تونس.. اي سيناريو لمرحلة ما بعد 25 يوليو؟

 

د. تدمري عبد الوهاب

من الطبيعي ان نرى انقساما في المشهد الحزبي التونسي في التعاطي مع الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس قيسي سعيد، بين مؤيد ومعارض ومتحفظ كل حسب موقعه في عملية التجاذبات السياسية التي شهدتها تونس خلال المرحلة السابقة، رغم أن جل هذه القوى تتحمل جزءا من المسؤولية مما الت اليه الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية و لو بتفاوتات نسبية.

 لكن الثابت في المشهد هو المزاج العام الشعبي المؤيد والداعم لهذه الإجراءات الذي يمنح الرئيس الثقة للمضي قدما في ما يراه صائبا من تدابير إنقاذية لتونس من الازمة السياسية الممتدة لأكثر من عشرة سنوات، أفرزت كل أشكال الممارسات السياسية و الاقتصادية الفاسدة ،انعكست سلبا على الوضع المعيشي للمواطن التونسي.

كما ان هذه الانقسامات في المشهد الحزبي والجمعوي لها ما يبررها ان أخذنا بعين الاعتبار طبيعة الإجراءات الاستثنائية المتخذة من طرف رئيس الجمهورية المتمثلة في تجميد البرلمان ، وإعفاء رئيس الحكومة، وفتح تحقيقات في ملفات الفساد و مالية الأحزاب، بالاضافة الى إقالات وتعيينات جديدة في الوزارات الحساسة للدولة . وهي كلها إجراءات تثير جدلا قانونيا و دستوريا في مدى احترامها للمادة 80 من الدستور التونسي، كما تثير قلقا سياسيا لدى النخب الحزبية في ما تؤشر عليه من تحولات مستقبلية في الممارسة السياسية والديمقراطية في تونس. خاصة ان استحضرنا ما تحيل عليه هذه التدابير من سحب مؤقت للصلاحيات الدستورية التي منحها دستور ما بعد الثورة للسلطتين التنفيذية والتشريعية ومركزتها بيد رئاسة الدولة ، مع التخوف من تحولها الى سياسة أمر الواقع ،خاصة بعد تصريحات الرئيس الاخيرة بوجود مؤامرة داخلية وخارجية تروم الى التسلل الى المفاصل الحساسة للدولة ، مما بجعل مقترح تعيين رئيس الحكومة و تشكيل حكومة انقاذ وطني مقترحا مؤجلا الى حين، خاصة بعد ان اظهرت الاحداث عجز الأحزاب المعارضة لهذه الإجراءات واخص بالذكر حزب النهضة، على استنهاض غضب الشارع تجاه هذه التدابير في مقابل الدعم الشعبي لها الذي أبان في المقابل عن فقدان ثقة غالبية المجتمع التونسي في الاحزاب والمؤسسات المنتخبة، بعد ان اعتبرها مسؤولة على ما آلت اليه اوضاعهم المعيشية . وهو ما يعد في نفس الآن استفتاء شعبيا على ما أقدم عليه الرئيس قيسي سعيد من تدابير صارمة ، و مؤشرا دالا على أن تونس لن تعود الى مرحلة ما قبل 25 يوليوز. ليس فقط بما اتخذ من تدابير اجرائية مؤقتة ،بل بما ينتظر تونس من تغييرات عميقة ، لن يطول انتظارها ، ستمس جوهر الممارسة السياسية ونظام الحكم بما تقتضيه من تعديلات دستورية مستفتى عليها سلفا بحكم الدعم الشعبي المؤيد للرئيس قيسي سعيد . وهي التغييرات التي ستعمل على تقوية صلاحيات الرئيس على حساب السلط الاخرى ، او بالاحرى التخلي عن نظام الحكم الشبه برلماني ، الذي أبان من خلاله العقل السياسي التونسي ، انه ليس مستعدا بعد لأعماله، نظرا لحداثة تقاليد الممارسة السياسية الديمقراطية التي لا زالت فيها الأحزاب السياسية تقدم المنفعة الحزبية الخاصة على حساب المصالح العليا للدولة.

بالتالي فإن ما تم اتخاذه من إجراءات لا يمكن حصره فقط في تقزيم حركة النهضة التونسية ، الذي يتحمل القسط الوافر من المسؤولية في ما شهدته تونس من أزمة عميقة نتيجة تغولها و تحكمها في السلطة السياسية لعقد من الزمن، وذلك بكل تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية رغم كونها الخاسر الأكبر من هذه التحولات . بل كذلك للاجابة على واقع الممارسة السياسية بصفة عامة الذي لم يرقى بعد الى تمثل قيم نظام الحكم الشبه برلماني . ان السؤال الذي يطرح نفسه بحدة اذن ، هو ماهية السيناريوهات المحتملة لتجاوز حالة الاستثناء التي يشهدنها المشهد السياسي التونسي؟.

من خلال تتبعي للجدال السياسي في تونس اجد ان معظم الاحزاب بما فيها المؤيدة بتحفظ لا زالت تنتظر تعيين رئيس جديد للحكومة ،وتشكيل حكومة إنقاذ وطني ، وهو ما يجعلها في اعتقادي، اما غير مدركة لطبيعة التحولات المرتقبة، او أنها تعكس رغبتها في إبقاء الوضع على ما هو عليه بعد ان ادركت عجزها في تحريك الشارع السياسي للضغط على رئاسة الجمهورية، وهي في كلا الحالتين كمن يسبح مع التيار دون محاولة فهم ميكانيزماته من اجل التأثير فيه، و التموقع الجيد في التحولات المستقبلية القادمة لا محالة .لأن ما تطرحه من مخارج حلول تعني العودة الى الاستشارات الحزبية بما فيها حزب النهضة ، ومصادقة البرلمان برئاسة الغنوشي و بأغلبيته الإخوانية التي كانت سببا رئيسيا في الأزمة . بتالي فان هذا السيناريو الذي يعيد الأوضاع الى مرحلة ما قبل حالة الاستثناء يبدو مستبعدا من الناحية العملية ، حتى وان كانت الأحزاب التونسية راغبة فيه.

لكن في مقابل ذلك و من خلال تمعننا في بعض الوقائع كالتأخر الحاصل في تعيين رئيس للحكومة في مقابل اقدام الرىيس على تعيين وزراء جدد في الوزارات الحساسة للدولة، والابقاء على حالة التجميد للمؤسسة البرلمانية مأآزرا في ذلك بدعم شعبي واسع، وكذا بدعم منظمات المجتمع المدني والمثقفين التونسيين ، او من خلال تتبعنا لبعض تصريحات رئيس الجمهورية سواء بتأكيده على وجود مؤامرة داخلية باجندات خارجية ،أو في سياق رده على بعض المقترحات التي سبق ذكرها ،يمكن القول ان الخطوات القادمة الأكثر احتمالا هي حل البرلمان وتشكيل لجنة يعهد إليها وضع مسودة دسنور جديد، يقوي من صلاحيات الرئاسة ، يطرح للاستفتاء الشعبي . ومن ثم الدعوة لانتخابات تشريعية جديدة بعد ان يعرض الكثير من المسؤولين الحزبيين ممن تقلدوا مسؤوليات في الدولة على محاكم محاربة الفساد.

ان هذا السيناريو الأخير هو الأقرب الى الواقع التونسي، و هو من سيأهل تونس للدخول الى عصر الجمهورية الثالثة ،وذلك عبر إصلاحات سياسية ودستورية تضمن انتقالها من نظام حكم شبه برلماني الى نظام حكم رئاسي، حيث الجميع مسؤول أمام الرئيس .وبهذا تكون تونس قد طوت صفحة ما سمي بالربيع العربي وانهت العمل بدستور 2014 ،وعادت مجددا الى نادي الانظمة الرئاسية الشبيهة نسبيا بالانظمة المتواجدة في منطقتنا المغاربية وبلدان شمال أفريقيا مع الحفاظ على مكتسبات الثورة المتعلقة بالحقوق والحريات والحق في التنمية ضمن رؤية سيادية تصون القرار الوطني وكل القضايا العادلة للشعوب سواء بمنطقتنا المغارببة او العربية او الدولية. .

طنجة

Source: Raialyoum.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *