للجوء معانٍ عظيمة في اللغة العربية، وهو يقترب من منح العصمة لصاحبه، كما لو أن اللاجئ بلجوئه، يكتسب حماية شاملة تكفل إسباغ العصمة عليه لتحميه حماية تامة، لشدة وقع ودلالات كلمة اللجوء في أصل العربية القديمة، فضلًا من أن الكلمة ترتبط عند العرب، بقيم الشهامة والإغاثة، فحملت من المعاني، ما جعلها تتضمن مستويات أكبر وأعمق بكثير من دلالتها المباشرة.
وسمّى العرب قديماً أبناءهم، اسمًا مرتبطًا باللجوء، لما تعنيه هذه الكلمة من أثر خطير في حياتهم، فهناك ابن لجأ، جَدّ الشاعر التيمي الشهير، عمر بن الأشعث. وثبت في أقدم معجمات العربية، ومختلف أمهاتها، أن لجأ اسم رجل، بدءاً من أقدمها، كتاب العين، ثم مرورا وانتهاء، بجميع الأمهات.
ويعني اللجوء في وجوه منه، الاضطرار؛ يقول صاحب العروض والعين، وألجَأنا الأمرُ إلى كذا، اضطرّنا. وهل يلجأ إلاّ المضطر الهارب المستغيث!
وتتداخل معاني اللجوء بمكان الإقامة والعيش، في أصل العربية القديمة، إذ المعقِل واللَّجَأ، شيء واحد! يقول الفيروز آبادي في محيطه:
اللَّجَأ، المعقِل والملاذ. ولسرٍّ ألسُني في تراتبية مخارج الحروف في العربية، فإن في اللجوء ما هو إكراهٌ ودفعٌ، والتلجِئة بتأكيد الفيروز آبادي: الإكراه. وهي من الكلمات شبه المهجورة، على الرغم مما تحمله من معنى دقيق وسلاسة في اللفظ. وبتتابع خصوصية هذه الألسنية، فإن اللجأ، أيضًا، نوع من الكائنات البحرية، يقول الزبيدي في تاجه، ويقال اللجأة البحرية، للأنثى.
ومن ملوك العرب القدامى في اليمن، من سمّي منهم: ذو الملاجئ.
وأطلق العرب على الزوجة اسم لجأ، والزوجة اللجأُ، نظرًا لما تفترضه طبيعة العلاقة مع الرجل من سكن بين اثنين وحاجة أمن وجمع، وعلى مثل ذلك، فالجبل، هو اللجأُ، في العربية القديمة، ذلك أنه ملجأ لراكبه وللمقيم فيه وللهارب إليه. ولهذا قالت العرب: لجأ أمره إلى الله، أي أسنده، كالتجأَ وتلجّأ. يفصّل التاج.
لجأتُ إليه اعتصمتُ به، وألجأته عصمْتُه، والملجأُ، كل ما لجأت إليه من مكان أو إنسان.ابن سيّده
اللاجئ المعصوم!
ويقول واضع أَكمَل مصنف في اللغة العربية، وهو ابن سيّده المتوفى سنة 458 للهجرة، تبعًا لما وصفه به، ابن منظور، صاحب (لسان العرب): “لم أجد في كتب اللغة، أَكمَل من المحكَم لابن سيده” إن الملجأَ، المعقل. ثم يعطي جميع معاني الاضطرار في اللجوء، حسب ما ذكره في (المحكم والمحيط الأعظم في اللغة).
مخيم اللاجئين تعرض للقصفلكن ماذا قال صاحب أَكمل كتاب في اللغة، عن اللجوء، كي يصبح الأخير خطيرًا تهتز له النفس عند سماعه ثم اشتق العرب منه اسمًا أطلقوه على أبنائهم؟ يقول الأَكمل المحكَم، إن ألجأه أو ألجاه، بالتخفيف، تعني: عَصَمَه! من العصمة الحماية والمنع.
ولم يبتعد الأكمل عما ورد في مقاييس ابن فارس، إذ يورد في معجمه عن كلمة عَصَمَ، هذا المعنى حرفيًا ويقول: استعصمَ، التجأ! وينقل مما قالته العرب في هذا السياق: أعصمتُ فلانًا، أي هيأت له شيئًا يعتصم، أي يلتجئ ويتمسّك به. وعصَمَ، فيها منعٌ وملازمة، ومن ذلك العِصمة: أن يعصم الله تعالى عبده من سوء يقع فيه. توسُّعٌ لصاحب المقاييس، يضيف عليه صاحب التاج ويقول: ألجأَ فلانًا، عَصَمَه، ويقال ألجأت فلانًا إلى الشيء، إذا حصَّنته في ملجأ.
ومن الجدير بالذكر، أن ما قاله صاحب المحكم، عن اللجوء، مختصرًا، ذكره مفصلًا، في موسوعته الكبيرة المعروفة بالمخصَّص، فيذكر للجوء أسماء وصفات مختلفة، لما لهذه الكلمة من خطورة في السليقة العربية، فأصبحت اسمًا للأشخاص، ويقول إن “اللَّجَأ موضعٌ منيع من الجبل والجمع ألجاء وبه سمِّي الرّجُل والملجأ”.
وفلانٌ معقلٌ لقومه، أي ملجأ. ثم لاذ واستترَ وتحصَّنَ واستندَ واحترز واستجارَ وتخفَّرَ واستعاذَ، وغيرها، كلها تجري في مجرى اللجوء والملجأ والاستناد، بحسب المخصص.
قصف تركي بالماء الساخن لصد الفارين عن عبور الحدود كلاجئينأنصفت اللغة العربية اللاجئين واللجوء، منذ قرون، وضمّنتها المعاني الخطيرة التي منها، أن اللاجئ صاحب عصمة تمنع من إيقاع أي أذى به. فيما أمم من اللاجئين الآن، بدون أي عصمة وحماية، إلا في كلمات اللغة العربية التي لو كانت دولا أو أشخاصًا، لوفّرت أشرف سبل العيش والكرامة لهم، إذ ليس الملجأ فقط هو مكان للاستتار وضمان الحماية واللجوء، بل بني البشر أيضًا هم ملاجئ – بالنّص- للاجئين، كما ينقل ابن سيّده في مخصصه الذي لا يقدّر بثمن: “لجأتُ إليه، اعتصمتُ به وألجأته، عصمْتُه، والملجأُ، كل ما لجأت إليه من مكان أو إنسان!”

