الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد:
فإن القلب هو محط نظر الرب تبارك وتعالى، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”إنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إلى صُوَرِكُمْ وأَمْوالِكُمْ، ولَكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُمْ وأَعْمالِكُمْ“رواه مسلم .
وقال صلى الله عليه وسلم: “أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً ، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ“متفق عليه.
قال ابن رجب رحمه الله: (ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كلمة جامعة لصلاح حركات ابن آدم وفسادها؛ وأن ذلك كله بحسب صلاح القلب وفساده، فإذا صلح القلب صلحت إرادته، وصلحت جميع الجوارح؛ فلم تنبعث إلا إلى طاعة الله واجتناب سخطه، فقنعت بالحلال عن الحرام، وإذا فسد القلب فسدت إرادته، ففسدت الجوارح كلها؛ وانبعثت في معاصي الله عز وجل وما فيه سخطه، ولم تقنع بالحلال؛ بل أسرعت في الحرام بحسب هوى القلب وميله عن الحق).
قال أبو هريرة رضي الله عنه : القلب ملك، والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده.
وإذا كان الله تعالى هو المحبوب الذي ينتهي إليه العبد، وهو المعبود الذي يعتمد عليه، فإن العبد تهون في عينه الدنيا وزخارفها، ومن لم يكن الله تعالى هو منتهى حبه وإرادته فإن زخارف الدنيا وشهواتها تستولي على القلب وتستعبده وتفسده.
لا فجور ولا رهبانية:
إن شريعة الله تعالى سلكت سبيلا وسطا بين أهل الفجور المغرقين في الشهوات وبين أهل الرهبانية والتشدد والغلو.
لقد أباحت الشريعة التمتع بشهوات الدنيا من أوجه الحلال الطيب؛ فالمال يربحه العبد من حلال ويضعه في حلال، ويتزوج ما طاب من النساء مثنى وثلاث ورباع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “حُبب إلي من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة“رواه أحمد والنسائي.
وهكذا بقية الشهوات يستمتع بها العبد وفق الضوابط الشرعية فلا يتعدى حدود الله تعالى ولا يجترئ على الحرام.
أما أهل الغلو الذين حرموا على أنفسهم ما أحل الله تعالى فهؤلاء يقال لهم ما قاله الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}(الأعراف: 32).
وكما في الحديث المتفق عليه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني“.
عبيد أهوائهم:
إن إطلاق العنان للنفس في شهواتها يجعل هذه النفوس عابدة لأهوائها كما قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: 23)، فهذا الذي اتخذ دينه هواه، فلا يهوى شيئا إلا ركبه، لا يخاف ربه، ولا يحرم ما حرم الله ولا يحل ما أحل الله، إنما دينه ما هويته نفسه يعمل به.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “تَعِسَ عبدُ الدِّينارِ، والدِّرْهَمِ، والقَطِيفَةِ، والخَمِيصَةِ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وإنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ“(رواه البخاري). فهو خائب خاسر لأن حب الشهوات قد أذله وحاد به عن صراط ربه.
إن الله تعالى قد ذم الإفراط في الشهوات والتعلق بها ومحاولة نيلها من غير طريقها الذي أباحه الله فقال عز وجل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}(مريم:59). وإذا أضاعوا الصلاة فهم لما سواها من الواجبات أضيع؛ لأنها عماد الدين وقوامه، وخير أعمال العباد – وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فهؤلاء سيلقون غيا، أي: خسارا يوم القيامة.
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: (وقال أبو الأشهب العطاردي: أوحى الله – تعالى – إلى داود : يا داود ، حذِّر وأنذر أصحابك أكل الشهوات ؛ فإن القلوب المعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة، وإن أهون ما أصنع بالعبد من عبيدي إذا آثر شهوة من شهواته علي أن أحرمه طاعتي).
يبغونها عوجا:
إن الله تعالى يريد لمجتمع المسلمين الطهر والعفاف والاستقامة، وأولياء الشيطان وأعداء العفة يبغونها عوجا؛ فينفقون الأموال الطائلة، ويبذلون الجهود الكبيرة لإغواء الناس وإفسادهم وإغراقهم في الشهوات، وإشاعة الفواحش؛ حتى لا يبقى طهر ولا عفاف ولا صيانة ولا تقوى ولا دين؛ حتى يسهل عليهم قيادة هؤلاء كما يُقاد القطيع من البهائم، قال تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً}(النساء:27). قال ابن كثير رحمه الله: (أي : يريد أتباع الشياطين من اليهود والنصارى والزناة ( أن تميلوا ) يعني : عن الحق إلى الباطل ميلا عظيما).
أحوالهم شاهدة:
إن الانغماس في الشهوات بلا ضابط ولا رادع لا يؤدي إلى أن تشبع النفوس منها، بل إنها كلما فازت بشيء من ذلك تطلعت إلى المزيد، كما قال القائل:
وكأسٍ شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها
هل وجدتم مدمن خمر يرتوي بكأس أو كأسين؟ وهل وجدتم فاجرا جريئا على النساء يكتفي ولو وصل مائة امرأة في الحرام؟ وهل رأيتم طالب مال متعلق القلب به يكفيه مال قارون؟.
وإذا نظرت إلى أحوال الأمم التي أطلقت العنان لشهواتها لوجدتهم لم يكتفوا، فالسرقة والرشوة والاغتصاب والتحرش…كل ذلك أرقامه مخيفة، بل مرعبة.
من كلام العلماء والحكماء:
وقال ابن القيم رحمه الله:كما أن البدن إذا مرض لم ينفع فيه الطعام والشراب؛ فكذلك القلب إذا مرض بالشهوات لم تنفع فيه المواعظ.
وقال: قسوة القلب من أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة: الأكل، والنوم، والكلام، والمخالطة.
وقال: القلب المعلق بالشهوات لا يصحّ له زهد ولا ورع.
وقال الشافعي رحمه الله: من لزم الشهوات لزمته عبودية أبناء الدنيا.
قال قتادة- رحمه الله تعالى-: إنّ الرّجل إذا كان كلّما هوي شيئا ركبه، وكلّما اشتهى شيئا أتاه، لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى، فقد اتّخذ إلهه هواه.
قال الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله: لو أوتيت مال قارون، وجسد هرقل، وواصلتك عشر آلافٍ من أجمل النساء من كل لونٍ وكل شكلٍ وكل نوعٍ من أنواع الجمال هل تظن أنك تكتفي؟! لا.
نسأل الله تعالى أن يكفينا بحلاله عن حرامه، وأن يرزقنا العفة والقناعة، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.