إن العين نوع من أنواع الحسد، وإن العين من الآفات الخطيرة، والأمراض المدمِّرة، والشرور المنتشرة، وقد ورد في بعض النصوص أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: “أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالعين“. ( السلسلة الصحيحة).
وإن المتأمل في أحوال الناس اليوم يراهم يكادون يعلقون كثيرًا من أمراضهم وابتلاءاتهم ومصائبهم وفشلهم وخسائرهم ومشكلاتهم بالعين؛ ولذلك، فإن دعوى الإصابة بالعين أصبحت وسيلة جاهزة للتسويغ والاعتذار لأمور كثيرة، حتى كسلُ بعض الناس أو تقهقره في العبادة يحمل على العين.
بل أصبحت دعوى العين والسحر والمس من المسوِّغات الجاهزة لكثير من الأزواج والزوجات لتسويغ أخطائهم، أو مشكلاتهم الزوجية أو ما يحدث من كره وبغضاء وجفاء، أو أخطاء بعضها كبير وفادح، ولقد مر بي كثير من ذلك فرأيت من الحِيَل الشيطانية ما يعجز عنه الشيطان نفسه، وليس هذا مجال عرضها.
إن العين -مهما كان من أمرها-، ومع اعترافنا بكثرة الإصابة بها، إلا أنه لا يجب أن نصل إلى حد الوسوسة في ذلك؛ فإن هذا الوسواس يبعث القلق والخوف والتكاسل والإهمال والاستسلام، وأخطر من ذلك أنه لا يجعل الإنسان يبحث عن الأسباب الحقيقية وراء ما أصيب به فيحاول تلافيها؛ لأنه قد اختصر مشاكله كلها في العين، فلا سبيل للحل لما هو فيه في نظره.
العين هي سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن تجاه المحسود والمعِين، إما بسبب الحسد والكره والحقد، وذلك أخبث ما يكون، وإما بسبب الإعجاب أو الانبهار، وهذه السهام قد تصيب وقد تخطئ، فإن صادفت المعين ليس له وقاية ولا حماية مِن تحرُّزٍ وأوراد، ويقين وإيمان، أثَّرَتْ فيه، ونفذت إلى روحه، وإن صادَفَتْهُ متحصِّنَاً بالإيمان، متدرِّعاً بالأوراد، متترِّساً بالفرائض، فلا منفذ لها فيه بإذن الله تعالى.
وقد تكون العين من إنسان قريب أو محب، وليست بدافع كره أو حسد، ولكنه الإعجاب الشديد الذي لم يصحبه مباركة أو ذكر لله تعالى، وذلك أمر متعارف عليه بين الناس، بل قد يَعين الأب ابنه، أو الزوجة زوجها، أو الصديق صديقه.
وقد حدث ذلك في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حيث كان -صلى الله عليه وسلم- في أحد أسفاره، وكان معه سهل بن حنيف، وكان رجلاً أبيض حسن الجسم والجلد، فلما كانوا بموقع يسمى الجحفة اغتسل سهل بن حنيف، فنظر إليه عامر بن ربيعة فقال: ما رأيت كاليوم، ولا جلد مُخَبَّأة! فسقط سهل بن حنيف، ولم يستطع أن يتحرك من مكانه.
فأتوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا له: يا رسول الله! هل لك في سهل؟ والله ما يرفع رأسه! قال: “هل تتهمون فيه من أحد؟” قالوا: نظر إليه عامر بن ربيعة، فدعاه -صلى الله عليه وسلم-، فتغيظ عليه وقال: “علام يقتل أحدكم أخاه؟ هلَّا أذا رأيت ما يعجبك برّكْتَ؟“.
ثم قال له: “اغتسل له“، فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبيته وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح، ثم صبه رجل على رأس سهل وظهره من خلفه، فقام سهل مع الناس وليس به أدنى بأس. (أخرجه أحمد وصححه ابن حبان). وهذا الحديث أصل في طريقة الرقية من العين.
إن العين حق لا مراء فيه، ولا ينكره إلا مكابر جاهل، صحيح أنها فوق إدراك العقل وتفكيره، ولكنها من الأمور التي نؤمن بها، وإن لم ندرك أسرارها وكيفيتها، يقول -صلى الله عليه وسلم-: “العين حق، ولو كان شيء سابقاً القدر سبقته العين، وإذا استُغْسِلْتُمْ فاغسلوا“. (أخرجه مسلم).
إن العين كانت من ضمن محاولات الكفار لإبطال دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- والتخلص منه، قال تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم:51]. قال المفسرون: أي أرادوا إصابته بالعين. ليزلقونك: أي لينفذونك بأبصارهم ويَعينوك؛ لحسدهم لك، ولبغضهم لما جئت به.
ويقول -صلى الله عليه وسلم- مبيناً خطورة العين: “العين تُدخِلُ الرجلَ القبرَ، وتدخل الجمل القدر“. (أخرجه أبو نعيم في الحلية وحسنه الألباني).
إذا أصيب المسلم بالعين فإن هنالك -ولله الحمد- رقية شرعية، وأدوية إيمانية، إذا أخذ بها واثقاً بموعود الله، متوكلاً عليه، راضياً بقضائه، متبعاً لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، فإنها تثمر لا محالة؛ والرقية من العين أمر مشروع علمنا إياه المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، ودلنا عليه.
تقول عائشة -رضي الله عنها-: أمَرَ -صلى الله عليه وسلم- أن يُسْتَرقى من العين. ويقول -صلى الله عليه وسلم-: “لا رقية إلا من عين أو حُمَه“. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعوِّذ الحسن والحسين، ويقول: “إن أباكما -يعني إبراهيم عليه السلام- كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة“. (أخرجه البخاري). ورأى -صلى الله عليه وسلم- جارية في بيت أم سلمة وفي وجهها سفعة فقال: “استرقوا لها فإن بها النظرة“. (متفق على صحته).
لذلك فإنه من المشروع لمن عرفت إصابته بالعين أن يُعالَجَ بالرقية، ويكون العلاج بأحد أمرين، إما أن يكون العائن معروفاً، فهذا علاجه أسهل وأسرع، فإنه يؤمر بالاغتسال، بأن يغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في إناء، ثم يصب ذلك الماء على رأسه وظهره؛ فإن لم يتيسر هذا، ولم يتمكن منه، فإن الحصول على أي أثر من العائن، كبقية طعام في طبق، أو ماء في كأس، أو نوى تمر، أو ما إلى ذلك، فإنه ينفع، بإذن الله تعالى.
أما الأمر الآخر، والطريقة الثانية للعلاج، فهي العلاج بالرقى الشرعية، خصوصاً إذا لم يعرف العائن، والتعويذات والرقى الشرعية كثيرة، ومن أهمها: قراءة المعوذتين، وفاتحة الكتاب، وآية الكرسي، ومنها التعويذات النبوية، مثل: “أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق“. (أخرجه مسلم). “أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة“. (أخرجه البخاري).
ومنها: “أعوذ بكلمات الله التامات، التي لا يجاوزهن بَرٌّ ولا فاجر، من شرِّ ما خَلَقَ وذرأ وبرأ، ومن شَرِّ ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق، إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن“. (أخرجه أحمد). إلى غير ذلك من الأدعية والتعويذات النبوية المباركة.
ومما يلاحظ هنا أن بعض الناس إذا أصيب بالعين أو السحر أو خلافه يظل يبحث يميناً وشمالاً عمن يرقيه أو يقرأ عليه وينسى نفسه، وكأنه ليس بمؤمن بالله! إنه ليس هنالك من أحد أعرف بالإنسان من نفسه، فعليه أن يصدق في دعائه ورجائه وانطراحه بين يدي ربه، ويكثر من القراءة على نفسه بالأوراد والأدعية المذكورة. ويجب الحذر من الانسياق وراء كل مُدَّعٍ للقراءة والرقية.
ومما يعالج به داء العين؛ الصبر والرضا، فإن النصر مع الصبر، واليسر بعد العسر ، والصبر مفتاح الفرج.
كانت تلك هي الرقى والأدوية الشرعية لمن أصيب بالعين، ولكن هنالك أسباباً عديدة ورقى مباركة تمنع من الإصابة بالعين، وتقي الإنسان شرها وشر أربابها بإذن الله تعالى، ومنها:
1- الإكثار من قراءة المعوذتين، والتعوذ بالله من شر الحاسد إذا حسد.
2- ستر ما يخشى عليه من العين من منظر باهر، أو شيء ملفت، أو تحصينه بالأوراد والأذكار، مع اليقين التام أنه لا يضره أحد إلا بإذن الله تعالى.
3- الاحتراز من العائن، قال القاضي عياض: قال بعض العلماء: ينبغي إذا عرف واحد بالإصابة بالعين أن يُجْتَنَبَ، وأن يحترز منه، لذلك على الإنسان أن يحتاط قدر الإمكان، ويبذل الأسباب؛ فها هو يعقوب -عليه السلام- حينما خاف على أبنائه أمرهم أن لا يدخلوا من باب واحد، بل من أبواب متفرقة؛ لكي لا يلفتوا الأنظار إليهم، ولكي لا يعترضهم أهل الحسد والشر؛ لأنهم كانوا في قمة الحسن والجمال والهيبة.
وانظر إلى هذه المعاني البديعة التي ترسيها نصيحة يعقوب لأبنائه، وهو يحتاط ويبذل الأسباب؛ ويجب -مع بذلها- حُسْنُ التوكُّلِ عليه تعالى لا على الأسباب: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف:67].
4- تقوى الله تعالى وحفظه في أمره ونهيه، والتوكل عليه تعالى، والثقة بنصره.
5- الدعاء له بالبركة، كما جاء في حديث سهل بن حنيف، كأنْ يقول: “بارك الله”، أو “اللهم بارِك له فيما أعطيته” ونحو ذلك.
هذه هي الأسباب التي بأمر الله تعالى تمنع وقوع العين والإصابة بها، وتمنع الحسد بكل أشكاله، وإن هنالك أموراً هامة لدفع حسد الحاسد عموماً، إضافة إلى ما سبق، ومن أهمها:
1- كثرة الصدقة والإحسان، فإن لها تأثيراً عجيباً في دفع البلاء، ودفع العين، ودفع شر الحسد، قال -صلى الله عليه وسلم-: “صنائع المعروف تقي مصارع السوء“. (صحيح الترغيب والترهيب).
2- وهو من أصعب الأسباب على النفس وأشقها عليها، ولا يوفق له إلا من عظم حظه، وهو إطفاء نار الحاسد والباغي والحاقد بالإحسان إليه، فكلما ازداد أذى وشراً وبغياً وحسداً، ازددت إليه إحساناً، وله نصيحة، وعليه شفقة، قال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34–35].
جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول اللهَ! إن لى قرابة أصلهم ويقطعونى وأحسن إليهم ويسيئون إلى وأحلم عنهم ويجهلون عليَّ. فقال: “لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك“. (أخرجه مسلم).
3- وهذا هو الجامع لكل الأسباب والأساس لكل الرقى، وهو تحقيق التوحيد لله تعالى، واليقين الجازم بأن هذه الأسباب جميعها بإرادة الله تعالى وقدرته، وأن بيده مقاليد السموات والأرض، وأنه خالق كل شيء وبارئه، وأنه لا ينفعه شيء ولا يضره إلا بإذنه: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:107].
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: “يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله؛ واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعَت الأقلام، وَجَفَّت الصحف“. (أخرجه الترمذي وصححه الألباني).