الكولومبي عربياً: حكايات ماركيز التي تشبهنا
[wpcc-script type=”a87a9cc4634c399ac97b258f-text/javascript”]
المزجَ بين الأسطورة والواقع الذي يَسمُ سيرة الكاتب وترجمته، يعني في حالٍ من الأحوال جرَّ القارئ أياً كانَ إلى البحث عن الدهشةِ أولاً، لما تشيعهُ الأسطورة أو الخرافة التي تمّ إعمال إزميل الشغل فيها من أسئلةٍ، ترافقُ القارئ والمشتغلَ في آنٍ، بحيث لا يسلم البحث هذا من لوثة مفترضة ومحسوب حسابها، ولهذا فإننا حين يقفز مصطلح متفق عليه بكثير من الحذر (الواقعية السحرية) فإنَّ الأمر سينسحب وعن غير قصدٍ إلى السؤال الجوهري الذي يخصُّ المكان كبيئة ومن ثم كمنطقة مثيرة روياً، تمتلك أرضية مناسبة للتقريب بين الأسطورة والواقع ولو على مستوى الحكايات الأولى، المشكلة للذاكرة وربما للوعي الجمعي أيضاً.
من المعروف أن لكل مجتمع أسطورته/خياله، بعدهُ الماوراء والمادون مصدّق ومحقق، ويقرأ في شكلهِ الخام هذا بوصفهِ خيالاً بالدرجة الأولى، ولياً للحقائق، وكأنَّ هنا ما هو مبيت لكسر رتابة الحياة الجافة المتعلمة والعلمية لصالح ما هو روحي وقابل للتحقق وإن اقترب من المعجزة، وهذا الشعور بالضرورة مطمئن وهو حاجة للبشرية للتخلص من فجاجة التحولات الكثيرة، تلك التي تنحو إلى تغييب الإنسان لصالح الآلة أو التقنية، مع العلم أن هذه التحولات في حال منها تقترب من تطوير الأسطورة، وكأنها تستند إليها أو تتبادل معها الدور مع فارق ربما يكون كبيرا، تلك حدثت في ماض خلقَ الخيال ذاك وبأدوات الماضي وقبولاته، وحاضر يكاد يدرس الحقبة بوصفها رائياً حكائيا، ويرصدها كفعل تمَّ، وترك بعض آثاره، آثار يمكن نعتها بتخلفها أو عدم جدواها في إقناع أحدٍ يميل بكليته إلى تصديق ما يراه. هذه الفوقية، جعلت من مصطلح (الواقعية السحرية) فعلاً نافذاً لا متسولاً للاعتراف بهِ، فهو ينهلُ من مكان يكوّنه ويعيدُ إنتاجهُ وبما يتناسب والمعيش واليومي، إذ أنَّ السحر هنا، ليس (سحراً أسودَ) بقدر ما هوَ سحرٌ قابل لتتبعه ومعرفته، إذا عرفنا أن المكان تحددَ ويشبه أمكنة مررنا بها والشخصيات تحددت وتشبه أناساً يعيشون بيننا، بل أن الحال تصل بنا، لنرى أحد هؤلاء الذين يفترض أنهم حددوا بلعبة في المكان والزمان هم نحن وهم في علاقة، تأتي اختلافاتها بتخيلِ المكان (أمريكا اللاتينية) البعيدة عنا نحن الذين نسكن في مكان آخر من هذا الكوكب البشري، وتكون هنا المفارقة ليست في الزمن والحدث الذي تدور فيه الدوائر على أهلها، وإنما في شكل التلقي بداية لهذا الفن ومجافاته أو قربه لواقع سحري آخر نعيشه، لكن ببيئته ومناخاته النفسية الكثيرة.
تكادُ ملاحم وبطولات ارتبطت بالأسطورة، ويكاد بشر أبطال أن ينعتوا بوصفهم أسطوريين لا أكثر، ما يحتم على المتشبهِ بهم، أن يقرأ أنَّ هؤلاء صنعتهم الحكاية الموشاة بالتزييف والمبالغة، وصنعتهم الرغبة في عبور الفُلك إلى بر آمن وأقل وحشة وآماله قليلة التحقق، وهو تزوير يتم بالإضافة تواتراً أو لعباً خفياً.
لايمكنُ لمصطلح الواقعية السحرية أن يكون جديداً كلياً وولدَ على يد روائي واحد دون غيره، إنه المصطلح، نظّرَ له المنظِّرون، وكأنهم نسبوه إلى أدب أمريكا اللاتينية تحديداً، وليكونَ الأمر نقدياً أكثر فجاجة اختصّ بماركيز كعراب للفن ومسوق لهُ، وهو ما حدا بالأكاديمية السويدية للقول في حيثيات منحه جائزة نوبل: إن غابرييل غارسيا ماركيز، زاوج بين الأسطورة والواقع»، ربما لو ذهب الدرس النقدي إلى غير ذلك كان أجدىَ لدراسة ظاهرة الروائي بأصالة فعله من حيث الرواية أو الجنس الأدبي كائنا من كانَ، يخلق عالمه وخياله وواقعه، وتكون الحكاية المركزية، وما يحيط بها من حكايات وصراع الشخصيات رسماً لواقع آخر محايث، يحقق شرط الفنية، وقد تكون (الفنية) هي الخيال أو الحكاية المؤسطرة، وعندها سنقول برواية وليس بمكان أو شخص، يمكن على سبيل المثال النظر في رواية «العطر» لباتريك زوسكند برصدها لوضع مكاني حرج وإسقاطاتها، ومن ثم اللامصدّق على أنهُ حالة روائية وليس رواية تنتمي إلى الواقعية السحرية، لأنها ليست كذلك، فبطل الرواية في «العطر» جان باتيست غرونوي، لا يشبه خوسيه أركاديو ولا ضحايا جان تشبه أورسولا بطلة «مئة عام من العزلة».
الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، أصدر روايته «مائة عام من العزلة» 1967، الرقم المهول للمبيعات (50) مليون نسخة، وترجمت إلى أكثر من (30) لغة حية، جعل اشتغال الروائي هنا على محك المشروعية، وإن كان جمعه للواقعية والسحرية في كبسولة واحدة غير مفكر به، فهو سيصبح في ما بعد مصطلحاً، وبالتأكيد، سيلتزمُ هذا الضوء البهي الذي خلفّه خلفه وفتح آفاقاً جديدة نحوَ عمل يأخذ المتلقي ويؤسس لعلاقة طيبة إذ يقرأ، ويؤرخ، ويرى أجيالا عدة في مكان واحد كما هو في روايته الأشهر والأكثر تفتيحا لما جاء بعد، لينظر إلى ماركيز كمحتكر وخالق مَردة لهُ، يفشلون غالباً كلما أرادوا الخروج من تحت عباءتهِ.
قُرأ الراوي هذا كمشهدٍ من مشاهد الحياة القريبة والحقيقية، وقرأ كخرافات تتلاقح، وكان برأي نصيبُ العربي، ذلك القارئ المسؤول وآخر يبحث عن المتعة، من دون وجود سؤال معرفي، نصيبٌ وافر، فالمنطقة العربية بوصفها أرض حضارات فهي ضرورة استدعت الأسطورة، وكانت أرض ديانات وهذا بدوره جاء بالند الخرافة، حتى أن الخيوط تكاد أن تتقاطع وتتماهى الألوان في ما بينها، رعىَ التحول بل اهتمَّ بقارئ كسول أيضا ربما، فأمة اقرأ، صارت لا تقرأ، وصار وجود رواية تراعي الشطط الذي يشبه شطوط بيئة العربي حاجة، لذلك صارت شخصيات ماركيز كما لو أنها ابنة البيئة، بل أن بعض المقدمات للكتب ذهبت في هذا المسعى لتوطيد أواصر الصداقة بين متلقٍ أرهقتهُ الحياة وأرهقه الغموض أو الببغائية في تلقي النظرية أو المصطلح أو الشكل الجديد الذي لاقى رواجا ومحاكمة، حصلَ أن نجد أنفسنا في رواية الحب وشياطين أخرى، وعلاقة محرمة بين قسيس وطفلة في الثانية عشر، ينمو شعرها حتى بعد مماتها، كأنَّ هذا المحرَّم/التابو/ كان جزءاً من عملية البحث والجد عن رواية لا تكتفي بالأسطورة وتفكك الصعوبات لصالح المعجزة التي يمكن أن تتحقق أو الخيال العارم جملة وتفصيلاً. رأي نقدي لا أدعي صحتّه بقدر ما سأقول عن قابليته للجدل والدحض.
تنجح روايتا «خريف البطريرك» و«ليس للجنرال من يكاتبه» في شَدِّ عضدِ القول إن ماركيز (العربي) – العروبة الثقافية وليست: حدود الوطن من المحيط إلى الخليج – دخلَ الحال المزرية السياسية في مجتمعٍ، يحول الدولة إلى مزرعة، ويرى الشعب عبيدا وأجراء، وإن كان الديكتاتور في الرواية وصل لسدة السلطة بمحض الصدفة فهو في الحال العربية وعموم العالم الثالث، يأتي بالتوريث وسواه، وتوطّد أركان مزرعته (دولته) بالعصا والنار والحديد.
ثمة ما يمكن قوله عن المشهد البصري، فرواية غابرييل غارسيا ماركيز حكاية مضغوطة، تقال شفاها، ويحملها الخيال والواقع المرسوم قبل أن يلحظ قارئها أن اللغة هي التي تنوء بكل الجماليات المتوفرة، فدور اللغة هنا موصل، بينما الأس هو التشابك الحدثي وكمية التشويق في المختلف كحكاية غريبة وسلسة في بناء القصة المُجسّدة كمجتزء من فيلم سينمائي حتى قبل التقاط الكاميرا لهذه الجزئيات، لهذا فإن متعتين: بصرية وحكائية تتعانقان لتشكلا فيلماً، يحولُ المكتوب إلى مادة أخرى، والجدير ذكره: التعامل مع رواية لماركيز، تنتمي (للواقعية السحرية) وجل أعماله كذلك، تسمح للفرصة الذهبية أن تغتنم بشكل بصري، لا يقتل الحكائي الورقي في شيء، بقدر ما يمنحه حياة أخرى بفضل التقنية والتي ربما ماركيز أراد القفز عليها والتهجم عليها من غير تصريح، فالكتابة التي ديدنها قول السحر ومحاولة جعله كحقيقة من اليسير أن يفصح عن مراميه من غير إعلان. هكذا عاشَ هذا الرجل ليروي، ونسمع نحن لا أكثر.
شاعر وناقد سوري
محمد المطرود