حين اعتقدنا أننا نجونا في حلب
[wpcc-script type=”72dbdbf8ce1da21be7f135e8-text/javascript”]
أحاولُ تصديق أنني نجوتُ حقاً من الحرب التي تدور في حلب إلى هذه اللحظة، حينما حملتُ حقائبي وغادرتها في أيار/مايو عام 2014، لذا أفعلُ كل ما يمكن أن يفعلهُ الأحياء والناجون بأعجوبة من الموت.
ابتسم، أسافر، أقعُ في الحُب، أتعلم لغة جديدة، أكتب الشِعر، أشعلُ الشموع، وأرتبُ منزلي الجديد وأسقي أصيص الزنبق، لكن مع كل صورة خراب تخرج من حلب، تنهارُ حياتي هنا كما انهارت هناك، فمن منا قادر على فصلِ نفسهِ وذاكرتهِ عن الحياة التي قضاها في تلك المدينة، التي حولوها لأنقاضٍ حزينة تطل علينا بصورها على شاشات الأخبار، ومواقع التواصل الاجتماعي، وكأنها تلوح لنا ببقاياها الناجية، بحبال الغسيل المعلقة على شرفة منزل مهدم، بأرجوحة طفل بقي نصفها تحت الركام، بقفل الباب الذي ظل صامداً أمام البرميل، يقول صديق لي:
فكرة النجاة وهم في الحروب، تعتقدين أنك نجوت بنفسك حينما حملت حقيبتك وغادرت حلب، لكن انظري ما يحدث الآن، تبكين كالأطفال وأنت تتابعين الصور والفيديوهات المقبلة من حلب وأنت على بعد آلاف الأميال، لا تستطيعين النوم وأنت تتابعين سقوط المدينة، سقوط الأمل بأنك قد تعودين إليها يوماً، تدخلين منزل العائلة، تجدين كتبك وسريرك وشجرة البرتقال مكانها، تمشين في شوارعها، وتضحكين لأنك استعدت مدينتك من فمِ الحرب والديكتاتور، ترددُ أمي المرأة التي تجاوزت الستين من العمر وأصبحت لاجئة غريبة في هذه البلاد التي لا تفهم لغتها: سأعود إلى حلب ما أن يتحسن الوضع قليلاً، أمي تؤكد كل يوم أنها ستعود لمنزلها وأنهُ سيتحسن الوضع يوما، هي لا تصدق مثلنا أننا خسرنا المدينة وسقطنا معها في فم الديكتاتور ودباباته وطائراته، فأنظرُ حولي فأجدُ أن أقصى ما أتمناه اليوم هو أن أمر يوماً على تلك الديار، وألقي بتحيتي على حلب وأشتري صابون الغار من أسواقها القديمة لرجل أحبهُ أغني لها «ع روزانا..ع روزانا كل الحلا فيها.. يا رايحين على حلب حبي معاكم راح»، أن أتعرف على ما كانت يوماً مدينة، أن أحافظ على صور أحيائها بذاكرتي، بعد أن انمحت بفعل القصف والبراميل، أريد أن أتعرف على المدينة حتى لو اختفى كل شيء على أرضها، أريد أن أشير بأصابعي إلى «حي الشعار» وسوقه الذي أخذنا أبي إليه ونحن أطفالٌ ليشتري لنا ثياب العيد، أريد أن أشاهد محل البائع الذي اختار لي ثوباً أزرق، أريد أن أرى بقايا الكنيسة في حي الجديدة، الكنيسة التي أشعلت فيها الشموع، الأحياء والحارات والشوارع، وكأنها لا تزال هنا، تلوح لي، أريد الكثير من هذه المدينة كما لو إنني وإنها نجونا من هذه الحرب بمعجزة.
بقيتُ لأكثر من عام أتجنب الصور المقبلة من حلب، حتى أؤسس حياتي هنا بلا صدامات مع الماضي، أردتُ نسيان الحرب حتى أحيا ككائن طبيعي هنا من جديد، لم أكن أتوقعُ إنني اليوم سأعودُ لأبحث عن كل تلك الفيديوهات والصور التي تجنبت مشاهدتها فيما مضى لأنبش تحت أنقاضها عن حياتي هناك، عن صوت الأطفال وهم يصرخون طالبين النجدة، عن رائحة السيروم والكحول في المشافي، عن الحقائب المهترئة التي يحملها عجائز حلب وهم يخرجون من منازلهم وظهورهم منكسرة من الخذلان، العالم والثورة والبراميل التي خذلتهم، أن أبقى أُكبر في الصور التي التقطت بتقنية عالية لأنقاض وركام المنازل، أكبر كل جزئية فيها حتى أعثر على صوت الحياة بين ذلك الموت.
أردت تصديق أن هذه الحرب تقعُ بكل هذه القسوة في مدينتي، وليست صفحة في رواية قرأتها عن الحرب العالمية الأولى أو الثانية، أن أصدق أن كل هذا الألم الذي نعيشه هو واقعي وضروري لنصدق «الدم الذي على يدنا».
٭ شاعرة سورية
وداد نبي