أ.د. راقدي عبد الله
أثارت القرارات الأخيرة للرئيس التونسي قيس سعيد والقاضية بإقالة الحكومة وتجميد عمل البرلمان وتوليه مباشرة إدارة المسؤولية التنفيذية لشؤون الدولة التونسية، الكثير من الجدل والنقاش تباين بين الرضا والاستحسان إلى اعتبار ما أقدم عليه بمثابة انقلاب على الشرعية وتراجع على مكتسبات الديموقراطية التي جاءت بها ثورة الياسمين في 2011. وعلى هذا النحو أيضا، أرى أنه من الضروري أن تثار أسئلة حول تبعات ذلك على مستقبل نظام ما بعد الثورة واستقرار تونس.وعليه أطرح الأسئلة التالية: هل يتم التراجع عن النظام البرلماني في اتجاه تبني النظام الرئاسي؟ وهل تسمح القوى التي ساهمت وساعدت في ما يعرف بثورة الياسمين بالتخلي عن مسعى الدمقرطة؟ وهل ينجر عن تبني نظام رئاسي التحول نحو حكم يتسم بالتسلط والاستبداد بما يساهم في إعادة توفير شروط الرفض والثورة؟ قبل الإجابة عن هذه الأسئلة دعونا في البداية نقدم قراءة سياسية لقرارات السيد الرئيس.
قرارات الرئيس قيس سعيد بين الشرعية والمشروعية
بودي أن أشير إلى أنه وقبل تولي الرئيس قيس الحكم في 23 أكتوبر 2019، كتبت مقالين بجريدة رأي اليوم، صدر الأول في 14 أكتوبر 2019 بعنوان، “هل يجسد الرئيس قيس سعيد النسخة القذافية الجديدة،” رأيت فيه عبر تحليل خطابه، أنه معادي صراحة للأحزاب والنظم الحزبية، والمتبني لفكرة السياسة تصنعها الجماهير من خلال العلاقة المباشرة معها في القاعدة، وهذا بانتخاب مجالس محلية يكون لها تمثيل في المجالس الجهوية ومجلس النواب، وهو اقرب لمبادئ نظام القذافي، القائم على اللجان الشعبية المحلية والمؤتمر الشعبي العام، وبعده نشرت مقال ثان في 21 أكتوبر 2019 بعنوان ، “انتخابات الجزائر 1991 وانتخابات تونس 2019 ، سباق متشابه وإخفاق محتمل،” توقعت فيه أن تصل التجربة الديمقراطية التونسية إلى الطريق المسدود، وهذه خلاصته، “في ظل افتقاد الرئيس قيس للوسائل والأدوات التي تمكنه من تجسيد أفكاره وتصوراته في الإصلاح والتغيير بما يساهم في تحقيق آمال وتطلعات شعبه ( لاسيما فئة الشباب)، ستدفع الأحداث في تونس بعد أن يشعر الرئيس أنه وصل إلى ما يراه طريق مسدود، وبعد أن يقدم لائحة اتهامات ضد الأحزاب، ويشكو المنظومة التي جاءت بها ثورة الياسمين، سيتحرك الشعب الذي ليس لديه ما يخسره بعد أن تتفاعل الأحداث في اتجاه حصول ثورة ثانية عنوانها: فليحيا الشعب التونسي وعبره حكم الرئيس الزعيم القائد المنقذ .”
في هذا المقال تفاديت الانخراط في الجوانب القانونية لقرارات الرئيس والتي أخذت نصيب وافر من المعالجة والتحليل، وبلغة أهل القانون ركزت على مشروعية القرارات والسياسات دون الالتفات لمسألة الشرعية التي أكتسبها أولا من انتخابها بطريقة حرة نزيهة. في ضوء ذلك، أرى أن ما أقدم عليه من قرارات والمصلة بإقالة الحكومة وتجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه وتولي مباشرة مقاليد السلطة التنفيذية، كانت مبررة بالنظر للوضع الذي آلت إليه تونس ما بعد الثورة، وبتعبير السيد الرئيس”مخاطر تهدد تونس”.
لقد تحول البرلمان رمز الديموقراطية إلى ساحة تجاذب إيديولوجي حاد وعقيم بين مشروعين متناقضين، إسلامي / علماني، وتمادي الأحزاب في صراعاتها المستنزفة، في ظل انتشار وباء كورونا وعجز السلطات على مكافحته. فضلا على سوء التسيير والإهمال الذي مس المؤسسات الحكومية، فنتيجة لتردي الأوضاع الاقتصادية وزيادة نسبة البطالة والفقر، ازداد السخط الشعبي وارتفعت حدة الاحتجاجات والإضرابات التي مست جل القطاعات.
لقد كان طبيعيا جدا أن تنخرط أحزاب وقوى ما بعد الثورة في صراعات غير واعية من أجل السيطرة على دواليب ومفاصل الدولة في ظل غياب مشروع دولة متفق عليه يجمعهم.. وفي ظل انهماك العالم الشرقي والغربي بمواجهة مخاطر الوباء، وتراجع مستوى الاهتمام بنقل قيم الديمقراطية إلى أدنى درجة في سلم أولويات الدول الغربية، وجد قيس سعيد الظروف مناسبة لاتخاذ قرارات كانت ضرورية . وإذا كانت الظروف الحالية مواتية للإقدام على مثل هذه القرارات، هل تسمح له بوقف حالة التردي والتدهور، أو سوف ينتقل إلى تغيير النظام ليصبح رئاسي؟ وهل يمنع من أن يتحول النظام الرئاسي إلى مركزي تسلطي، وتبعا لذلك يعيد إنتاج ظروف وشروط مأزق العنف والفوضى في المستقبل؟
في تقديري لا تزال البيئة الداخلية رغم عملية الإصلاح والتمدين التي حظيت بها منذ الاستقلال مع الرئيس الراحل بورقيبة بناها الثقافية والاجتماعية التقليدية مساعدة على ازدهار قيم الولاء لغير الدولة، ولعل ما حصل خلال فترة بعد الثورة يؤكد ذلك، حيث أضحى التمكين للحزب والجهة والمنطقة والمدينة على حساب مصالح الدولة . أيضا، على المستوى الدولي تبدو الظروف مواتية لإعادة بعث أنظمة مركزية تسلطية، لاسيما في ظل تفوق الصين اقتصاديا، ونجاحها في إدارة كما مكافحة وباء كوفيد 19 وهي أسباب كافية تجعلها تعتقد بأحقيتها في تسويق نموذجها في الحكم، كما هو الحال بالنسبة للنظام الديمقراطي. أيضا في ظل ازدهار تيار اليسار واقتناع قطاع واسع من الجمهور في المنطقة بعدم جدوى مساعي الديمقراطية علي الأقل في هذه الفترة.
وأخلص إلى أن سياسات الرئيس قيس سعيد ما هي من جهة سوى رد فعل طبيعي على فشل منظومة حكم ثورة الياسمين، ومن جهة ثانية، حنين لبيئة لا تزال تتوفر على شروط الحكم المركزي التسلطي لا الديمقراطي، وللاسف يحصل ذلك، في ظل تراجع أولويات دول المعسكر الغربي الليبرالي ( تأجيل التشديد على شرطية الدمقرطة أزعم أنها لم تكن أصلا بل تستخدم لإبتزاز أنظمة حين تكون مصالح الغرب على المحك )، وحيث لم تعد الشعوب والمجتمعات حكرا على وصفات المنظومة القيمية الليبرالية. وبالنظر للدعم العلني والضمني الذي حظيت به قراراته داخليا وخارجيا، سوف يصل في النهاية إلى هندسة نظام رئاسي مركزي قوي، يستند إلى قيم الولاء والزبونية والمحسوبية, وهي شروط كافية في حال غابت الحرية شرط شفافية الحكم ، لتعيد بعد فترة بإنتاج قيم الرفض التي ستؤدي بدورها لكل مظاهر العنف والدمار تحت عنوان “الثورة.”
أستاذ العلاقات الدولية جامعة باتنة1. الجزائر.
E-mail: ragdiabdlh@gmail.com
Source: Raialyoum.com