الأردنية فتحية السعودي: الحياة الشخصية في أحايين كثيرة لا تتوازن مع الحياة الشعرية
[wpcc-script type=”434f190625b75911d6284363-text/javascript”]
لندن ـ «القدس العربي»: «الشجاعة من أجل الوجود» كتاب للألماني بول تيلش ترجمه للعربية كامل يوسف حسين، حضر إلى ذهني بقوة، رغم أنني قرأته في منتصف ثمانينيات القرن المنصرم، استحضرته وأنا أجلس إلى الشاعرة الأردنية فتحية السعودي في مسكنها، في غرب لندن وهي تستشفى، وصوتها القوي والمميز يعبر بالأفكار والرؤى من خلال المحاور التي طرحتها عليها في هذه المقابلة الخاصة، وتأتي خصوصية المقابلة من تجربتها الإبداعية نفسها، فهي لم تبدأ الكتابة إلا في مرحلة متأخرة من حياتها العلمية والمهنية، وهي لم تبدأ الكتابة بلغتها الأم، كما سنعرف لاحقا، بدأت مشروعها الشعري بالكتابة باللغة الإنكليزية.
في تقديمه لكتابها «أطفال وأنبياء» يقول الروائي والناقد البريطاني جون برجر، عن لغتها الشعرية: « هي إنكليزية سلسة ومعطرة بالشرق، بما تحتويه من إيقاع متناغم واستخدام غير متوقع في التراكيب وكذلك الأسماء والصفات. فأنت تشعر كأنك تبحر فوق بحر ما، لتنقلك فجأة فوق أمواج بحر آخر. وهذا ما استحوذ عليّ».
فتحية السعودي من مواليد عمان درست وتخصصت في طب الأطفال في فرنسا، عملت اخصائية أطفال في لبنان والأردن، خاصة مع الفئات الأقل حظا، ولها اهتمام بالدفاع عن قضايا الإنسان العادلة، حيث شاركت في العديد من المؤتمرات والندوات على المستوى العربي والدولي، وصدرت لها مؤلفات باللغات العربية والفرنسية والإنكليزية، كما قامت بترجمة مختارات من الكتب العلمية والأدبية، وحصلت على عدة أوسمة وجوائز لنشاطها في المجالات الإنسانية والثقافية والعلمية؛ صدر لها شعرا: «بنت نهر التيمز» بالإنكليزية أولا ثم بالعربية، «الأنبياء طفولة ونبوءة»، بالإنكليزية أولا ثم بالعربية، كما صدر لها «أيام الجمر، يوميات حصار بيروت» 1982 باللغة الفرنسية أولا ثم بالعربية، إضافة لكتب أخرى.
شيء أبعد من لغتي:
مثلما سأل الإسباني لوركا يوما: «من أراك طريق الشعراء؟!»، تقول فتحية السعودي: الشعر يعني بالنسبة لي ارتباطا، نابعا من القلب والعقل الباطن، كنت طيلة حياتي قريبة منه، منذ طفولتي الباكرة، وأعتقد أن أول ما تأثرت به هو الموسيقى، القرآن الكريم والقصائد التي كان يقرأها عليَّ والدي، والشعر أعتبره ضربا من الموسيقى المقبلة من الروح ومن مكان آخر غير منطقة ما هو عادي، لا يمكن أن تخلق قصيدة من منطقة ما هو عادي، لابد أن تذهب إلى مكان آخر حتى تخلق قصيدة من داخلك العميق، أي من ذاتك.
منذ الطفولة وفي مرحلة المراهقة كنت أقرأ دائما قصائد لشعراء معروفين وكنت مغرمة بالشعر، وأحس بأنه جزء من كياني، أحس به موسيقى تقرّبني لشيء غامض، لكنه قريب لذاتي، وكأنني أكتشف نفسي من خلاله؛ وعلى الرغم من دراستي للطب في جامعة باريس وتخصصي هناك في طب الأطفال، إلا أن هذا الاقتراب من الحياة الشعرية ظل موجودا معي، وربما تندهش أن معظم أصدقائي كانوا في محيط الشعر والشعراء والكتاب، وهو عالم أغناني، لكن في تلك المرحلة لم يك لدي شعور بمقدرتي على كتابة قصيدة باللغة العربية، كنت أخاف اللغة- صراحة- بشكل غريب، على الرغم من أن لدينا كبشر إمكانية لتعلم 5000 لغة على الأقل، واللغة التي نتداولها هي التي تمكننا من تعلم لغات أخرى، إذا أتيحت لنا فرص تعلمها، وأنا كنت أحس أن هناك شيئا أبعد من لغتي العربية، وظل هذا الخوف موجودا معي ولم أتخلص منه إلا في مرحلة لاحقة، الشعر وقتها قادني إلى ما اعتبرته أنقاذا لحياتي، وهو الذي عن طريقه تشكلت حياتي مرة ثانية.
الكتابة بلغة أخرى
الكتابة باللغة الأم هي الأصل بالنسبة للمبدعين على الأخص في الشعر، إلا استثناءات نادرة، حول هذ المسألة تقول: عند قدومي إلى لندن تعرضت لتجربة مريرة، وقتها اخترت الانتقال إلى اللغة الإنكليزية والكتابة بها، ليس بلغتي الأم، ولم يك اختيارا سهلا، نعم أنا مطلعة على الأنكليزية، ولكنني لست شاعرة فيها، كنت أبحث عن تجديد في حياتي، هي ليست لغتي الأولى، لكن أحسست بأنها لغتي وطريقي للشعر، لم أكن وقتها أعثر على أي ارتباط بيني وبين العربية، واللغة ليست هي الكلام، أنا أتكلم في حياتي اليومية بالعربية، لكن لغة الخلق والإبداع هي في مكان آخر؛ ليست هناك مشكلة، الشعر هو نوع من ترجمة الذات وهذه الترجمة تكون بأي لغة.
الكتابة بلغة أخرى لها صعوبات بالطبع، كان عليّ أن أقرأ يوميا ولساعات طويلة في الشعر الإنكليزي، وأن أتابع الندوات والمحاضرات، وحدث شيء من الارتباط بالوسط الشعري في هذه اللغة، وأحسست بالقرب من عوالمه وغرقت في هذا المجال، ما دفعني للكتابة، كنت أعمل بين القراءة والمتابعة وحضور الفعاليات لأكثر من (12) ساعة يوميا، وكنت أذهب حتى خارج لندن للندوات، لمعرفة طبيعة بناء القصيدة في هذه اللغة وخلق التوازن في هذا البناء، الأمر الذي أدهش أهل اللغة نفسها، نعم هي تجربة غريبة بعض الشيء في بدايتها لكن حين وصلت عمقا معينا بدأت أشعر بأن هناك ارتباطا روحيا بيني وبين لندن.
شيء من الأمل
خالدة سعيد كتبت في «بيان الصمت»: إنها كتابة الغربتين: فتحية السعودي تكتب هنا بالإنكليزية لتوسّع المسافة بينها وبين الجرح وتعمِّق الغربة. هي غربة في المكان وفي الزمان، إذ تقول «ولدت في اليوم الثامن للأسبوع». هكذا ستكتب بلغة اغترابها، ومن هذه الغربة تجيء إلى العربية؛ (…) لكنه اغتراب القناع، ما دامت تقول «أرى مدينة تطفو في قلبي». وربما صحّ الكلام هنا على غربة ثالثة مذ فارقت الكاتبة دروب حياتها الأولى»، كان ذلك في تقديمها لكتاب «بنت النهر». أما السعودي فتقول عنه: هو كتاب يقترب من السيرة الذاتية، ضمنته (7) مراحل- تقريبا- من حياتي، بدءا من الطفولة، وهناك فصل حول اللغة وارتباطي بها، وفصل حول الشعر وفصل، ربما، حول الانكسار الذاتي، وفصل ضمنت فيه شيئا من الأمل، الكتاب في مجمله يمثل هذه الرحلة الشعرية.
القدرة على التجربة
كتب فيصل دراج في «اغتراب الروح وبوابات الأمل»: «عثر الأنبياء على خلاصهم في رسائلهم المنتصرة، التي أرادت للبشر خلاصا يحررهم من فساد الأزمنة. انتصر كل نبي بكتابه وانتصر لكتابه. وأرادت فتحية السعودي، التي دفعتها الحياة إلى طريق مخادعة، أن يكون لها كتابها (…) مدركة، بسبب التجربة، أنها تنصر كتابها من دون أن ينصرها كتابها، إلا صدفة، بسبب محدودية العمر وسطوة الصدفة، كتبت ما استطاعت، وجسدت بالكتابة مسافاتها المتقطعة بالوجع والرجاء وجمالية الإرادة»، كان ذلك في تقديمه لكتابها «أطفال وأنبياء» أما هي فتقول عنه: هو أيضا رحلة شعرية في حياة الأنبياء إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، وهي فكرة ولدت من مكان غامض، كنت أشعر بأن هؤلاء أنبياء عاشوا حياة مليئة بالألم والحزن والصعوبات منذ الطفولة، ومع ذلك كانوا قادرين على التجربة، وبقيت رسالة فيها أمل للناس جميعا، وأما بالنسبة للطفولة فأنا مرتبطة بها بالذات وأعرفها جيدا، ربما لأنني كنت طبيبة أطفال، أيضا ربما لأنني عايشت تجربة مع المرض وأنا صغيرة، أعتقد أنها أثرت على مجرى حياتي.
كنت أحب لهذه الأعمال أن تصدر وتخرج إلى الناس لا أن تقبع في أدراج البيت؛ في السنوات الثلاث الأخيرة ربما بدأت أتخلص من خوفي القديم من اللغة العربية وبدأت أكتب فيها، لكن بالطبع الأمر الذي حصل هو أنني ترجمت أعمالي من اللغة الإنكليزية إلى اللغة العربية، وصرت أنا الكاتبة والمترجمة.
احتضان الخلود في كل لحظة
«عرفت ُ إيقاع الفصول الأربعة/ تعلمت جغرافيا القارات الخمس، أكتشف اليوم أن العالم ست قارات/ القارة السادسة، الأكبرُ، الأرحب/ هناك تتعانق القارات كلها/ سافرتُ بالطائرات والقطارات ومراكب الإنقاذ/ ولكني لم أدركها قط/ القارة السادسة، هندسة الروح فضاء النفس/ احتضان الخلود في كل لحظة/ أدركت الإبحار عبرها/ كي أرسو هناك»، من قصيدتها «عناق القارات»، أسألها حول تجربة التنقل في الأمكنة والحياة في المهاجر، تقول: المكان الجديد، أي مكان جديد يعني القادم إليه، لأن أي مكان له عمقه وتاريخه وله ثراؤه وغناه الخاص، يعني أن بإمكانه أن يمثل لك نقلة في حياتك إن كنت مفتوح القلب والعقل، لابد أن يكون لديك استعداد لتقبل شيء جديد من الإبداع، هي رحلة لكنها رحلة اغتراب ومهجر وفيها صعوبات، أيضا هي رحلة تفتح لك عالما مجهولا لم تك تعرفه من قبل، ربما يصبح هذا العالم المجهول عالمك الخاص، أنا حين أكتب أتأثر بطفولتي وبمعاناتي، بحياتي في ظروف الحرب، كل مشاعري وعواطفي وكيف عشتها.. إلخ، وأنقلها إلى قصيدة، أي مكان إذا توفر فيه نوع من الانفتاح يمكن أن يمنحك الكثير، الأمر الصعب هو كيف تبدأ في المهجر وكيف تجد طريقك، لابد من انخراطك في الجو المهجري وأن تعيش حياته؛ الأمر الذي يسَّر لي تجربتي هنا هو محبتي لنهر «التيمز» أحس بارتباطي به وكأنه شيء في الرحم، كنت أكتب قصائدي قربه فقط، فقط قرب النهر، كنت أذهب هناك أحيانا في الحادية عشرة ليلا، هو مكان كنت أعرف إذا جلست إليه سيتدفق إلىَّ النَفَسْ الشعري وهو لا يأتي كل يوم، لا يجيء إلا في حالة خاصة، الأمر يشبه لحد بعيد خلق «اللوحة» حين يبدأ الفنان لا يعرف كيف ستكون النهاية لا يقدر أن يدرك ما ستنتهي عليه اللوحة، الشيء نفسه يحدث في حال خلق القصيدة أنت تبدأ بفكرة في مكان ما من العقل الباطن، وتبدأ البناء على حياتك السابقة وعلى كثير من المشاعر وتبعثها إلى الحاضر، هي عملية خلق حقيقية، ولابد أن يتوفر لديك الاستعداد، لابد أن تكون في مكان ما يربطك بهذا العالم الشعري، هذا لا يحدث كل لحظة بالطبع، لابد من رحلة ذاتية حتى تصل إلى هذا المكان.
هناك نجوت من الموت أيضا
«الشوارع تكاد تخلو من الحياة هنا وهناك يجرؤ قلة من الأحياء على عبور الشوارع أو البحث بين الأنقاض عن بقايا منزلية مهمة، كل شيء يبدو غير حقيقي، يصعب عليّ تصديق كل ما رأيته، أشعر كما لو كنت في رحلة بين الكواكب، وكما لو كنت أقترب للمرة الأولى من حضارة أخرى قرأتُ عنها في كتب التاريخ، مثقل طريق العودة بالأحزان، ولكن لابد لنا من تخطي ذلك، لابد أن نستمر وأن نتقدم إلى الأمام، وأن نحيا – وربما أن ننجز شيئا أفضل مما مضى، إنه جنون حرب غير متكافئة ولكن الصمود هو أملنا الوحيد للحفاظ على الحياة.
أنظر إلى كل هذه الأجساد المجلوطة حتى العظام وأدرك أنه ما من قنبلة في العالم يمكن أن تصيب أرواحهم المتماسكة أبدا، المنيعة أبدا، يا للدوار».
هذا مقتبس من كتاب السعودي «أيام الجمر.. حصار بيروت»، وقد كتبته باللغة الفرنسية لكي ينقل إلى العالم الغربي البعد الإنساني لتلك المعاناة المذهلة، ثم قمت بترجمته إلى العربية، وتقول لي، حين سألتها عن تجربتها في مجابهة المرض: كنت دائما قريبة من تجربة الموت أو الحياة، منذ طفولتي كأنما هو شيء من التمرد، وأيضا كأنني أريد أن أقول إنني قادرة على عمل كثير من الأشياء رغم الصعوبات التي عانيتها، وأنا صغيرة أصبت بـ شلل الأطفال» وعندها بدأ ترديد مقولة «ربما تعيش سنة أخرى أو ربما لا تعيش».
حين كنت أعمل طبيبة في فرنسا كنت حريصة باستمرار على تطوير علاقاتي مع المؤسسات التي تهتم بالقضية الفلسطينية، هذا الاهتمام لازمني منذ الطفولة كنت بطبيعتي ضد القهر والاستبداد وضد القمع، أناقش والدي وأهلي في هذه المواضيع وأقول لهم أنا لي حريتي التي لا تقبل، وبالفعل ذهبت إلى لبنان وعملت هناك طبيبة أطفال في المخيمات الفلسطينية وعايشت الحرب في مرحلة الغزو الإسرائيلي سنة 1982 كنت قريبة من سكان «صبرا وشاتيلا» وهناك نجوت من الموت- أيضا، ما يهمني في حياتي أن أكون دائما فاعلة في مجال أكون راضية فيه عن ذاتي، هذا التمرد والرغبة الدائمة في المواجهة تعني أنني لا استسلم في مجابهة الأذى وأنني سأقاوم وسأمشي في طريق حريتي الذي أختاره.
تجربة التنقل بين البلدان كانت شيئا مقبولا لأنها مثلت بالنسبة لي، بناء حياة جديدة، رأيت معاناة لبنان من القصف وسقوط الضحايا، معاناته من الحرب إجمالا، ومن هنا توصلت إلى أنه لابد من الحوار، وأنه أقوى من البندقية، والحوار نفسه ليس سهلا لابد من الإيمان به، طريق السلام أصعب كثيرا من طريق الحرب.
نوع من إلغاء الآخر
«من أنا ومن تلك التي كنتها؟/ ما معنى الذاكرة وذاكرة الذاكرة/ وذاكرة النسيان والنسيان المتمرد/ ماذا تبقى لي لأنساه/ ماذا تبقى لي لأتذكر؟! (…) كنت أدور حول محور/ وما من بوصلة ترشدني/ أمسيت جسدا فقد ملامحه/ ضلت خطواتي دربها/ عبر مدن غريبة/ في شوارع لا تعرفني/ هل كنت من طائفة الصعاليك منذ ولادتي؟!/ تعصف بي ريح قطبية/ فهل دنت حتمية الموت؟!»، من قصيدتها «ذاكرة النسيان»، أعود لها لنقطة ذكرتها في محور سابق، قلت لها: ذكرت في بداية المقابلة أنك تعرضت لتجربة مريرة حين قدومك إلى لندن، هل يمكن أن تلقي بعض الضوء على تلك التجربة؟ تقول السعودي: نعم هي تجربة شخصية، مع سعدي يوسف وهو شخص كنت على ارتباط به، عاطفة ومحبة، لكن كان هناك جانب مخيف ومؤذ، رغم كل الأشياء الجميلة الأخرى، الحياة الشخصية في أحايين كثيرة لا تتوازن أو تتلازم مع الحياة الشعرية، وبالفعل أحسست بأن ما تعرضت له هو نوع من إلغاء الآخر، وهذا شيء موجود في العالم العربي خاصة عند الرجال، إلغاء الآخر واعتباره غير موجود، إلغاء كيانه، المبدعون أحيانا، قادرون أكثر على هذا النوع من الممارسة.
كان لدي قدر من الاستقلالية في العلاقة، وكنت في عمان، كنت أحس أن هذا هو المكان الذي يوفر لي الاستقرار حتى إن لم يكن هو مستقر في مكان، ولم تك لدي مشكلة بالطبع لأنه شخصية مركبة؛ أحببت لندن إثر قدومي إليها لكن شعرت بأنني لا يمكن أن أصل لهذه الوضعية- ليس الحضيض- إنما هذه الوضعية الصعبة بهذه الطريقة، ولم يك عندي وقتها تصور لكيفية أن أنجو بروحي وعقلي وقلبي.
لأجل ذلك كله بالفعل، كان الشعر وكانت الكتابة طريقي للعثور على بداية جديدة وقررت خوض التجربة، وهو أمر ربما لا يدرك الآخرون مدى صعوبته أن أكون في لندن وأترك عملي في المجال الطبي، ولم يك لي مصدر دخل أو سكن، أن أكون مثل الصعاليك مثلا، وكنت أخجل أن أحكي لأهلي وأصدقائي؛ لم أدرك كيف يمكن أن يحدث هذا الانقلاب لشخص وكيف يمكنه إلغاء الآخر، كنت أحس بأنني أرغب في محو ذاكرتي، كيف لك أن تتوفر على كل هذه الذكريات، ماذا تقول لها، هي تصيبك بالصدمة حتى تتمنى ألا تكون لديك ذاكرة؛ كتابة التجربة في قصائد، وضع هذا الذاكرة في الكتابة كان مخرجا بالنسبة لي، كأنني رتبت لها مكانا، كأنها ليست ذاكرتي؛ محمود درويش كتب «ذاكرة للنسيان»، كأنه يقول إنها ذاكرة تبكيها وتكتبها لأجل أن تنساها لاحقا، اعتقد أنني حولت هذه التجربة الشخصية إلى تجربة إنسانية أنقذتني أنا.
ليس أمراُ سهلاً
أسألها مقاطعا: «هل صفحت؟ّ!» تقول: ليس لدي حقد نحو أي إنسان، لكن بالطبع الصفح يحتاج وقتا لا يمكن أن يحدث بين يوم وليلة، الذاكرة موجودة كيف أمحوها، ليست لدى المقدرة على ذلك، وهي ذاكرة تكتظ بما هو مخيف ومرعب، ولا أعرف كيف أتعامل معها، مثل «التروما» وهي متلازمة معروفة في علم النفس، حين يتعرض الشخص لضغط كبير، حين تسأل بعض الناس الذين عايشوا تجارب الحروب عن أشياء حدثت لهم قبل ثلاثين سنة فجأة، ينخرطون في البكاء كأنها حدثت الآن، أو حين تسأل امرأة تعرضت للاغتصاب قبل ثلاثين سنة، حين تذكّرها ستبكي مباشرة وكأنما هذا الأمر حصل قبل قليل، يعني أن التخلص من هذا الشعور الداخلي الناتج عن الحرب وعن الأذى ليس أمرا سهلا؛ أنا حاولت أن أعالج نفسي عن طريق الكتابة وأعتقد أنني نجحت لحد بعيد، وكأنما ما حدث شيء من الماضي ولا علاقة لي معه الآن. كل شعوري حاليا هو نحو السلام والمحبة لأن هذا هو ما يساعدنا كبشر في النهاية.
تحجيب العقل
«يهشّم طفلٌ لعبة كل يوم، ليتسلّى/ فهو يتعلم أشكال الأشياء/ وقد يكسر الرجل كبرياء رفيقته مرات كل يوم/ ليستمتع برؤية روحها تتقوّض/ ألم يخطر بباله بعد/ أن المرأة ليست لعبة طفل؟»، من قصيدتها «ألعاب الأطفال»، أسألها هنا حول وضعية المرأة في العالم العربي وكيف تنظر إليها فتجيب: في مرحلة ما ولحسن الحظ أعتقد في ستينيات أو أوائل سبعينيات القرن المنصرم كان هناك نوع من التمرد في العالم العربي على حد سواء بالنسبة للرجال والنساء، شاركنا فيه وكنا وقتها شبيبة، بالفعل انفتحت بعض الحريات كنا نقرأ كتب نوال السعداوي وكتبا حول حرية المرأة والفكر ونقرأ كتبا بالإنكليزية حول التحرر، كانت مرحلة جميلة قبل أن تختفي وتبدأ مرحلة «التحجيب» بدءا من ارتداء الحجاب وتحجيب العقل وتحجيم حريات المرأة، أحايين كثيرة أرى من يعتبر نفسه متدينا ومؤمنا وهو في الواقع يمارس أبشع حدود القهر والاستغلال فقط من أجل تحقيق مصالحه الشخصية، وفي النهاية حتى محاولته فرض وضع الحجاب… إلخ، هي محاولة للسيطرة على عقل المرأة بشكل أو بآخر، كأنما هو شيء غير صالح أو كأنما هناك عيب ما، ليس هناك أي عيب في شعر المرأة ولا في أي جزء من أجزائها، ليس هناك عيب يدعوها لتغطية وجهها؛ وأعتقد أن هذه مرحلة تراجع عن مكتسبات المرأة في كل المجالات، إن كان في منطقة الخليج أو منطقة شمال أفريقيا أو في الأردن وسوريا.
وقضية المرأة قد تستعمل لأغراض سياسية، من يسيطر على النساء أكثر من يدفع بهن إلى الحروب، والنساء أيضا هن اللواتي يعانين بشكل فظيع في كل الحروب لأن وجودهن يعتبر ثانويا، أجسادهن مباحة وعرضة للعنف والاغتصاب والتهجير، اعتقد أن وضع المرأة العربية صعب حاليا، على الرغم من أن هناك تجارب نسوية في لبنان ومصر، على حدود صغيرة ولكنها تشير إلى أن هناك أملا.
حياة القلب الآخر
«في تلك اللحظة تبدد الظلام من حولي/ وتحول الصقيع إلى دفء إنساني/ هل أولد ثانية في رحم أخرى؟!»، من قصيدتها «موسى»، حول استمرارها في الكتابة الإبداعية وهل ما زالت تخطط لعمل ما، أسال، وتقول: في أول مراحل مجابهتي للمرض بدأت في كتابة نص بعنوان «مدارات السرطان» ثم وضعته جانباً، لا أدري لماذا، قبل ستة أشهر كنت أكتب نصا بالعربية، وتوقفت لظروف العلاج، عنوانه «حياة القلب الآخر» أو «القلب الآخر»، النص حول عملية نقل قلب من مريضة تخيلتها في آيسلندا، إلى أخرى في العالم العربي، من دون أن أوضح قطرا معينا؛ الآن رغبتي هي أنجاز هذا العمل، رغم أن ذاكرتي تخونني أحيانا لكنه مكتمل بنسبة ثمانين في المئة تقريبا، والفكرة هي أن المريضة التي نقل إليها هذا القلب الآخر بدأت في التعرف على أشياء وعوالم جديدة، لأول مرة، وأريد أن أقول إن ما نفكر به وما نؤمن به، ما خبرناه في حياتنا، ليس هو الحقيقة الوحيدة في العالم، أعني أن هناك أشياء أخرى يمكننا اكتشافها عبر القلب الآخر، هي رواية حول الحياة في عالمين وحول الحرية أيضا.
بالقرب من الأمل
«توسَّلت إلى روحها لتحمي جسدها المتشظي/ وعذاب ذكريات تئن في عقلها/ هجست لو أنها توقف ذلك «الهولوكوست»/ لو أنها تمحو ذاكرة خلاياها/ كيف عبرت بعقلها، تلك الخاطرة: «إذا اختفى الجسد، لن يبقى هناك مسكن للألم»، من قصيدتها «بين الجسد والعقل»، أخيرا أسألها حول قرارها بالتوقف عن العلاج، تقول: توقف العلاج ليس قراري أنا، بدأت رحلة الاستشفاء منذ خمس سنوات وخضعت لكل العقاقير المسموح بها بالنسبة لحالتي، وكان هناك وعد بعلاج جديد وخضعت له، لكن ليست هناك نتيجة، بالتالي اضطر الأطباء للاستجابة لطلبي، قلت لهم امنحوني بعض الأشهر لمعايشة الأمر على طبيعته لكن لازلت تحت المراقبة الطبية.
أعمل الآن على أن أحافظ على روحي المعنوية في المنطقة الإيجابية بالقرب من الأمل ولا أفكر في الموت، أفكر في الحياة اليومية وما يمكن أن أعمله، رغم أن ذاكرتي تخونني والقدرة على عمل الأشياء تصبح أضعف في هذه الحال؛ لا زلت أتلقى المساعدة الطبية الممكنة، وأهتم بما يمكنني عمله في اليوم من أشياء بلا يأس.
الصادق الرضي