فادي سعد بلا ابتسامتهِ
[wpcc-script type=”cc6ddab6db40e3529f891791-text/javascript”]
يبدو أنَّ لا غرابة في العنوان بالنسبة لما كتبته باعتباره مقالا أو قراءة، كذلك ليس هناك ما يدعو للدهشة في العنوان التالي: «حياةٌ مجردةٌ من ابتسامة» إذ سلمنا أن لسان حال الكثيرين يلهج بشظف العيش والحياة المتناهبة بالحروب والمجاعات والمكائد والخسارات الكثيرة، ومجيء العنوان بهذه الرتابة المتعارف عليها سيوحي بأن ما يُطوى في ثنايا كتاب يحمل هذا الاسم، ليس إلا رسالة أو مناجاة أو بوح ترسله امرأة لرجل أو رجل لامرأة، جملة محمّلة بالحزن، ذاك الحزن الذي نقوله بالكلمات، وقد لا يظهر على قسمات وجوهنا، إمَّا لوقوفه على تخوم النفس من خارجها أو أنَّ الألم لم يكن بالقدر الكافي ليحمّل العنوان شحنة أكثر ودهشة أكثر.
كتبَ لي فادي سعد من (ديترويت): «صديقي محمد، حياة مجردة من ابتسامة، آمل أن تزرع في روحك ابتسامة» ولأني أعرفُ إلى حد ما شغلَ هذا الكائن/ الشاعر، أغمضتُ عيني على ابتسامة خفيفة، لأقلّب مجموعته الجديدة، الصادرة نهايات 2015، عن دار مسعى، ووثقت علاقتي أكثر وأنا أنظر في الغلاف الذي صممه الشاعر محمد النبهان، صاحب الدار، لأجدَ أنَّ الكتابَ جاء بكليته كما لو أنه قصيدة واحدة في مديح المرض وشؤونه، المرض الذي يفضي إلى خراب عميم في النفس والذات الذات، ومن ثم الذات الشاعرة، المُطلة على هذا الخراب الصغير الشخصي من خارجه بمجّس الطبيب ومعرفته ومداورته بالدواء لحظة، أو التحايل عليه بكسب الوقت ما أمكن ذلكَ» صرتُ أزوره كلَّ يوم، لأنزعَ مسماراً وأجففَ دمعةً. حتى بقي في النهايةِ مسمارٌ وحيد. تركتهُ للذكرى». بهذه اللغة المشحونة تتم مخاتلة العنوان، ونجد فادي سعد يشحنُ جملتهُ باستنهاض روح معذّبة عبر تاريخ شخصي مع الألم، ولا يترك الأمر كله لصالح اللغة وجمالياتها، كأنَّ ما يستند إليه من الذكرى، أو ما يشبه الحدث، كفيل بأن يقدم نفسه كرواية مكثفة، كحكاية، كَمعيش وواقع أكثر منه كتهويم أو قصيدة تنحاز للغة بوصفها ابنة لها، وعليه فالعلاقة مع الحزن الذي يتركه الفقد أو مع الموت نفسه علاقة تتميز بفراغاتها، بما تجيزه من صمت بعدي، وليس بما تتركه من ندوب وعويل يفصح عن هول الفقد» عندما يمرُّ الموت قريبا من عتبة بيتك، سيكون بابك مقفلاً. لكنك ستسمع وقعَ حذائهِ، عبر الشقوق التي ظننتها مغلقة بإحكام. ستنظر إلى الجهة المقابلة، وتستنشق بعمق تلك الرائحة الرهيبة». ثمة سؤال وجودي، وربما العادة تقتضي هذا السؤال في أي مكان يكون فيه الموت ماكثاً أو عابراً، هكذا يؤسس الشاعر بيتَه، قصيدته/ السرد، وفق معطيات حياته الخالية من الابتسامة، ولكن بمواجهة واضحة مع الحياة وأسئلتها الكثيرة، فإن كان الحديث عن أشخاص وذوات فهم بالتأكيد ضمن الدائرة الضيقة العميقة والانتصار لهم هو انتصار للذات الساردة أولاً.
في «حياة مجردة من ابتسامة» تأتي العناوين الداخلية تعريفية لا أكثر لا لعبة فيها، إنما جاءت للدلالة على خط السرد الواضح في مجمل النصوص، سأذكر: «الخثرة ـ الورم الخبيث ـ الغرفة رقم 425 ـ الجثة ـ انتشر السرطان ـ المونيتور ـ غنغرينة ـ تصلب لويحي» وسآخذ من «غنغرينة» المقطع: «اليد العارية التي مرّرتها مرات ومرات/ فوق غابات لم تعد تذكر أسماءها/ التي غرستها لسنوات في ضفائر ابنتها/ وكانت تقضم أظافرها كلما أصابها الارتباك/ اليد الحرير، التي كنتَ تستنشق عطرها/ وأنت تقبلها/ تلك اليد سيبترونها من الجذر/ قالوا لها: غنغرينة». ويبدو أن فادي كثّف نصوصه باتجاه الفكرة التي حددها وانشغل بها كموضوع واحد، الموت والمرض، ولكونه سوريا يأتي السؤال: أين الحرب؟ حينَ يجد القارئ ألا مقاربة لها بشكل فج أو مضمر، اللهم إلا في مواضع قليلة لا تشير إلى مكان معيّن وإنما إلى عموم قد يحدث هنا أو هناك، «لم يكن الثقب الصغير في رأسها بفعل رصاصة/ أو شظية طائشة، أو صاروخ/ لم يكن بفعل صداع سببتهُ مطارقُ الحرب».
الصور الشعرية في «حياة مجردة من ابتسامة» وعلى مدى 85 صفحة من القطع الوسط، تنحاز للسريالية، من حيث رسم الشخصيات بمقاربات بعيدة وبتشكيلات تظهر للوهلة الأولى على أنها غرائبية وخارجة عن سياقات اللغة لصالح التشكيل، يقول في نص عنونه بـ»شقٌ صغير في صدغهِ الأيمن»: «ثمَّ بحركة هادئة، يخلعُ أذنيه، ويطوي ساقيه المشلولتين في درج مقفل. يَخيط عينيه وينام». ويقول في موضع آخر: «ضغطت عليه قليلاً/ فنزّت عنه كلمات صفراء مهترئة/ رفعته وصفقت به الجدار، فسقطت عنه جثث محنطة/ وأجساد عفنة/ ما زلتُ أجهل كيف التصقتْ بلساني؟».
إذا غيبنا عنوان فادي سعد «حياة مجردة من ابتسامة» وهدوءه فـــــي سرده الذي جاء تحت مسمىّ (شعر) أمكننا أن نقــــرأ تجـــــربة جيدة تنتصــــر للفكرة وضــــمن مغامرة محمودة في قول شيء لا يمتثل للآخرين بقدر ما يتصالح مع لغته وذاته وموضوعه.
٭ شاعر وناقد سوري
محمد المطرود