الحمد لله.. لا يستحق كل الحمد سواه.. وأشهد ألا إله إلا الله.. لا رب غيره، ولا نعبد إلا إياه.. وأشهد أن محمدا نبيه ومصطفاه، وحبيبه ومجتباه.. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبعه واهتدى بهداه، وسلم تسليما كثيرا.. وبعد:
فإنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة نبيه)(رواه مالك في الموطأ).. قال ابن عبد البر رحمه الله: “وَهَذَا مَحْفُوظٌ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، شُهْرَةً يَكَادُ يُسْتَغْنَى بِهَا عَنِ الْإِسْنَادِ”(التمهيد:24/331).
فمن أراد الهداية في الدارين، والسعادة في الحياتين، والفوز والنجاة في الدنيا والآخرة فليتمسك بهذين الأصلين: كتاب الله وسنه رسوله، علما وعملا، وتطبيقا وسلوكا.
ونبدأ بالحديث أولا عن القرآن؛ إذ هو الأصل الأول ـ بل هو أصل الأصول الذي ترجع كلها إليه.. كيف لا وهو كلام رب العالمين، تكلم به ربنا حقا، وأنزله على رسوله وحيا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقا، وعلموا أنه كلام الله بالحقيقة قولا ومعنى، وليس بمخلوق ككلام المخلوقين.
والقرآن أعظم كتاب، نزل به أعظم ملك، على قلب أعظم رسول، بأعظم لغة، على أعظم أمة، في أعظم شهر في أعظم ليلة.. {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان}(البقرة:185). فهو خير كتاب أنزل، على خير نبي أرسل، إلى خير أمة أخرجت للناس.
القرآن.. أفضل الذكر، وأعظم القول، وأحسن الحديث.. هو للجسم دواء وشفاء، وللقلب هداية ونقاء، وللروح صفاء وارتقاء.
القرآن.. نعمة الله الباقية، ومنة الله الكافية، وعصمة الله الواقية: {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم}(العنكبوت:51).
القرآن.. هو الروح التي نفخها الله في هذه الأمة فأحياها به بعد الموات، وبعثها بعد الوفاة (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا)(الشورى:52).
القرآن.. هو النور الذي أضاء الله لنا به السبل والطرقات، وأخرجنا به من الظلمات: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(المائدة:16).
القرآن.. هو الذكر الذي أعلى الله به قدرنا، ورفع به شأننا، وأعز به ذلتنا، وكثر به قلتنا، ورفعنا به على رؤوس الأشهاد: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ}(الانبياء:10).
القرآن الكريم.. هو المخرج من الفتن، والهادي من الضلال؛ كما روي عن علي رضي الله عنه قال: “إنها ستكون فتن. قيل: فما المخرج منها؟ قال: “كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا تنقضي عجائبه، ولا تشبع منه العلماء.. من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم” (يروى مرفوعا والموقوف أصح).
رسائل من الله
إن هذا الكتاب رسائل من الله للعباد، فيها أوامره ونواهيه، ومساخطه ومراضيه، ولا ينتفعون بها إلا بأن يفتحوها ويقرؤها، ثم يفهموها ويتدبروها، ثم يعملوا بها وينفذوها.
فإنما نزل القرآن ليعمل به ويكون منهج حياة، أما أن يكون دور القرآن أن يفتتح به المناسبات والحفلات، وأن يقرأ على الأموات، وأن يوضع على الأرفف للتبرك وفي السيارات.. فهذا تضييع للقرآن وتضييع للأمة بأسرها.
السلف والقرآن
لقد عرف الأولون فضل القرآن فأقبلوا عليه ينهلون منه وينتفعون بما فيه، ويطبقونه في حياتهم حتى أصبح منهج حياة لهم، وصاروا نسخا منه عملية تمشي على الأرض.. ففي البخاري وأحمد عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن خُلقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: “كان خلقه القرآن“. ، وفي رواية: “كان قرآنا يمشي بين الناس“.
وكذا الصحابة كانوا صورة من نبيهم، كلهم يغترف من هذا البحر بقدر ما ييسر الله له.
أصول للتعامل مع القرآن
لقد نفع الله الصحابة بهذا الكتاب، ورفعهم به فوق رءوس الأشهاد، وإنما ذلك لأنهم تعاملوا معه بصدق.. وكان موقفهم منه يقوم على أمور أبلغتهم مقصدهم، وكان أهمها أمران:
الأول: اتخاذه المرجعية الأولى:
فاتخذوه دستور حياة يستقون منه وحده، فكان نبعهم الصافي ووردهم الكافي، اكتفوا به واستغنوا به عن كل ما سواه، لا قوانين وضعية، ولا دساتير شرقية ولا غربية، وإنما كما قال سبحانه وتعالى: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[العنكبوت:51].
فكان القرآن بالنسبة لهم هو الهداية من كل ضلال: {إن هذاالقرآن يهدي للتي هي أقوم}(الإسراء:9).. يهدي للتي هي أقوم في العقائد والعبادات، ويهدي للتي هي أقوم في الأخلاق والمعاملات.. ويهدي للتي هي أقوم في جميع الأمور والمعضلات.
والشفاء من كل علة: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين }(الإسراء:82)… فهو شفاء لأمراض الأجساد والقلوب، وعلل المجتمعات والشعوب، ووقاية من كل الأهواء المضلة، والأهواء والممارسات المخلة.
الثاني: العمل الحقيقي بما فيه
وسرعة الاستجابة لأوامره ونواهيه.. فعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: “حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات من القرآن لم يجاوزها حتى يعلموا ما فيها ويعملوا بها، فقالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا”.
العودة إلى القرآن
إننا ننادي على كل مسلم في شتى بقاع الأرض بضرورة العودة إلى كتاب الله. ليس فقط العودة إليه قراءة وتلاوة فحسب، وإنما نعني العودة الشاملة الكاملة.. أن نعود إليه قراءة وتدبرا، ودراسة وتعلما، وعملا وتأدبا، وأن نعود إليه تحكيما وتحاكما.
فإنما نزل القرآن ليحكم ويسود قال سبحانه {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم}(المائدة:49)،وقال {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون}.
التحذير من ترك القرآن
إن الله تعالى قد ذكر أمة أعطاها كتابا فنبذته وراءها ظهريا، وأعرضت عنه، ولم تعمل به، ولم تتحاكم إليه فقال فيهم: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}(الجمعة:5)..
وذكر الله عبدا آتاه علما فلم يعمل به فقال: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(الأعراف: 176)
فعودوا إلي كتاب الله يرحمكم الله {وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون}(النور:31).
اللهم انفعنا وارفعنا بالقرآن، واجعلنا من أهله الذين هم أهلك وخاصتك.. آمين.