على هامشِ النجاة

يجيئون برّاً وبحراً وجوّاً

على هامشِ النجاة

[wpcc-script type=”1b01ca7aeea152dbc2dde1c4-text/javascript”]

يجيئون برّاً وبحراً وجوّاً
يفرّون بين العواصم.. بين الحدود
كأن الخرائطَ وهمٌ وحصَّتَهم في الحياةِ هروبٌ
كأنّ البلادَ عيونٌ من العتمِ تزفِرهم في الضّبابِ
لقد كنتُ أحفظُ حارتنا مثل كفِّ يدي
والشوارعَ صوبَ بناءِ السرايا
وأعرفُ تاريخَ كلّ العوائلِ، أعرفُ كلّ العجائز
كلّ البنات اللّواتي تعثّرن بالحبِّ في شارعِ الستّ زينبَ
أعرف كلّ الدّكاكينِ.. كلّ رصيفٍ يشاكسهُ العشبُ
أعرف أعرف أعرف
حتّى تهيّأ لي أنّني معجمٌ لمكاني
وإذْ قيلَ لي: يا فتاةُ الكلامُ حرامٌ
بكيتُ إلى لغتي: دثّريني!
اختبأتُ وأغلقتُ اسمي عليَّ
أنا نقطةُ النّونِ
روحي مرايا الخيامِ .. من الظلِّ تحتَ الشجرْ
وحتّى الشتاتِ..
رأيت ملائكةً نائمينَ.. شبابيكَ مشرعةً
وستائرَ تأخذنا صوبَ ما يشتهيهِ الخيالُ
بلادٌ من الشِّعرِ مأخوذةٌ بالخيامِ وبالرملِ
رعبٌ يسوسُ الجياعَ ليعتصموا بالقبيلةِ
كنّا شمالَ الرمالِ ممالكَ مفتوحةَ للجيوشِ
ولكنّنا لم نكنْ عابئينَ بإرثِ الألوهةِ
لم نكترثْ للزمانِ المخاتلِ
لم ننتبه للخلودِ الذي نامَ قربَ أساطيرنا..
وارتحلنا بأقدارنا هاشلينَ
لأبعدَ من أن يكون الحنينُ قرينَ المسافرِ
ودّعتُ كلّ الذينَ أحبُّ وعانقتُ روحَ المكانِ لآخرِ مرّة
غمرتُ عيونَ رفاقي وأهلي.. وإطلالة البيتِ
رتّبتُ للقلبِ أشياءَهُ:
خطُّ جدّي بديوانِ شعرِ أبي الطيّبِ المتنبّي
كظلِّ النبوءةِ
مكتبتي في الجدارِ وأشجارُ باحتنا
بابنا والممرُّ إلى درجِ البيتِ
طقسُ المؤونةِ والكعكِ في العيدِ
خزّانُ ماءٍ على السّطحِ
رتّبتُ أشياءَ قلبي
وما طاوعتني الكتابةُ
ما عانقت لغتي رغبتي
ذكرياتي البعيداتُ مِلنَ على حاضري
فترنّحَ ثمَّ انحنى..
وذاكرتي لا تنامُ ولا تتركُ النومَ لي!
أيمتلكُ الهاربونَ وداعاً؟!
مضى نصفُ عامٍ وعامٌ على رحلتي
لم أحسَّ بأنّي أنا في الوداعِ
توزّعتُ حولَ المكانِ وفيهِ أراقبُ طقسَ الرّحيلِ
ومرَّ الوداعُ كحادثِ سيرٍ
أنا حفنةٌ من ضبابٍ..
أراقبُ كيفَ يمرُّ بيَ الموتُ
يلمسُ وجهي ويمضي..
فأنظرُ حولي بعينينِ مذعورتينِ
أرى جُثثَ النّاسِ منفيَّةً في الهواءِ معلّقةً
في صدى الكلماتِ التي حاصروني بها..
الطّريقُ هوَ المشيُ
كنّا نظنُّ المياهَ طريقاً ولكنّها عدمٌ
واختبارٌ لما جفَّ من حظِّنا / هل سنطفو؟!
رمى البحرُ وهماً.. نؤوِّلُ أحلامنا حولهُ
فتَبِعنا المكيدةَ حتّى نهاياتها
لم نكن أنبياءً ولا آلهةْ
ولا سمكاً، فغرقنا!
ألا أيّها البحرُ أرجعْ لنا ما أخذتَ
ويا أيّها العالمُ المتمدّنُ شكراً لأنّك زركشتَ قصّتنا
وصيّرتها فُرجةً في متاحفَ ما بعدَ بعدِ الحداثةِ
إنَّ الطّريق هوَ المشيُ، أقدامنا تعبتْ
فيئسنا وقلنا ستوصلنا الشاحناتُ
زنازيننا رافقتنا
وأشباحُ قاتلنا شهَقَتْ فاختنقنا، ومِتنا!
عبرنا الطّريقَ وكُنَّاهُ
إنَّ الطّريقَ هو الواقفونَ بكلِّ الحدودِ..
إلى الموتِ: أجّل خطاكَ إلينا
إلى قبرنا في المنافي: استدر مثلَ أقدارنا وأعدنا لجبّانةِ العائلةْ
إلى عتباتِ البلادِ: هبينا قليلاً من الضوءِ كي نحترقْ
إلى المجزرة: تخيّلتُ وجهكِ لو أنَّ أقدامنا طاوعت قلبنا في الهروبِ
إلى القَتَلة: ستبكوننا ذاتَ يومٍ
إلى الحربِ: هل تمنحينَ البطولةَ أم تمنحينَ النّجاةَ؟!
إلى مَنْ يَعدُّ جباهَ ضحاياهُ: ما هوَ رقْمُ جبينكَ؟
إنَّ الطّريقَ هوَ المشيُ
ظلّلنا شجرٌ لا يبوحُ بأسرارهِ
فبكينا على الوردِ في ساحةِ الدّارِ
كانَ الحصى ناقصاً عن مدانا لننثرهُ
كي يكونَ دليلَ الرجوعِ
وكنّا نَقِلُّ وتمضي هويّتنا في المشاعِ
تشيلُ الشّعوبَ من البحرِ حتّى المكانِ الجديدِ
الشّعوبَ التي شاهدت موتَنا في الحصارِ
الشّعوبَ التي حسدتنا..
الشّعوبَ التي انتظرت أن يؤولَ لها جرحنا
كي تهاجر صوبَ بلادِ الحضارةِ
ها نحنُ ذا هائمونَ أمامَ المرايا
قطعنا أصابعنا كي يكونَ الوصولُ
اعترافاً أخيراً لنا بالخسارةِ
لم أحفظِ اسمَ المكانِ الجديدِ
بقيتُ أردّدُ: بيتي أمامَ الحديقةِ قدّامَهُ منهلُ الماءِ
والآنَ في غربتي لا أصدّقُ لونَ الشجرْ
أخضرٌ كلُّ شيءٍ وقلبيَ كالرّملِ في هاوية
أخضرٌ كلُّ شيءٍ وروحيَ كالغيمةِ الخاوية
أخضرٌ كلُّ شيءٍ وأهذي: خذوني إلى البادية
وصلنا!
أنا الآنَ في الأوّلِ الابتدائيِّ
أطلبُ كأساً من الماءِ أو كوبَ شايٍ
فتفرحُ آنستي ويصفِّقُ لي أصدقائي
وأبكي.. أنا أكتبُ الشِّعرَ في لغتي
لا أريدُ الذّهابَ إلى المدرسة
لا أريدُ التعلّمَ قسراً.. وجرحي يعضُّ على الملحِ
إنّ اللّغاتِ رفاهيةٌ!
وأنا ههنا لستُ شيئاً سوى أنْ نجوتُ من الموتِ
أهلي ورائيَ، بيتي ورائيَ، الذكرياتُ وروحي
وكلُّ الذي قد هذيتُ بهِ قد تركتهُ علِّي أعودُ..
سأسألُ هذي البلادَ التي تركتنا نلوذُ بها، مَنْ أنا ؟!
كنتُ في شارعٍ في بلادي
سمعتُ صراخاً أطاحَ بقلبي كأنّهُ مشمشةٌ عَسَّلت
صرتُ صوتاً فحسبُ، وحرِّيَّةٌ صرختي
ثمَّ ضِعتُ كأنّي صداها.. وضِعتُ وضِعتُ وضِعت
كأنّيَ خيطٌ تدلّى من الكمِّ
كمِّ الإله البسيطِ الذي صاحَ حرّيّةً ثمّ صارَ رماداً
ثلاثُ نجومٍ من الدّمِ تجبلُ للرّوحِ صلصالها
عَلمٌ للبلادِ التي نشتهيها.. مدىً للخيالِ البعيدِ
همستُ لكلِّ الّذينَ معي تحتَ تلك النجومِ الثّلاثْ:
لا تهنوا أيّها الحالمونَ ولا تحزنوا!
ثمَّ كانَ خرابٌ وموتٌ ورعبٌ
خيامٌ على طولِ هذا العراءِ
نجا من نجا ونجوتُ
هنا في البلادِ البعيدةِ كانوا
يجيئونَ برّاً وبحراً وجوّاً
يفرّونَ بين العواصمِ بينَ الحدودِ
كأنَّ الخرائطَ وهمٌ
رفاقي وأهلي وشعبي وحصّتُهم في الحياةِ هروب…

شاعرة سورية

لينة عطفة

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *