طالبان ليست واحدة.. لدينا منها، لحد الساعة.. نسختان

عبدالسلام بنعيسي

نتج عن الهزيمة المنكرة التي تلقتها أمريكا ومعها حلف الناتو في أفغانستان التباس كبيرٌ. جميعُ الذين ابتهجوا بالصفعة التي تلقتها القوات الأمريكية الغازية لبلد إسلامي فقير، يتمُّ اتهامهم بأنهم من أنصار طالبان، وأنهم يؤيدون النمط الرجعي المستبد الذي كانت تحكم به الحركةُ البلدَ ما بين 1996 و2001، تاريخ إسقاطها من الحكم على أيدي الأمريكان. ولاشك في أن هذا الاتهام باطلٌ، وفيه اختزالٌ وتبسيطٌ لواقعٍ معقَّدٍ..

لا يمكن لأي إنسان عاقل إلا أن يعارض ويرفض الصيغة المتشددة والرجعية والغاية في العنف والقسوة التي كانت تسيطر بها حركة طالبان على المجتمع الأفغاني، خصوصا عندما كانت تنسب تصرفاتها القمعية في الحكم إلى الإسلام، فكما هو معروف، فإن الدين الإسلامي الحنيف، دين وسطية واعتدال، وجاء رحمةً للعالمين، وهو دينُ عدلٍ ومساواة، وتسامح، وانفتاح، وتعايش مع باقي الأديان، والثقافات، والحضارات، وهو دين يساير كل العصور، ويتكيف مع كافة المتغيرات..

 ففي وقتنا الراهن لا يمكن للدين الإسلامي أن يكون، ضد حرية الرأي والتعبير، وضد التعددية السياسية، وتأسيس الأحزاب والنقابات، والتنافس السياسي المُراعي للوحدة الوطنية ولمصالح الشعب، وديننا لا يمكن أن يجيز ويبرر الإرهاب الأعمى الذي يضربُ الأبرياء الذين لا علاقة لهم بالحروب وبالصراعات..

حركة طالبان التي لم تكن تراعي هذه الاعتبارات، وكانت تحكم الشعب الأفغاني بقهرٍ وتشدُّدٍ، واستفرادٍ مطلق بالسلطة، ورفضٍ لكل رأي مخالف لرأيها، وقمعه واضطهاده، لا يمكن لأي مسلمٍ حقيقي أن يتجرأ للدفاع عن نمط حكمها هذا، وأن يتبناه، ويزعم أن فيه تجسيدا للشريعة الإسلامية الغراء.. على هذا المستوى نحن كلنا نرفض حركة طالبان كما كانت عليه في الحقبة التي سادت فيها حاكمة مطلقة لأفغانستان.

لكن من باب العدل والإنصاف، يتعين على المرء الإقرار بأن حركة طالبان التي حملت السلاح وقاومت الاحتلال الأمريكي وقدمت الآلاف من الضحايا والشهداء في سبيل تحرير بلدها من الغزاة، الحركة في هذه الصورة، حركة مناضلة ومكافحة، ولها تضحياتها الجسام من أجل نيل بلدها استقلاله وحريته، فحركة طالبان ليست حركة واحدة، فإذا كانت طالبان في الحكم حركة مستبدة وظالمة، فإنها، في فترة الغزو والاحتلال، تحولت إلى قوة مُخلِصَةٍ لبلدها، ومُخَلِّصَةٍ له من نير الغزاة والمحتلين..

لا يجوز وضع طالبان في إطارٍ واحد وتصنيفها بشكل ثابت ونهائي، ووسمها بأوصاف القدح والذم والرفض، والتوقف عند هذا الحد. الحكم على الحركة على هذا النحو، ليس حكما علميا وموضوعيا، إنه حكم إيديولوجي جاهزٌ ومسبق، وهو، في نظر أصحابه، جائزٌ وسارٍ، عن الحركة، في كل العصور والأوقات. بخلاف ذلك، الحكم على طالبان يتعين أن يكون مرنا ومتحركا، وأن يصدر عن كل تصرُّفٍ من تصرفاتها، وأن يكون مستحضرا للمتغيرات التي تطرأ على سلوكها..

نحن نتمنى وننتظر أن تطور طالبان كيفية إدارتها وحكمها لأفغانستان بشكل يلائم العصر ويسايره، وأن تستفيد من المحنة التي عاشتها طوال مدة الاحتلال، وأن تتحول إلى حركة معتدلة، ومنفتحة على مكونات اجتماعية، وسياسية أفغانية أخرى، وتشركها معها في تدبير الشأن العمومي، لأن طالبان كما كانت عليه وهي تحكم أفغانستان في طبعتها الأولى، نحن ننتقدها، ولا نقبل بأن يكون نمَطُ حكمها سائدا في أي بقعة من عالمنا العربي والإسلامي، لأنه نمطُ حكمٍ ديكتاتوري ومتخلف، ويتدثر بالإسلام، في إساءة كبيرة للإسلام، وسيكون مصيره، في النهاية، الفشل الذريع..

طالبان في هذه النسخة الحاكمة مكروهة ومرفوضة، ولكن طالبان في النسخة التي حملت فيها السلاح، وتصدت للأمريكان، وللناتو وقارعتهم لمدة العشرين سنة متتالية، إلى أن تمكنت من هزمهم، ودحرهم، وطردهم من أفغانستان، طالبان هذه، نحن نرفع القبعة احتراما لها، على استماتتها ومثابرتها في حملها للسلاح، وتقديمها لقوافل الشهداء من أبنائها، إلى أن أفلحت، بوسائلها البدائية، واعتمادا على ذاتها، في قهر أعتى وأقوى قوة في العالم التي هي أمريكا وهزمتها شرَّ هزيمة..

طالبان ليست كيانا واحدا محددا بشكل نهائي وتام، ويمكننا حصره فيه وننتهي منه. لدينا نسختان في طالبان. النسخة التي كما كانت وهي تحكم أفغانستان، والنسخة التي كما صارت وهي تقاوم الغزاة الأمريكان. والصفة التي تتميز بها تختلف بين الحالتين. ومن يريد أن يصدر حكمه على طالبان وهي في السلطة ضاربا صفحا عن طالبان وهي تقاوم الاحتلال، لا يكون دقيقا في حكمه، ومتحاملا عليها فحسب، وإنما يكون حكمه مجانبا للصواب.

الغربُ الذي ينتقد طالبان، ويصفها حاليا بأقذع النعوت، الغرب ذاته هو الذي هيأ لها كل الأجواء والظروف لامتلاك السلطة في منتصف تسعينات القرن الماضي في أفغانستان، فلقد شكلت طالبان الامتداد الطبيعي لحركة الجهاديين الإسلاميين الذين كان يدربهم الغرب، وفتحَ مخازنه على مصراعيها لتزويدهم بالأسلحة الفتاكة والمتطورة، وأغدق عليهم الخليج بالأموال الطائلة، من أجل طرد الاتحاد السوفياتي من أفغانستان..

 ومن رحم هذا الصراع خرجت طالبان إلى الوجود ورأت النور، ومن المؤكد أن الغرب الذي يهاجمها بلا هوادة حاليا بعد أن هزمته وطردته من بلادها، على استعداد لتوظيف آلته الدعائية الجبارة، لإعادة تدويرها، واحتضانها، وجعلها مقبولة من طرف الرأي العام الغربي، إن هي رضيت بالتحالف معه، وأن تكون بمثابة مخلب قط، يستعملها الغرب لخدمة مصالحه ضدا في جيرانها، روسيا، والصين، وإيران..

حقوق الإنسان التي يتباكى الغرب على انتهاكها في أفغانستان من طرف طالبان، كيف هو حالها في اليمن، والعراق، وسورية، وفلسطين؟ ألا تُقمع حقوق الإنسان في هذه الدول بالسلاح الغربي، المُرْفَقِ بالفيتو في مجلس الأمن؟ ألا تُرتكبُ هناك المجازر والمذابح؟ ماذا فعل الناتو في ليبيا؟ ألم يدمرها عن بكرة أبيها ويُحوِّلها إلى دولة فاشلة تتنازعها الحركات الإرهابية والتكفيرية؟

بمراجعةٍ لملف حقوق الإنسان في منطقتنا، من فترة الاستعمار إلى اللحظة الراهنة، قد نجد أن انتهاكات طالبان لحقوق الإنسان الأفغاني، لا تساوي الواحد في المائة من الفظائع التي اقترفها الغرب ضد حقوق الإنسان في عالمنا العربي والإسلامي، ولا يزال يرتكبها إلى اليوم. ومع ذلك فإنهم لا يخجلون من التشدق والتبجح بادعاء الدفاع عن حقوق الإنسان.

كاتب مغربي

Source: Raialyoum.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *