دلالة الماء في «أنثى الماء»

لا تقول جملة (أيمن الأحمد) الكاملةُ قصةً، إنما بنوسانها بين القَص والنص ترتجي فعلاً متمايزاً عن كليهما وتخلصُ لهذا الاشتغال المحيّر، إذ تغيبُ الفكرة المحورية بالتماهِ بينها وبين سرّادها، قائليها، فاعليها، وتغمّض عين الحدث على راحتهِ واطمئنانه بوصفهِ فعلاً يتبدىَّ وضوحهُ في اللغة وحركةِ الشخوص المائعة وغير المستوية والرجراجة بتهويم واضح ولكن تهويماً مدروساً فيما لو نظرنا إلى التقانةِ التي ينتهجها ويؤسس عليها المنتج فعلهُ النصي لا القَصصي، وتمكّن هنا القراءة التعرف إلىَ الأشخاص بوصفهم حقائق ولها علاقة وثيقة بالمكان بل أن أوجاعهم الكثيرة وخياراتهم القليلة في وسم المكان بطابعهم تجعلهم أكثر وجعاً وقلقاً، ليأتي دور (الناص) هنا بتثويرهِ المناطق المعتمة واضائتها جزءاً من اشتغالات النص وكذلك تأخذ بعداً أخلاقياً بوصف المُنتج شاغلاً للمكان المفترض والمتخيل ومن داخلهِ، ذلكَ أنْ مسحاً دقيقاً للكلام بالمفردة المنطوقة وبما تؤسسه متجاورة مع شحنة عاطفية ومعرفية يزاوج بينهما الفاعل ابن الحدث والمكان وكذلك الأشخاص كأن يكون الأب الذي يقضي مرضاً او الأم المتشحةِ بالسواد، تلك الأنثى رهنَ السواد والحزن، أو حتى الأنثى ببياضها الذي ينادد النار ويكوّن فعلاً مائياً باردا ضدّها، كل ذلك يذهب إلى القارئ بما يخزنّه من معرفةٍ بمنطقة منكوبة ومهمّشة ومنذورة للجوع والأمراض والغبار الذي صارَ كإرتكاز عضوي ومعنوي في أيِّ سيرة تحتفي بهذا الوسط الغني بقصصه وكوارثه وكذلك بضياع منتوجه في شفاهية متناقلة لم تكتب بعد، لم يدونها أبناؤها بعد كما يجب.» من الجنوب ثمّة تلّة جاثمة على سهل أجرد، إلاّ من بقايا ا القصٌوم والشيحٌ الصامتينٌ، اللذينٌ لا يغطيان عري الأرض. ومن الشمال ثمّة قرية أخرى خاويةٌ، وكأنهّا خاليةٌ من أيّ مظاهر للحياٌة.. أمّا من الغرب فينهض «الجبل الغربي»، راسما ظلالاً قاتمة على البيوت الطينية الغارقة في السكون والوحشة، فيما يحمل الشرق على صدره درباً يلتفُّ كأفعى عمياء تائهة، توصل إلى القرية، وفي زاويته اليمنى تلة صغيرة تحوي على قبور يتوسطها رجل كإله أسطوري صامت يدير ظهره للعالم ويراقب خارطة العالم».

دلالة الماء في «أنثى الماء»

[wpcc-script type=”992affaffa52108de18cc3cc-text/javascript”]

لا تقول جملة (أيمن الأحمد) الكاملةُ قصةً، إنما بنوسانها بين القَص والنص ترتجي فعلاً متمايزاً عن كليهما وتخلصُ لهذا الاشتغال المحيّر، إذ تغيبُ الفكرة المحورية بالتماهِ بينها وبين سرّادها، قائليها، فاعليها، وتغمّض عين الحدث على راحتهِ واطمئنانه بوصفهِ فعلاً يتبدىَّ وضوحهُ في اللغة وحركةِ الشخوص المائعة وغير المستوية والرجراجة بتهويم واضح ولكن تهويماً مدروساً فيما لو نظرنا إلى التقانةِ التي ينتهجها ويؤسس عليها المنتج فعلهُ النصي لا القَصصي، وتمكّن هنا القراءة التعرف إلىَ الأشخاص بوصفهم حقائق ولها علاقة وثيقة بالمكان بل أن أوجاعهم الكثيرة وخياراتهم القليلة في وسم المكان بطابعهم تجعلهم أكثر وجعاً وقلقاً، ليأتي دور (الناص) هنا بتثويرهِ المناطق المعتمة واضائتها جزءاً من اشتغالات النص وكذلك تأخذ بعداً أخلاقياً بوصف المُنتج شاغلاً للمكان المفترض والمتخيل ومن داخلهِ، ذلكَ أنْ مسحاً دقيقاً للكلام بالمفردة المنطوقة وبما تؤسسه متجاورة مع شحنة عاطفية ومعرفية يزاوج بينهما الفاعل ابن الحدث والمكان وكذلك الأشخاص كأن يكون الأب الذي يقضي مرضاً او الأم المتشحةِ بالسواد، تلك الأنثى رهنَ السواد والحزن، أو حتى الأنثى ببياضها الذي ينادد النار ويكوّن فعلاً مائياً باردا ضدّها، كل ذلك يذهب إلى القارئ بما يخزنّه من معرفةٍ بمنطقة منكوبة ومهمّشة ومنذورة للجوع والأمراض والغبار الذي صارَ كإرتكاز عضوي ومعنوي في أيِّ سيرة تحتفي بهذا الوسط الغني بقصصه وكوارثه وكذلك بضياع منتوجه في شفاهية متناقلة لم تكتب بعد، لم يدونها أبناؤها بعد كما يجب.» من الجنوب ثمّة تلّة جاثمة على سهل أجرد، إلاّ من بقايا ا القصٌوم والشيحٌ الصامتينٌ، اللذينٌ لا يغطيان عري الأرض. ومن الشمال ثمّة قرية أخرى خاويةٌ، وكأنهّا خاليةٌ من أيّ مظاهر للحياٌة.. أمّا من الغرب فينهض «الجبل الغربي»، راسما ظلالاً قاتمة على البيوت الطينية الغارقة في السكون والوحشة، فيما يحمل الشرق على صدره درباً يلتفُّ كأفعى عمياء تائهة، توصل إلى القرية، وفي زاويته اليمنى تلة صغيرة تحوي على قبور يتوسطها رجل كإله أسطوري صامت يدير ظهره للعالم ويراقب خارطة العالم».
يحضرُ الماء كدلالة ومعنى، كندٍ للغبار وعضيد له أيضاً، ولاتغيب سيرة النهر العنين ( الخابور)، أحد أهم شرايين المدينة والريف المتساقط حوله كنجوم طينية، تحضرُ اللغة هنا بوصفها المجاز والمداورة للحدث والمواربة بتمييعِ القصة لصالح الما ورائي الذي تفصحُ عنه جملة أشياء، كأنْ يكون الماء الحامل الموضوعي لانكسار عميم وواسع يخصُّ الناص ومن حوله، بحيث يتركّب العنوان والذي أخذَ المساحة الأخيرة من الكتاب، كما لو أنها إسدالُ الستارة على مسرحية إلتبس على حضورها المكان والزمان فـ «أنثى الماء»، يمكن ربطها بالخصوبة أو بالشح أو بالعلاقة الندية بالنار وبالتراب، إذا تعرفنا تلكَ العلاقات بالتقسيم الجمالي والنفسي للنص وعلى مستويات متعددة، كما لو أنَّ التقسيم هنا هو نفسهُ التقسيم والتبويب الذي منحه الأحمد لمجموعته كاملة، هنا نقرأ: (أخدود العطش- الجدار- حلم الماء- نزيف البياض- عفن النار- دموع التراب- تأويل العطش) سبقَ هذا استهلال بين مزدوجتين «كلُّ شيء على ذمة الماء افتراضٌ» وهي إحالة ربّما إلى اللاجدوى إما في غيابِ الماء/ شحُّ الأنهار وماتتركهُ من رضوض أولية في نفوس هؤلاء الذين أسسوا ممالكهم الطينية بالقرب من ذلك الجريان الذي كان يعني الحياة والاستمرار، وما الغياب إلا عنانة مبكرة لهؤلاء الذين لم يشيدوا بيوتاً فحسب وإنما أحلاماً أيضاً، هي: احدس بشيء ما.. ولا أعرف أي ماء يبقيني على اشتعالي/ هو: جاءني رجل في الحلم وقال لي: ثق بحدسك/ قلتُ كيف؟/ قال لي: الماء يحترق».
ينطقُ أيمن الأحمد باسم (الجزيرة السورية) كمنطقة لها دلالاتها سواء مع الماء لامتدادها على ريف وبادية، وباعتبارها منطقة منكوبة بسياسات السلطات مع توفر إمكاناتها المذهلة، وكذلك بتوزع بشرها على ديانات وقوميات وقبائل وأشباه قبائل، كل ذلك يمنح المكان بعداً درامياً وبعداً موغلاً في الغنى فيما لو شاء الناص أياً كانَ تتبعَ الأثرَ والمكوّن الإثنوغرافي والخرافي ليخرجَ بوصفة تبررُ التهويم والتباس الجنس الكتابي هنا، والذي داوره أيمن الأحمد بدراية وإدارة بدا واضحاً في توزيع المحتوى على أبوابٍ ليست اعتباطية أو شكلية، إنما تحمّلتِ الدلالات وأخلصت لها واحتفت بها كاستهلال لقراءة حقيقية وأخرى محايثة، وكلا القرائتين جعلتا من قارئ (أنثى الماء) يتبصّرُ مكاناً قَصياً محدداً بالجغرافيا غير أنّه عابر لَها نحو فضاءات رحبة من التخيّل والهجس بأرواحٍ تتصارع وتتوائم هناك. نصوص محمّلة بالحزن، تقطرُ ألماً، كذلكَ ليستْ مستدرة للتعاطف باللطم والنواح، وليستْ معطِّلة للأمل.
« أنثىَ الماء» مجموعةٌ بوّبت بثلاثة: (باب اللون ـ باب الدفلى ـ باب الحدس) وإن بدت غرابةٌ في الربط بين الأبواب الثلاثة فيمكن للقارئ تلمسَ روابط عديدة من الارتكاز على (دفلى) الشجيرةِ المرة جميلة الزهر، لكنها قد تكون الأقرب إلى حياة أوشبَهُ حياة هناك، تضمر فيها حبة الحنطة وتغيبُ السماء خلف طبقات الغبار، ويصبحُ المطرُ أمنية!. وأنثى الماء المجموعةُ القصصيةُ الفائزة بالجائزة الأولى في مسابقة (الشارقة 2015) وأحسبها أنصفَت قاصاً مُجيداً وجد مادتهُ الخام في مكانه قبلَ أن يفرغَ عليها اشتغالاً وعلماً بما تتطلبهُ هذه العلاقةِ معَ غواية حكاية الأهلِ البعيدين بل المهمّشين وما هذه الكتابةُ إلا إضاءة جانب مغفلٍ من حيوات الأشخاص والأشياء.

شاعر وناقد سوري

محمد المطرود

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *