الحمد لله والصلاة ولسلام على رسول الله وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
تكلمنا في مقال سابق عن بعض مرتكزات وأسس التيسير والسماحة في الإسلام، وفي هذا المقال نتحدث عن مجموعة أخرى من الأسس في هذا الباب المهم، ومنها:
رفع الحرج عن المخطئ والناسي:
مَن منا لا يخطئ؟ ومن منا لا ينسى؟.
إن الخطأ والنسيان من طبيعة البشر، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}(طه: 115). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ونسِيَ آدمُ فنسِيتْ ذرِّيَّتُهُ“رواه الترمذي.
ومن رحمة الله تعالى بأمة الإسلام وتيسيره عليها أنه سبحانه قد تجاوز لها عن النسيان، قال الله تعالى مخبرا عن دعاء المؤمنين: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ…}(البقرة: 286).
وقد روى ابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إنَّ اللَّهَ وضع لي عن أمَّتي الخطأَ والنِّسيانَ وما استُكرِهوا عليْهِ“.
ولا شك أننا حين نتكلم عن النسيان في هذا الباب إنما نقصد سقوط الإثم عن الناسي، أما المسؤولية عن أفعاله فيما يتعلق بحقوق العباد فليس ذلك هو المقصود.
وقد دل على سقوط الإثم عن الناسي أدلة منها:
قوله صلى الله عليه وسلم: “مَن أكَلَ ناسِيًا وهو صائِمٌ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ؛ فإنَّما أطْعَمَهُ اللَّهُ وسَقاهُ“رواه البخاري وغيره.
فالذي أكل أو شرب ناسيا فلا إثم عليه ولا قضاء ولا كفارة بخلاف المتعمد، ولا شك أن هذا من سماحة الشريعة وتيسيرها على المكلفين.
والخطأ معفو عنه كما مر في الحديث السابق، والخطأ هو ما لم يتعمده صاحبه.
قال الله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}(الأحزاب: 5).
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: (فإن الله قد وضع الحرج في الخطأ ورفع إثمه ، كما أرشد إليه في قوله آمرا عباده أن يقولوا : {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}[ البقرة : 286 ] . وثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” قال الله : قد فعلت ” . وفي صحيح البخاري، عن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إذا اجتهد الحاكم فأصاب ، فله أجران ، وإن اجتهد فأخطأ ، فله أجر“). وقال رحمه الله: (وإنما الإثم على من تعمد الباطل كما قال تعالى : {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}(سورة البقرة).
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: ما أخاف عليكم الخطأ ولكني أخاف عليكم العمد.
ومن تطبيقات هذه القاعدة أن العبد إذا نطق بكلمة الكفر مخطئا فلا يكفر بها ولا يؤاخذ، كما ثبت عند مسلم رحمه الله من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِن أَحَدِكُمْ كانَ علَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فلاةٍ، فَانْفَلَتَتْ منه وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فأيِسَ منها، فأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ في ظِلِّهَا، قدْ أَيِسَ مِن رَاحِلَتِهِ، فَبيْنَا هو كَذلكَ إِذَا هو بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قالَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ“.
والخطأ شبهة تُدرأ بها العقوبة كما في بعض الجنايات، وقد تخفف به العقوبة كما في قتل الخطأ الذي يلزم فيه المخطئ بالدية ولا يطالب بالقصاص.
رفع الحرج عن المكره:
الإكراه لغة: حمل الغير على ما لا يرضاه قهرًا.
وفي اصطلاح الفقهاء: حمل الغيرِ على أن يفعل ما لا يرضاه، ولا يختار مباشرته، لو تُرك ونفسه.
إن الإكراه بهذا المعنى يرفع عن صاحبه الإثم، وقد يبيح له من التصرفات ما لم يكن مباحا في الأصل – دون إكراه – حتى إنه ليباح للمكره النطق بكلمة الكفر حال الإكراه، وهذا من رحمة الله تعالى وتيسيره على المؤمنين، قال الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(النحل: 106).
وقد روى الحاكم عن محمد بن عمار بن ياسرقال: أَخَذَ المشركونَ عَمَّارَ بنَ ياسِرٍ، فلمْ يَتركوهُ حتَّى سَبَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وذَكَرَ آلهتَهُم بخيرٍ ثُمَّ تَركوهُ، فلمَّا أتى رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: “ما وراءَكَ؟“. قالَ: شرٌّ يا رسولَ اللهِ، ما تُرِكتُ حتَّى نِلتُ مِنكَ، وذَكرتُ آلهتَهُم بخيرٍ. قالَ: “كيف تجِدُ قلبَكَ؟“. قالَ: مُطمئنٌّ بالإيمانِ. قالَ: “إنْ عادوا فعُدْ“أخرجه الحاكم والبيهقي.
وإذا شرب المكره إكراها تاما الخمر فإنه لا يقام عليه الحد، كما لا تنفذ تصرفاته عند سكره مكرها كما ذهب إليه جمهور أهل العلم.
مما لا شك فيه أن قوة التحمل تختلف من إنسان لآخر؛ من أجل ذلك جاء هذا التشريع الرباني بهذه الصورة الميسرة التي تناسب أحوال الناس حتى ترفع عنهم الحرج والمشقة.
فتح باب التوبة:
إن فتح باب التوبة أمام الناس من الأسس المتينة التي يرتكز عليها منهج التيسير في الإسلام، وهي سبب من أسباب ثبات المؤمن وبقائه على دين الله تعالى، حيث تزيل عن كاهله هموم المعاصي وأثقال المخالفات، وتفتح أمامه أبواب الأمل؛ مما يدفعه للسعي نحو الأفضل.
وقد دعا الله تعالى عباده إلى التوبة فقال تعالى: {قُلْ يا عبادي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر: 53). وقال: { وَتُوبُوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ}(النور: 31).
وقد بين الله سبحانه أن التوبة سبب لمحبته – تعالى – للإنسان عندما ينيب إليه بعد أن عصاه، ويندم على فعله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة: 222).
ولا ينبغي أن ييأس العبد من رحمة الله تعالى وإن كثرت ذنوبه بأن يقول: إن الله – تعالى – لن يغفر لي بعد هذا، فهذا القنوط من رحمة الله تعالى معصية كبرى، وعقيدة فاسدة، وسوء ظن بالله تعالى، وهو باب من أبواب الشيطان لئلا يعود إلى ربه مرة أخرى ويعمل الأعمال الصالحة، يقول عليه الصلاة والسلام: “والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم“رواه مسلم.
ومن يسر هذا الدين وسعته ورحمته وسماحته أن الله – تعالى – جعل التوبة والأعمال الصالحة مكفرات لخطايا بني آدم، لقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (الفرقان: 70) .
وقوله عليه الصلاة والسلام لأبي ذر رضي الله عنه: “اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن“رواه الترمذي.
إن باب التوبة مفتوح أمام العباد لا يغلق حتى تظهر علامات الساعة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تنقطِعُ الهجرةُ حتَّى تنقَطعَ التَّوبةُ، ولا تنقطِعُ التَّوبةُ حتَّى تطلِعَ الشَّمسُ مِن مغربِها“رواه أبو داود.
فالحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد لله على تيسيره ورفع الحرج عن المؤمنين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.