إتقان التعامل مع ماديات الحياة
[wpcc-script type=”ee7abcce5b7cb1f5059cffed-text/javascript”]
«يعتبر العيش مع بشر مختلفين عنا- عرقيا أو إثنيا أو دينيا أو اقتصاديا- أحد أكبر التحديات التي تواجه مجتمعنا اليوم. وقد سهّل الاقتصاد والتقدّم التكنولوجي تفكّك التعاون مع الآخر ليحل مكانه نوع من العلاقات القبلية التي تبحث عن حالات تضامن مع آخرين مشابهين لنا، وعن أشكال عدائية ضد من هو مختلف عنا، وحديثا أوجدت وسائل التواصل الاجتماعية أشكالا من التواصل تساهم في تسطيح التعاون وتعزّز القبلية».
في تركيزه على مسألة التعاون يغوص ريتشارد سينيت عميقا في بنية الحضارة الغربية مجملا والأوروبية تفصيلا، في طبقات تاريخها الاجتماعي والثقافي، مستعينا بخبراته الخاصة في الحياة الاجتماعية كفاعل حيوي متحرك بين المدن الغربية والأوروبية ملامسا حيواتها اليومية في سياقات الحداثة على كافة مستوياتها المركبة، مستكشفا عبر تناقضاتها البنيوية الأثر الذي خلفته معتركات الأيديولوجي في تكوينها، مستصحبا مشاهداته وملاحظاته الشخصية، في مواجهة شديدة الوضوح مع النظام الرأسمالي من حيث نشأته وتخلقه لا من منصة أيديولوجية ينطلق، هو يُعْمل أدواته كباحث اجتماعي يعتمد في دراسته على أبحاث في الانثروبولوجيا والتاريخ وعلم الاجتماع والسياسة.
مزاج التعاون:
يستهل سينيت مقدمة كتابه بسرد قصة حدثت في باحة مدرسة في لندن بطلها اصدقاء حفيده، حيث يستولي الأطفال على نظام صوتيات المدرسة بوضع أغنية معينة، لا يفهمون ما تعنيه كلماتها تحديدا، لكن طفلة في عمر ستة أعوام تهز ردفيها على وقع الموسيقى، الأغنية التي ظهرت للمرة الأولى سنة 2008 للمغنية «ليلى آلن»- يشرح ريتشارد سينيت- كانت موجهة ضد اليمين، وعندما غنتها في مهرجان غلاستونبيري 2009 قالت إنها كانت تقصد فيها بالخصوص الحزب القومي البريطاني. يسرد ريتشارد، لم يكن لدى الفتيان أدنى فكرة عن أن قصد المغنية الاستهزاء من كلماتها هي نفسها «اللعنة عليك، اللعنة عليك» بل بدت لهم إعلانا مباشرا لـ»نحن- ضدكم»، إنه شعور خطير في هذا الجزء الخاص من لندن، حيث تقع المدرسة: خليط ديانات وأعراق وطبقات متنوعة، ففي هذا الجزء من المدينة تصبح «نحن- ضدهم» وصفة للصراع. في الواقع لطالما يشهد هذا الجزء من لندن فورات عنف متكررة. الثنائية (نحن- ضدكم) ستصاحبنا كثيرا في مسار هذه الدراسة، التي نتعرف من خلال مساراتها الشيقة، رويدا، رويدا على ما هو «التعاون» الذي يعنيه صاحب الدراسة.
«يمكن أن نعرِّف التعاون ببساطة على أنه نوع من التبادل يستفيد المشاركون فيه من التلاقي» لكن هذا التعريف البسيط يتطور مفاهيميا صعودا وهبوطا في رحلة البحث عبر المصادر المختلفة والمتنوعة، المقدمات والتحليل والنتائج، منذ التعاون في الطفولة المبكرة، هذا الحقل النفسي بامتياز، إلى الحوار والمحادثات الجدلية والحوارية، والتعاطف والمواساة، وصولا إلى التعاون «أونلاين».
تاريخ وحشي
الخلفيات الثقافية العميقة التي يبني عليها المؤلف عمله هنا، تجعل من مادة الكتاب وليمة شهية وجذابة، سرد أحداث تاريخية معينة بتفاصيلها ومن ثم تحليلها والبناء عليها بما يخدم خطة البحث، يتطلب من القارئ أو المتلقي أن يكون محيطا بمعرفة السياقات، سياقات التاريخ الثقافي والاجتماعي، مسرح الأحداث الذي يشغله الكاتب ويلعب فيه مفاهيميا ومعرفيا، والكاتب يجول بنا في معرض باريس الدولي سنة 1900، وينقلنا إلى أجواء الحرب الأهلية الأمريكية، مرورا بحدث اعتاق أقنان روسيا سنة 1861، ويدعونا لاختبار تجربة اللعب في فرقة موسيقية ويحفزنا للتأمل في مسألة التربية – تربية الأطفال، وهو يوظف أيضا لوحات مثل «مملكة السلام للفنان الأمريكي «دوارد هيكس أو لوحة «السفراء» التي أنجزها هانس هولباين سنة 1533- معلقة الآن في «غاليري لندن الوطني»، بجانب الانتباه لـ«كتاب الأناشيد» لمارتن لوثر في لوحة هولباين، على سبيل المثال؛ كل ذلك منتج في حوار خلاق مع الحاضر، في قراءة مفتوحة لعلاقات العمل التي أنتجتها الحداثة الرأسمالية الماثلة، عبر تاريخها الوحشي العريق؛ «لقد أخذ أسلوب العمل الحديث شكل عمل مؤقت بطابعه، نتيجة تزايد استبدال التوظيف طويل الأجل بعقود قصيرة أو مؤقتة في المؤسسة (…) كما أن العلاقات الاجتماعية عابرة وقصيرة داخل المؤسسات، نتيجة أن الإدارات توصي بعدم إبقاء فرق العمال مع بعضها لأكثر من تسعة إلى اثني عشر شهرا».
صياغة التعاون
ما هي المهارات التي يحتاجها البشر في حياتهم اليومية؟ في هذا السؤال البسيط شكلا يجد الباحث حاجة ملحة للنبش في نظريات حياته بأكملها، ويتحفز للدرس، ومنه أيضا ينطلق في البحث عن موضوع جديد، من خلال التفكير بروية أكبر في الأمور العادية، يكتب ريتشارد في مستهل سفره: «بدأت بدراسة الحرفية كمسعى لاتقان التعامل مع الأشياء المادية (…) إن عمل الشيء الجيد لذاته، كما أزعم، إمكانية تمتلكها معظم الكائنات البشرية، لكن هذه المهارة لا تحظى بتكريم لائق في المجتمع الحديث، داخل كلِّ واحد منّا ثمة حرفي ينتظر تحريره».
كتاب «في مواجهة التعصب: التعاون من أجل البقاء»- ترجمة حسن بحري، يتناول باسهاب كيفية صياغة التعاون، وكيف يمكن تقويته وكيف يمكن أن يعتريه الضعف، يستعرض في كل جزء منه أشكال التعاون من حولنا، ويعرض سلسلة من حالات مدروسة وملموسة وضعت في سياق يغلب عليه النقاش الحواري. الجزء الثاني بحث سوسيولوجي بطابعه، يتناول كيفية إضعاف التعاون، كل تركيزه على الحاضر، أما الجزء الثالث فهو مكرس لتمحيص طرق التمكُّن من تعزيز التعاون، ينصبُّ تركيز الباحث فيه على المهارات التي تمكّنُ من فعل ذلك.
٭ كاتب سوداني
«في مواجهة التعصب» لريتشارد سينيت
الصادق الرضي