الحياة الزوجية ليست لقاءً عابرا، أو صحبةَ يوم أو يومين، وإنما هي صحبةٌ الأصل فيها الديمومة، فهي شراكة طويلة وحياة ممتدة لسنوات في الغالب طويلة، وإذا لم تكن هذه الحياة مطمئنة سعيدة كانت عبئا على أصحابها وباب هم وغم ونكد، ولذلك أمر الإسلام بكل ما يلزم من أسباب السعادة والهدوء والدعة والاستئناس بين الزوجين خاصة، وأفراد الأسرة عامة .. ومن أهم أسباب السعادة والاطمئنان ما أمر الله تبارك وتعالى به الأزواج من حسن المعاشرة والتلطف قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}[النساء: 19].
وإنما خص الله تعالى الرجال بهذا الأمر، وإن كانت النساء أيضا مأمورات به، لأن المرأة هي الطرف الأضعف في هذه الشراكة، وهي الأكثر احتياجا لهذا من الرجل، وأيضا لطبيعتها التكوينية والنفسية فهي أكثر تأثرا به وتفاعلا معه، ثم للمردود الحسن لمن يحسن إليها.. إلى غير ذلك من العواقب المحمودة لحسن العشرة.
وحسن العشرة باب واسع تندرج تحته تفصيلات كثيرة، ونحن نذكر بعض ذلك ولا يخفى عدم الحصر:
ا. التلطف والمداعبة:
كما كان النبي صلوات الله وسلامه عليه، يتلطفُ مع زوجاتِه، ويُحسنُ عشرتَهنَّ، بل كانت له في ذلك لمساتٌ رقيقةٌ، فمن ذلك:
. أنه كان يختارُ لزوجتِهِ اسمَ تدليلٍ (دلع) تلطفاً وتقربا وتحببا فكان يقول لعائشة : ((يا عائش)).
. وكان يتعمَّدُ أن يشربَ أو يأكلَ منَ الموضعِ الذي شرِبَتْ زوجتُه منه أو أكلَتْ، فعن عائشة قالت: (كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم، فيضع فاه على موضع في، فيشرب.. وأتعرق العِرق، وأنا حائض، ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع في).[رواه مسلم].
ومعنى أتعرَّق العرق: “يعني آخذ اللحم من العرق بأسناني، وهو عظم أخذ معظم اللحم منه وبقيت عليه بقية، والمراد هنا العظم الذي عليه اللحم”.
والحديث فيه أَرَقُّ وأجمل وأعلى أنواع الملاطفة والمجاملة والتودد والتحبب. فصلى الله عليه وسلم.
في الصحيحين وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال لسعد بن أبي وقاص: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فم امرأتك).
ومعنى الحديث: أنه يؤجر على ما ينفقه في نفقة زوجته..
وروى البخاري في صحيحه في “باب لعق الأصابع ومصها قبل أن تمسح بالمنديل”: عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أكل أحدكم فلا يمسح يده حتى يَلعَقها أو يُلعِقَها). قال الإمام النووي : “المراد إلعاقُ غيره ممن لا يتقذر ذلك من زوجة وجارية وخادم وولد”.
ب ـ المسابقة والملاعبة
أخرج أبو داودَ، والنسائيُّ عن أمِّ المؤمنينَ عائشةَ رضي الله عنها قالت: خرجتُ معَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأنا خفيفةُ اللحمِ فنزلْنَا منزلًا فقالَ لأصحابِهِ: (تَقدَّمُوا) ثمَّ قالَ لي: (تعالي حتى أسابِقَكِ فسَابَقَنِي فَسَبقْتُهُ)، ثم خرجتُ معَه في سفرٍ آخرَ، وقد حملتُ اللحمَ فنزلْنَا منزلًا فقالَ لأصحابِه: (تَقدَّمُوا) ثم قال لي: (تعالي أُسَابِقَكِ) فسابَقَنِي فسَبَقَنِي فضربَ بيدِهِ كَتِفِي وقالَ: (هذهِ بتلك).
ج ـ المؤانسة والمجالسة:
وذلك بأن يفرغ كل من الزوجين من وقته ليجلس مع الآخر، فيتحدثان أو يعملان عملا مشتركا، ويستمع كل منهما للآخر، كما كان صلى الله عليه وسلم يفعل مع زوجاته..
فقد روى الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أريتك في المنام ثلاث ليال جاءني بك الملك في سرقة من حرير فيقول: هذه امرأتك فأكشف عن وجهك فإذا أنت هي فأقول إن يك هذا من عند الله يمضه).
ومن أشهر شيء في ذلك حديث أم زرع الطويل الذي قصته عائشة على النبي صلى الله عليه وسلم فجلس يسمع من غير ضجر، ويستمتع من غير ملل، حتى علق عليها في آخر الحديث ليدل على اهتمامه بسماعها وكلامها، واستمتاعه بذلك وعدم السآمة.. فاختار أحسن الأزواج وشبه نفسه به وقال: (كنت لك كأبي زرع لأم زرع، غير أني لا أطلق).
ومنه ما روته عائشة رضي الله عنها قالت: (لقد كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يضَعُ رأسَهُ في حِجري وأنا حائضٌ ويقرأُ القرآنَ)[ابن ماجه].
وفي الحديثِ: حُسْنُ عِشْرةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومُراعاتُه لأحوالِ زوجاتِه، وكريم شمائله وأخلاقه.
د ـ المدح والإطراء:
المدح إكسير الحياة الزوجية، والمرأة تحب أن تسمع كلام الإطراء والثناء، ويسعدها أن يتغزل بها زوجها، وكذا الرجل، والأذن تعشق قبل العين أحيانا…
وقد ضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أروع مثال: فكان يمتدح عائشة ويقول: (فضل عائشةَ على النساء ِكفضل الثريدِ على سائر الطعام)[متفق عليه].
وروى البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: (يا عائشُ! هذا جبريل يقرئك السلام، فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته…).
وسأَلَته يوما: (يا رسول الله من من أزواجك في الجنة؟ قال: أما إنك منهن؟)[رواه الحاكم وصححه].
وروى البيهقي في دلائل النبوة، وأبو نعيم في حلية الأولياء عن عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصف نعله وكنت أغزل، قالت: فنظرت إليه، فجعل جبينه يعرق وجعل عرقه يتولد نورا، قالت: فبَهِتُّ، فنظر إلي فقال: ما لك بهت؟ فقلت: يا رسول الله نظرت إليك فجعل جبينك يعرق وجعل عرقك يتولد نورا، ولو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنك أحق بقوله بشعره. قال: وما يقول يا عائشة أبو كبير الهذلي؟ قلت: يقول هذين البيتين:
ومبرأٌ من كلِّ غُبَّرِ حيضةٍ .. .. وفســادِ مرضعةٍ وداءٍ مُغْيِلِ
وإذا نظرتَ إلى أَسِرَّةِ وجههِ .. برقَتْ كبرقِ العارضِ المتهّللِ
قالت: فوضع صلى الله عليه وسلم ما كان بيده وقام إلي وقبل ما بين عيني وقال: جزاك الله خيرا يا عائشة ما سررتِ مني كسروري منك)[الحلية: 2/46].
هـ ـ إظهار المحبة
وإذا كان بعض الرجال يأنف أو يستحي من ذكر ذلك، فقد كان أكرم الناس يفعله ويعلنه:
جاء في الصحيح أن عمرو بن العاص أتى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله: (أيُّ النَّاسِ أحَبُّ إلَيْكَ؟ قَالَ: عَائِشَةُ، فَقُلتُ: مِنَ الرِّجَالِ؟ قال أبوها)[البخاري].
وقد كان هذا مشهورا بين الصحابة رضوان الله إليهم، حتى كانوا (يتحرون بهداياهم يوم عائشة. يبتغون بذلك مرضاة رسول الله)[رواه مسلم].
وجاءته فاطمة ابنته يوما فقالت: يا رسول الله! إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة… فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي بنية! ألست تحبين ما أحب؟ فقالت: بلى. قال: فأحبي هذه)[رواه مسلم].
فصلوات الله وسلامه عليه، ما مر على ظهر الأرض أفضل ولا أكرم ولا أكمل ولا أحسن معاشرة لزوجه وأهله منه كيف لا وهو القائل: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)(رواه الترمذي وابن ماجه).
فعلى المسلمين أن يتعلموا من نبيهم ويأتسوا به {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(الأحزاب:21).