دستور يمنع زواج السلطة بالتجارة و يكرس لمبدأ المساءلة و المحاسبة و يربط المسؤولية بالمحاسبة، دستور يعترف بأن صوت المواطن هو من يحدد الاختيارات العامة في البلاد..و قبل ذلك يعترف للمواطن بحق التعبير و المعارضة و النقذ و الحق في الإحتجاج السلمي ..أما و أن الانتخابات في بلد غالبية شعبه يتنفس تحت الماء، أقرب ما تكون لانتزاع الاعترافات تحت التعذيب.. فالركن الأساس في البناء الديموقراطي هو احترام حرية الرأي والتعبير و تصفير السجون من معتقلي الاحتجاجات السلمية ورد الاعتبار لسلطة النقد والمساءلة.. وبعد ذلك لكل حادث حديث… والله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون..
*إعلامي وأكاديمي مغربي متخصص في الاقتصاد الصيني والشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية والسياسات العامة..
Source: Raialyoum.com