مما لا شك فيه أن أي أمر من الأمور له طرفان ووسط ، ولا شك أن الوسط في كل شيء ممدوح ومطلوب، قال ابن الأثير- رحمه الله تعالى- في بيان أفضليّة التّوسّط: (كلّ خصلة محمودة لها طرفان مذمومان: فالسّخاء وسط بين البخل والتّبذير، والشّجاعة وسط بين الجبن والتّهوّر، والإنسان مأمور أن يتجنّب كلّ وصف مذموم، وتجنّبه يكون بالتّعرّي منه، والبعد عنه، فكلّما ازداد منه بعدا ازداد إلى الوسط تقرّبا؛ ولذلك فإنّ أبعد الجهات والمقادير والمعاني من كلّ طرفين وسطها، فإذا كان في الوسط، فقد بعد عن الأطراف المذمومة بقدر الإمكان).
ولقد صدق القائل:
عليك بأوساط الأمور فإنّها … نجاة ولا تركب ذلولا ولا صعبا
الأمة الوسط
أمة الإسلام وسط بين الأمم؛ فهذه الأمة لم تغلُ غلوَّ النصارى في أنبيائهم، ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم.
قال ابن جرير: (إنَّما وصفهم بأنَّهم وسط؛ لتوسُّطهم في الدِّين، فلا هم أهل غلو فيه – غلوَّ النصارى الذين غالوا بالتَّرهب، وقيلِهم في عيسى ما قالوا فيه – ولا هم أهل تقصير فيه – تقصير اليهود، الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم وكفروا به – ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه).
قال الله تعالى:{ سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً..}(البقرة: 142-143).
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: (ولما جعل الله هذه الأمَّة وسطًا، خصّها بأكمل الشرائع، وأقوم المفاهيم، وأوضح المذاهب).
وسطية الشريعة:
قال الشّاطبيّ- رحمه الله تعالى-: (الشّريعة جارية في التّكليف بمقتضاها على الطّريق الوسط الأعدل الآخذ من الطّرفين بقسط لا ميل فيه، الدّاخل تحت كسب العبد من غير مشقّة عليه ولا انحلال؛ بل هو تكليف جار على موازنة تقتضي في جميع المكلّفين غاية الاعتدال.. ، فإن كان التّشريع لأجل انحراف المكلّف، أو وجود مظنّة انحرافه عن الوسط إلى أحد الطّرفين، كان التّشريع رادّا إلى الوسط الأعدل، لكن على وجه يميل فيه إلى الجانب الآخر ليحصل الاعتدال فيه، وفعل الطّبيب الرّفيق يحمل المريض على ما فيه صلاحه بحسب حاله وعادته، وقوّة مرضه وضعفه، حتّى إذا استقلّت صحّته هيّأ له طريقا في التّدبير وسطا لائقا به في جميع أحواله، فهكذا تجد الشّريعة أبدا في مواردها ومصادرها جارية على هذا التّرتيب الوسط المعتدل، فإذا نظرت إلى كلّيّة من كلّيّات الشّريعة فتأمّلتها وجدتها حاملة على التّوسّط، فإن رأيت ميلا إلى جهة طرف من الأطراف فذلك لعلاج انحراف واقع أو متوقّع في أحد الجانبين، فطرف التّشديد- وعامّة ما يكون في التّخويف والتّرهيب والزّجر- يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدّين، وطرف التّخفيف- وعامّة ما يكون في التّرجية والتّرغيب والتّرخيص- يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التّشديد، فإذا لم يكن انحراف إلى هذا أو ذاك رأيت التّوسّط لائحا، ومسلك الاعتدال واضحا، وهو الأصل الّذي يرجع إليه والمعقل الّذي يلجأ إليه).
التوسط في النفقات:
قال الله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً}(الإسراء: 29).
قال الإمام ابن كثير عند تفسيرها: (يقول تعالى آمرا بالاقتصاد في العيش ذامّا للبخل، ناهيا عن الإسراف، أي لا تكن بخيلا منوعا لا تعطي أحدا شيئا، ولا تسرف في الإنفاق فتعطي فوق طاقتك وتخرج أكثر من دخلك فتقعد ملوما محسورا).
وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً}(الفرقان: 67).
قال ابن كثير: (أي : ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عدلا خيارا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا، (وكان بين ذلك قواما ).
وقال ابن كثير- رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً}: (لمّا أمر الله بالإنفاق نهى عن الإسراف فيه بل يكون وسطا).
ومن ذلك قوله – تعالى -: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} (الأعراف: 31).
قال القرطبي رحمه الله بعد سوقه لبعض الأقوال: (فعلى هذا تكون الصَّدقة بجميع المال، ومنعُ إخراج حقِّ المساكين – داخلَيْن في حكم السَّرَف، والعدلُ خلاف هذا، فيتصدق ويُبقي؛ كما قال عليه السلام: “خيْرُ الصدقة ما كان عن ظهر غنى” ).
التوسط في العبادة:
عن عائشة- رضي الله عنها- أنّها قالت: إنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم دخل عليها وعندها امرأة ، قال: “من هذه؟” . قالت: فلانة تذكر من صلاتها. قال: “مه، عليكم بما تطيقون، فو الله لا يملّ الله حتّى تملّوا، وكان أحبّ الدّين إليه ما داوم عليه صاحبه“.
وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنّه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسألون عن عبادة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا أخبروا كأنّهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم؟ قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر. قال أحدهم: أمّا أنا فأنا أصلّي اللّيل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدّهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النّساء فلا أتزوّج أبدا.
فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: “أنتم الّذين قلتم كذا وكذا. أما والله إنّي لأخشاكم لله وأتقاكم له لكنّي أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوّج النّساء فمن رغب عن سنّتي فليس منّي“.
وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنّه قال: دخل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فإذا حبل ممدود بين السّاريتين، فقال: “ما هذا الحبل؟” قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلّقت به. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم:”حلّوه، ليصلّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد“.
وقال صلى الله عليه وسلم: “سدّدوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيء من الدّلجة. والقصد القصد تبلغوا“.
قال ابن رجب رحمه الله: (والتسديد: العمل بالسداد، والقصد والتوسط في العبادة، فلا يقصِّر فيما أمر به، ولا يتحمل منها ما لا يطيق).
كما بين الإمام النووي معنى التسديد والمقاربة فقال: (سددوا وقاربوا، اطلبوا السداد، واعملوا به، وإن عجزتم عنه فقاربوه؛ أي: اقتربوا منه، والسداد: الصواب، وهو بين الإفراط والتفريط، فلا تغلوا ولا تقصروا).
وعن جابر بن سمرة- رضي الله عنه- أنّه قال: كنت أصلّي مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فكانت صلاته قصدا وخطبته قصدا.
وعن أبي جحيفة- رضي الله عنه- قال: آخى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بين سلمان وأبي الدّرداء، فزار سلمان أبا الدّرداء، فرأى أمّ الدّرداء متبذّلة فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدّرداء ليس له حاجة في الدّنيا. فجاء أبو الدّرداء فصنع له طعاما فقال له:كل. قال: فإنّي صائم. قال: ما أنا بآكل حتّى تأكل.
قال: فأكل. فلمّا كان اللّيل ذهب أبو الدّرداء يقوم.قال: نم. فنام. ثمّ ذهب يقوم. فقال: نم. فلمّا كان من آخر اللّيل قال سلمان: قم الآن، فصلّيا. فقال له سلمان: إنّ لربّك عليك حقّا، ولنفسك عليك حقّا، ولأهلك عليك حقّا، فأعط كلّ ذي حقّ حقّه. فأتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فذكر ذلك له فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “صدق سلمان“.
السلف والتوسط:
كان السلف يوصون بالتوسط في الأمور، ومن وصاياهم في ذلك:
قال عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه-: خير النّاس هذا النمط الأوسط، يلحق بهم التّالي ويرجع إليهم الغالي.
قال ابن عبّاس- رضي الله عنهما-: ما عال مقتصد قطّ.
قال وهب بن منبّه- رحمه الله تعالى-: إنّ لكلّ شيء طرفين ووسطا، فإذا أمسك بأحد الطّرفين مال الآخر، فإذا أمسك بالوسط اعتدل الطّرفان فعليكم بالأوسط من الأشياء.
قال الحسن البصريّ رحمه الله تعالى:خير الأمور أوساطها.
وأخيرا: لا تذهبنّ في الأمور فرطا … لا تسألنّ إن سألت شططا
وكن من النّاس جميعا وسطا