عطلة الحلاقين ولازمة البعث
[wpcc-script type=”5999b8803190a1b5282261ca-text/javascript”]
غالباً أقف إلى الشباك المطلّ على باحة البيت، أو أتموضع في زاوية الغرفة المجاورة لأستمع إلى أحاديثهم.. عندي شغف بعالم جدّي (خال أبي).. بصوته أحاديثه عطره عدّة حلاقته، أناقته الخلّابة ثقافته قصصه الشيّقة نظريّاته وعمقه الإنساني الهائل في كلّ شيء .. وطبعاً أصدقائه ..
أصغي إلى نبر حديثه وأنفاسه.. صرت أعرف متى يكون غاضبا أو شاردا، أو متى يكبت ضحكته أعرف كلّ ذلك من صوت الأنفاس.. أُذهل بصرامته في إخفاء مكنوناته وانفعالاته وأُذهل أكثر بقدرتي على كشفه وأصفّق لنفسي إذْ أستقرئ خفاياه..
دائما أنتظر زيارة الثلاثة له لأنني أعرف أن أحاديثَ كثيرة ممتعة ستدور وسيدور الضحك مع الخلافات مع التوافقات.. أحد الثلاثة كانت لديه لازمة قوليّة يكرّرها في ختام كلّ فكرة، أول مرّة سمعته يكرّر لازمته في أحاديثه، ضحكت حتّى تيبّست عضلات وجهي.. ومع تتابع الزيارات اعتدت على اللازمة، لدرجة أنّ أذنيّ تستشعران خللاً في الحديث إن هو أغفلها وأسعد كثيراً حين يذكّره صديقه بها.. فيردّدها مؤكّداً وممتنّا: أي والله وعطلة الحلّاقين يوم الاثنين!
جلسات الأصدقاء تتكرّر أستمتع بالمناورات والنقاشات والجدل.. يتزايد الأصدقاء.. ينقصون، لكن الثلاثة كانوا أساسيين في جلسات القبو.. واللازمة القوليّة كانت محوريّة في تلك الاجتماعات: وعطلةُ الحلّاقين يوم الاثنين.. إن نسيها يذكّره صديقه بها، وإن لم ينتبه لها الصديق نكزه جدّي ليذكّره أن يذكّر صاحب اللازمة بها.. فيردّدها ممتنّا: وعطلة الحلّاقين يوم الاثنين.. كان السياق طبيعيّا إلى أن اشتعلت نيران الغيرة في صدر الصديق الثالث فكيف يذكّر الصديق الثاني وجدّي صاحبَ اللازمة بلازمته وهو لا يملك أي دور في التذكير.. في البداية كانت ردّة فعله متمثّلة بالصمت.. ثمّ بدأ يقاطعهم ويشوّش على الحديث محاولا لفت الانتباه.. في المرّة الأخيرة كان صاحب اللازمة مسترسلاً في الحديث وفي اللحظة التي أخذ بها الرّجل نَفَساً ليكمل جملته، باغته الصديق الغيور هاتفاً بحذاقةٍ: وعطلة الحلاقين يوم الاثنين!
تسمّر الجميع بعد المقاطعة الفجّة من الصديق الذي ظنّ أنّه العبقريّ المذكِّر في اللحظة الأدقّ وزيّنت وجهه ابتسامةُ اعتدادٍ بلهاء ما لبثت أن سلتت حين حدّجه صاحب اللازمة قائلاً بنبرة حاسمة: علّاك!
ساد صمت قاتمٌ للحظات ثمّ ما لبث أن انفجر الجميع بالضحك، وكرّروا بمرحٍ تباعاً: وعطلة الحلّاقين يوم الاثنين.
طرافة الحادثة واللازمة أعادتاني إلى سنوات الدراسة الإعدادية.. كان ثمّة مدرّس لمادة التربية القومية يردّد لازمة بعد كلّ فقرة: سدّي حلقك.. ويوم كان يشرح لنا المنطلقات النظرية لحزب البعث ردّد اللازمة لدرجة أني لا أذكر من المنطلقات سوى لازمته: سدّي حلقك!
تداعت إلى ذاكرتي مشاهد وحوادث كثيرة ولأوّل مرة أنتبه أنّ لكلّ إنسان لازمة ما: قوليّة كتابيّة أو فعليّة.. والأغرب أنّ هنالك لوازم جمعيّة.. الطريف أن تلك اللوازم الجمعيّة متعدّدة وتخصّ كلّ جماعة دون سواها. فالموالون لازمتهم: خلصت، والمعارضون لازمتهم: قرّبت، والمهاجرون لازمتهم: سنندمج/ سنرجع يوماً، وجماعة الخط الثالث لازمتهم: الله يطفيها بنوره، جماعة «داعش» لازمتهم: باقية وتتمدّد، جماعة النّصرة لازمتهم: تتمدّد وباقية، جماعة حزب الله لازمتهم: فدا صرمايته، إيران كانت لازمتها: الموت لأمريكا، والآن تبحث عن لازمة جديدة بعد الاتفاق النووي، السعودية لازمتها: على الأسد الرحيل أو مواجهة الخيار العسكري، قطر لازمتها: سنتدخّل عسكريّا في سورية مع تركيا والسعودية إن لزم الأمر، تركيا لازمتها: لن نسمح بحماة ثانية، روسيا لازمتها: الأسد أو نحرق البلد، وأمريكا لازمتها: باتت أيّامه معدودة ومستمرون في مواجهة الإرهاب، أمّا المخابرات السورية فلديهم معجم من اللوازم يبتدئ بـ:نحن من درّسناك ووظفناك وأعطيناك راتبا، ولا ينتهي بـ: من ربّك ولاك.. أمام كلّ هذه اللوازم لا يبقى أمام الإنسان السوري سوى لازمة الثأر التي ستلازمه لأجيال.. كان الله بعون سورية والسوريين..
وعطلة الحلّاقين يوم الاثنين!
كاتبة سورية
لينة عطفة