
عزيزة علي
عمان – احتفى شعراء ونقاد اول من امس بالشاعر والناقد د. حكمت النوايسة بمناسبة صدور كتابه “السجون – سيرة ذاتية بين المرض والمخيلة”، الذي يروي فيه تجربته مع فقدان خمسة عشرين عاما من الذاكرة بسبب اصابته بفيروس، شارك في الندوة كل من زهير أبو شايب، غازي الذيبة، د. راشد عيسى.
في توضيح على غلاف الكتاب؛ يشير النوايسة الى ما حصل معه بعد أن تعرض لحالة مرضية جعلته يفقد “خمسة عشرين عاما من ذاكرته”، لافتا الى ان هذا الكتاب هو تدريب للذاكرة على استعادة المفقود، ويحاول أن يرسم بالحس الروائي صورة لأي إنسان يمكن ان يصاب بمثل هذا المرض، وهو اذ يحاول ترميم الذاكرة.
وأكد النوايسة ان “هذا الكتاب هو مغامرة حقيقة بالنسبة له، حيث كان يشعر بالخوف قبل الكتاب وبعدها، قائلا: حاولت ان أتوقف عنده نقط محددة حتى لا استمر في الكتابة، والمغامرة أن هناك فراغات هائلة جدا في الذاكرة، فحاولت ان أرمم شيئا منها بمساعدة زوجتي “أحلام العبادي”، والكثير من الأصدقاء الحقيقيين، واستطعت ان أجد شيئا من الذاكرة المفقودة الذي قدره الأطباء وهو “25” عاما من الذاكرة مسحت.. وهذه الأعوام هي المدة التي يتشكل فيها الانسان والكاتب، وهو العمر الذي كتب فيه الانسان ما كتب، ووعي فيها ما وعى، وشكل ثقافته، شكل ذائقته الأدبية، فكيف لي ان اقتنص شيئا من هذا المفقود، ما جعلني اتحايل والجأ إلى المتخيلة كما جاء في عنوان الكتاب.
متحدثون في الندوة التي أقيمت في المركز الثقافي الملكي، بينوا أن النوايسة في كتابة حاول استرجاع ما محاه فيروس النسيان من الذاكرة البعيدة والطفولة وجزءا من الذاكرة المتوسطة الى مرحلة الشباب، وحاول ان يصقل ما فقده من أيام في رحلته المضنية إلى الذاكرة المفقودة، فقبض عليها.
الناقد د. راشد عيسى الذي ادار الندوة قال إن ما أصيب به النوايسة هو كما يحصل في جزء من ذاكرة الكمبيوتر بعطب أو بفيروس النسيان فأمحى الكثير من البرامج وبقي بعضها. جزء من برامج الذاكرة البعيدة الممثلة بزمن الطفولة وجزء من الذاكرة المتوسطة في مرحلة الشباب. أما المرحلة العمرية المتوسطة فتعرضت عند النوايسة الى لما يشبه المحو وهي مدة تقارب عشرين عاماً.
ويتابع عيسى حديثه ان النوايسة استطاع أن يستفزّ فاعلية العقل الأدبي الممثل بالمخيّلة لينشّط الجزء المتضرر من هندسة الذاكرة في الدماغ. وفي هذه المسألة يتدخل علمان علم نفس الأدب وعلم النفس الإكلينيكي ليتشاورا في تفسير أثر الفسيولوجيا في سيكولوجية الإبداع.
وبين عيسى ان ثمة صراعا ممتعا بين الذاكرة البعيدة المستقرة والذاكرة القريبة المشوّشة، ومن الواضح أن النوايسة امتلك شجاعة استثنائية في تدليك أعصاب الذاكرة، نتج عنه هذه الفيوض والانثيالات الحرّة التي تمثلت في أشكال أدبية نثرية مختلفة، فنجد بعض الفيوض متجهة إلى الحكاية بأسلوبها البسيط، ونجد القصة القصيرة بعناصرها الفنية، ونقف على المقالة الأدبية، ونستشعر حضور السرد الروائي في بعض الصفحات، ونتأمل ما هو مندرج تحت باب الأحداث والمواقف الأسرية الخاصة. كانت كاميرا الذاكرة تتنقل بين غابات الوعي لتصور ما يقع تحت عدستها من وقائع لم تفلت من قرص الذاكرة.
واشار الزميل غازي الذيبة الى ان النوايسة من أول سطر في “سجونه”، لم يستسلم الى فكرة أن يكون عابرا، كان يتهيأ لما هو أبعد من مجرد العبور، ذاك كله، يكشف تلك الإرداة الألماسية، وهو يصقل ما فقده من أيام في رحلته المضنية إلى الذاكرة المفقودة، يقبض عليها، يصوغ ما هرب منها بدأب ومهارة، يَترجّع فيه صدى النسيان كأنه الحضور، فيرتفع صوته تارة، ويخفت، ليتمكن من قول ما يريد بهدوء ودون ضجيج.
ولفت الذيبة الى ان هذه السيرة وكأنها، لم تُصغ لتتفقد النسيان، بل ليتوهج في حناياها ما كاد أن يغيب، حتى جاءت اللحظة التي يكشف فيها عنها، وحتى تفصح عن رحابة الشاعر في اجتراح معجزته في اللغة ومعجزته في اقتناص ما لا يقتنصه العادي من صور وأهواء ومناخات ورؤى وتعاليم.
وخلص الذيبة الى أن النوايسة لم يكتب يوميات، ولا تفاصيل توثق لأزمنة مضت، بل ذهب إلى الخلاصات مباشرة في الكشف عن حياة عاشها بكل ما فيها من صخور وتلال وبرار، مضيئا اللحظات التي تتشكل فيها سيرة الشاعر في فتوته وسيرته في شبابه، وصوته الذي يتصادى في حقول الذاكرة، تلك التي كادت أن تسجنه في الغياب، فكسر قضبانها، وأطلق عصفوره حرا في فضائها الشاسع، ليقول حريته كاملة.
فيما أشار الشاعر زهير أبو شايب الى ان من يقرأ هذا الكتاب لا يمكن ان يشعر بان النوايسة كان غائبا جزئيا أو كليا عن احداث هذه السيرة اثناء وقوعها، وهذا يشير الى ان قوة الدفاعات التي امتلكتها ذات النوايسة في مواجهة المرض، وقوة الإسناد الذي قدمه له الأشخاص المحيطون به واخص رفيقة دربه “ام منيب”، والأصدقاء.
ورأى أبو شايب ان كل المفردات التي تتشكل منها العافية هي سجون في حقيقة تشكل لنا الكثير من الأشياء مثلا: الجمال سجن، والحب سجن، والمبدأ سجن، واللغة سجن، والأنا سجن، والصورة سجن، والمنفذ سجن، والاحلام سجن، والذاكرة أيضا ذاتها سجن؛ وإذن، فليس على المريض ان يشعر بالخسارة لمجرد أنه مرض، بل عليه ان ينتبه إلى السجون التي تحرر منها بسبب المرض تحديدا.
وتحدث أبو شايب عن الفصل الموسوم في الكتاب بـ “الشعر وسجن التذكر”، الذي تأمل فيه النوايسة الطفولة ويربط بينها وبين الشعر وبين المقاومة، وهو خير تمثيل للحيل الدفاعية المدهشة التي لجأت إليها الذات لتقاوم النسيان، فالعودة الى الطفولة هي عودة الى ما قبل الذاكرة والذهاب الى الشعر هو ذهاب الى ما وراء الذاكرة، تلك مناورات لاجتياز الذاكرة المريضة أو المفقودة وملء الفراغ الناجم عن فقدانها.