‘);
}
مجموعة تصبحون على خير
يعد إبراهيم الدرغوثي من أهم الأسماء القصصية التونسية في العقدين الأخيرين، مع كل من حفيظة قارة بيبان، وعروسية النالوتي، ورضوان الكوني، ونافلة ذهب، ومسعودة بوبكر، دون أن ننسى أصحاب البدايات في المشهد القصصي التونسي، مثل محمد العروسي المطوي، ومصطفى الفارسي، ومحمد صالح الجابري، وعز الدين المدني، وغيرهم، في مجموعة “تصبحون على خير” (2012) راوح إبراهيم الدرغوثي بين الواقعي والخيالي.. الآني والماورائي، الغريب والعجيب، الحقيقة والخيال، موزّعا جملة أفكاره لمعالجة الواقع الاجتماعي والسياسي على أكثر من خمسة عشر كتابا بين القصة والرواية.
وليس الكم الهائل من الإصدارات ما جعل هذا الكاتب يتصدّر قائمة أهمّ الأسماء القصصية التونسية، بل لأنّ أسلوب الرجل المنفرد، يجعل منه قامة قصصية يحتّم وضع نتاجه على طاولة التشريح النقديّة، لهذا سنحاول رصد الغرابة وتجلياتها في أعمال إبراهيم الدرغوثي، من خلال مجموعته “تصبحون على خير” (2012) لما للغرابة من حضور لافت في أعمال هذا الكاتب، باعتبار الغرابة من أهم ما عوّل عليه الدرغوثي لتشريح الراهن الاجتماعي بكل أبعاده.
‘);
}
الغرابة في مجموعة “تصبحون على خير”
الغرابة.. مفهوم ملتبس
الغرابة ليس مصطلحا أحاديّ البعد، وليس ثابتا وواضحا، بقدر ما هو زئبقيّ ومتداخل مع العجيب والخياليّ والماورائيّ، وكلّ المعاني الدالة على صدمتنا بالحدث أو الشخص أو الفكرة، بحيث لا تتطابق مع ما نذهب إليه أو نعتقد فيه على سبيل العادة. باعتباره (مفهوم الغرابة) ‘هو حضور الموت في الحياة وحضور الحياة في الموت، ومن معانيه أيضا ظهور المألوف في سياق غير مألوف، وظهور المألوف في سياق المألوف، والغرابة كما نفهمها هي كلّ ما يشعرنا بالصدمة والفجائيّة من حدث ما ليس عاديا ولا واقعيا، وفق قواميسنا الاجتماعيّة والثقافيّة، بحيث نعتبر ذلك الحدث خارقا وغريبا.
الغرابة وتجلياتها
يعد إبراهيم الدرغوثي من أهم الأسماء القصصية التي تعمل على هذا المفهوم، وهذا الاشتغال لم يتنزل من فراغ وإلى فراغ، بل هو نابع من بيئة الكاتب الثقافية /البدويّة، حيث ما زال الأسطوريّ يحضر بعنف في البنية الاجتماعيّة للريف الجنوبي التونسي، وحيث يتحكّم الأسطوريّ أحيانا (وجه من وجوه الغرابة) في تشبيك العلاقات الاجتماعية وتحريكها، في علاقة بالأولياء الصالحين مثلا أو حضور الحيوان في البيئة الريفيّة للقرى والمدن الفلاحيّة، وثمّة زعم في أن تتلاشى شيئا فشيئا كلما اتجهنا شمالا نحو الحضر.
وهذا الزعم في الحقيقة ليس مطلق الصحّة، باعتبار أن الغريب يتحوّل ويتشكّل وفق كل بيئة، من الحيوان مثلا إلى الآلة والتقنية، ففي قصّة “أعشاش الحمام البري” يدخل بنا الكاتب إلى جهة ما من جهات الغرابة، حيث يجعل من البطل يحاور صورة أمه على الجدار فتحاوره باتجاه صورة الوالدة المعلّقة قريبا من الشباك، سلّمتُ عليها فخرجت من الصورة واحتضنتني، فمثل هذا المشهد لا يمكن تصنيفه في علاقة ببيئة ريفيّة أو حضريّة، وهو ينطبق تماما على تعريف الغريب في أحد وجوهه؛ أي عودة الموت إلى الحياة مثلا، وللغريب مظاهر متعددة للحضور وللتجلّي يمكن أن نتناولها بالشرح والتأويل، دون أن ندّعي أننا فتحنا كل آفاق النص وعريناه، وسنتناول مفهوم الغريب من خلال الإحياء والتكرار والواقعيّة الغريبة وحضور الكائنات الخارقة، كما يلي:
الإحياء
الإحياء هو تحوّل الميت إلى حيّ أو الحيّ إلى ميّت، كما يمكن الجمع بينهما، وهي كلها شكل من أشكال الغرابة التي يعسر تقبلها وتنزيلها إلى الواقع، وقد تجلى مفهوم الإحياء بوضوح في قصّة “أعشاش الحمام البري” من خلال الحوار الذي دار بين بطل القصة وصورة أمه المعلّقة على الجدار، بل أوهمنا الكاتب أن البطل يتحدّث مع أمه ويحاورها (سلّمت عليها.. واحتضنتني) حتى أنها خرجت كلماتها من جوف الحائط كالصدى البعيد: لقد سئمتُ هواء القبو، بل تماهى التحوّل فخلق الكاتب تواددا وسجالا بين البطل والحائط ليرتب علاقة جديدة وغريبة بين الكائن الحيّ والساكن: “ضربتُ المسمار المغروس في قلب الحائط، فسال الدم على الجدار”.
تواصل حضور الإحياء في أكثر من موضع كما في قصة “تفاح الجنة” التي قسّمها إلى قصص صغرى، لتصبح في شكل قصة من خمسة فصول، ففي فصل “لا ليس الآن يا عزرائيل”، تطلب البطلة من عزرائيل أن يمهلها أربعا وعشرين ساعة نهارا وليلة فقط، حتى تختبر مكانتها عند عائلتها، فما كان من عزرائيل إلا أن أمهلها ما أرادت، لتظل تراقب زوجة ابنها كيف ستستقبل حدث موتها.
التكرار
التكرار هو إحدى الظواهر المسؤولة عن تحوّل المألوف والعادي إلى غير عادي وغريب، هو ذلك الحدوث المتكرر له والحوت الميت يتكدّس كدسا فوق كدس، ثم تتحوّل كلمة كدس إلى تأكل: وطيور البحر تأكل من الحوت الميت، ففي رحلة صياد عاديّة تتحوّل القصة لتلامس كل أشكال الغرابة في قصّة واقعيّة تقترب إلى الواقعيّة الغريبة، بكل حيثياتها ومآسيها، ولكنها لتكون صادمة أكثر، عوّل الكاتب على التكرار في أكثر من موضع، ليثبت الغرابة؛ فالحدث عاديّ لما يتعلّق الأمر بالسمك الذي يعيش على أكل السمك، ولكن تكراره في النص يجعل منه غريبا ومدهشا، وكأن الكاتب يريد خلق آلية تكرارية قد ترتبط بما هو ضد الحياة بالموت على وجه خاص.
كما حضر التكرار في قصّة "الليلة الثانية بعد الألف" في شكل إيقاع لافت، ولكنه تكرار يثير الغرابة والتساؤل: دقّ الباب، وهو باب مقصورة الملك شهريار ففعل "دق" تكرر أربع مرات متتاليات كي يصل بنا إلى أن الباب المقصود هو باب الملك شهريار، الملك الذي لا تدق أبوابه إلا مرة واحدة، بل ربما لا تُدقّ الأبواب بل يُطلب ممن يريد مقابلة الملك أن يحضر فيجد في استقباله من يُدخله إليه، لهذا جاء التكرار غريبا، وقد تجلى هذا التكرار بوضوح أكثر في قصّة "تاكسي" حيث يتكرر الفعل كامل اليوم، ويقوم البطل بنقل زبائنه بنفس الطريقة وفي نفس المشهد المكتظ والمزدحم، وتتكرر كلمة "تاكسي.. تاكسي" كامل اليوم ويستجيب السائق للنداء كذلك، وهكذا يسير الحدث بشكل دائريّ متكرر ومميت: "أواصل الدوران (..) تاكسي تاكسي" وهكذا فإن القصّة رغم أن أحداثها عاديّة، إلا أن التكرار يجعل منها جملة من السياقات تتنزّل في وضع حضاريّ يجعل من الإنسان قريبا من آلة تدور على نفسها، آلة تتنقل رويدا رويدا في اتجاه الموت.
الكائنات الخارقة
أو ما يمكن أن نسميه “الطيفيّة” التي تتجلى في شكل أشباح وخيالات ورسوم غائبة وحاضرة، أو حاضرة وغائبة، غائبة عند مستوى الإدراك والواقع، وحاضرة عند مستوى الذاكرة والحلم، وهذه الكائنات الخارجة من جنّ وأرواح وشياطين، حاضرة حضورا لافتا في البنية الاجتماعية والثقافية لكل شعب ولكل جهة سكانية، بل هي خاصية تهمّ كل حضارة أيضا، لهذا تجد مثل هذا الخيال في آداب الشعوب المكتوبة والشفوية، وما تعويل إبراهيم الدرغوثي على هذا المعجم، إلا لقيمة حضوره وأهميته في المخيال الشعبي، فقد تحوّلت الروح في قصة “تفاح الجنة” إلى عصفور يضعه عزرائيل في قفص معلّق بسقف البيت حتى يمهل العجوز بعض الساعات: “رأيته يخرج العصفور من أنفي ويهم بوضعه في القفص”.
وهي نفس الصورة الماثلة في ذهنية المواطن البسيط باعتبار الروح عصفورا أو حمامة تصعد إلى السماء بعد الموت، أما الغول فهو أحد أهم الكائنات الخرافية في المجتمع العربي وحضوره لا يكاد يخلو منه أدب مكتوب أو حكاية شفوية، ورغم اليقين كذلك أن الغول لا وجود له في الواقع كالعنقاء والخل الودود، إلا أنّ وجوده في الأدب ثابت ومؤثر: “رأيت الغول الذي حدثتنا عنه الجدات يخرج من بين تلافيف الخرافة، غول مرعب في حجم جبل وقف وسط ساحة القرية وهم بأسنانه يشحذها بمنشار كهربائي بل لاحظوا كيف خلق الكاتب تقاطعا بين الغريب والحقيقي حين نزل الغول في الحاضر، بل منحه منشارا كهربائيا ليشحذ أسنانهن حتى يوهمنا فعلا أن الغول حقيقة ثابتة، وإن كان القارئ لا يؤمن بوجود الغول، فإن حضوره في القصة يشد القارئ باعتبار الحبكة القصصية التي تجعل منه موظفا خير توظيف وليس مسقطا.
الواقعيّة الغريبة
هنا في الواقعيّة الغريبة، لا يوجد تحوّل أو مسخ أو إحياء بل تكرار وعبث وفوضى واختلال في الشعور بالواقع والذات، ففي قصّة “تفاح الجنة” اضطرت الأم إلى أن تزوّج ابنها بعد أن شاع الكلام على أنه ينكح البهائم: “قالوا لي ابنك ينكح الأتن السائبة في البراري” فهذه الواقعيّة على غرابتها وعدم تقبّلها من قبل الإنسان العادي، إلا أنها واقعيّة حقيقيّة وتحدث في المجتمع العربي، مما يجعل منها مرآة عاكسة للمكبوت لدى الرجل الشرقي الذي لم يجد إلا الأتن كي يفرغ شحناته الجنسيّة الفائضة، وهو مشهد من مشاهد الغرابة، ولكنها غرابة واقعيّة تحدث في كلّ آن، مثل الغرابة التي تتجلّى في علاقة العقل بالنقل.
كذلك في قصّة “حالات وأحوال” حيث توجّه رجل إلى قاعة علاج تكتظ بالمرضى وتوجَّهَ إلى امرأة مسنّة وأعطاها كتاب “الحصن الحصين” قائلا لها: “الحصن الحصين يشفي من الروماتيزم والصداع وجريان الجوف والأورام السرطانيّة الخبيثة ومرض القلب، ويداوي كل العلل” فما كان من المرضى إلا أن غادروا القاعة ولم يبق إلا الراوي، وهذا الشكل المتكرر من الأحداث يبدو شديد الواقعيّة، ولكنها واقعيّة غريبة صادمة، حيث يتوقف العقل عن فكّ ثيمات الأحداث الماديّة اليوميّة مستعينا بالغيبيّ، إنه تقاطع العقل بالنقل في نسيج أقرب للعبث.