في كتاب «غزة اليتيمة» للفلسطيني محمود جودة: الطائرات تفعل ما تُؤمر به بكلّ دِقّة
[wpcc-script type=”0c60b4de92248da0d87a087e-text/javascript”]
في المسافة بين كتابة القصة الخبرية الصحافية، وكتابة التقرير الإخباري التلفزيوني، والمسافة بين الكتابة ذات الطابع الوثائقي لأحداث وقعت بالفعل وكتابة القصة الإبداعية بشروطها الأدبية، نقرأ هنا مغامرة الكاتب السردية، هي مغامرة جدّية؛ ليس من مجابهة يكابدها المبدع، أقسى من مجابهة اليومي- الآني، والاستجابة لحاجته من معايشة نبضه والتقاط شفراته العميقة.
لتكتب اليومي والمعيش عليك أن تتدبر مسافة كافية من الحدث، تتجاوز عبوره الماثل مع تراكم الأيام والأحداث نحو أن يكون «قيمة» تتبلور في ذاتها، معتّقة وأصيلة، تضرب في جذور الإنساني، من دون أن تفقد قيمتها المرتبطة بالزمكان المحدد الذي أنتجها في المقام الأول.
عبادة من نوع آخر
«استيقظ كما العادة فجر اليوم ليتصفح وجه الحي الخائف من ليلة موت كانت قاسية جدا على الجميع. أحضرت الزوجة ذات السبعين عاما بعض الزيت والزيتون والجبنة البيضاء التي يحبها زوجها، السبعيني أيضا، الذي اعتاد على هذه الوجبة منذ أن كان مدرسا إلى أن وصل سن المعاش، حتى أنه حافظ عليها في سفره وترحاله الكثير». مطلع نص «الفجر الأخير» من بين (26) نصّا، شكّلت متن الكتاب، يرتبط بمقاطع سردية أخرى، تنتظم جميعا في خيط «قوة الحياة» الساحرة، رغم حصار الموت المحيط بكل أسوارها، الموت الذي يضرب في العمق؛ نقرأ في نص آخر: «كانت الساعة السادسة صباحا والجو غائما نوعا ما، في هذا التوقيت تكون كل نساء غزة قائمات يمارسن عبادة من نوع آخر. يمارسن حبهن وجهادهن العظيم بتجهيز وجبة الفطور، وإيقاظ الأبناء للذهاب إلى مدارسهم. هذا التوقيت من أروع مشاهد الأمومة على الإطلاق، كثافة الحب الحاصل حين توقظ الأم ابنها تكفي كي توزع على قتلة الأطفال جميعا كي تعيد إنسانيتهم، تكفي والله وزيادة.»
بين ليلى ذات الثلاثين عاما التي لم تنجب أطفالا بسبب خلل ما في الرحم، وتحدث نفسها ببعض ما ورد أعلاه، وبين السبعينية التي تعد الفطور الصباحي لزوجها السبعيني أيضا، يضيء «جودة» كهوف لا تتمرأى لصائدي صور العابر؛ بينما تفتَّت الزوجة (السبعينية)، نثرها الصاروخ قبل أن تتمكّن من نثر الحبوب- حبوب الخير التي في يدها، إلى دجاجها الذي في القِنِّ، على سطوح البيت، في خاتمة النص؛ تلعب ليلى الثلاثينية على وتر الوقت «عشر دقائق» إثر اتصال صباحي من ضابط إسرائيلي، ينذرها بإخلاء البيت، لتنقذ أطفالها الافتراضيين، أطفال الجيرة، يختتم نص «السادسة صباحا» بعبارة الضابط الإسرائيلي الغاضبة: «سنقصف البيت بعد خمس دقائق، عليك بالخروج فورا من المنزل أيتها القذرة».
لن يعودوا أبداً
نصوص «الحشيش في الحرب»- «الحمار والصليب الأحمر»- «ضحكة من القلب»- «كرة في المخيم»، تكشف قدرة جودة على تجاوز المباشر والتقريري، الهتافي والرسائل الآيديولوجية المُبطّنة، نحو استكشاف الشخوص في أبعاد بالغة الإنسانية، وتلك نصوص تتسم بالطرافة، رغم أجواء الموت المحيط، واختلاف مصائر الشخوص، كشف الكاتب عن بعضها وتغاضى عن الآخر لتكون نهايات مفتوحة على مقدرة مخيلة القارئ، على استكشافها بحدسه الخاص.
أيضا هناك ما يربط بين نص «سيجارة الحياة» ونص «ليت لي أختا»، يستغرق الكاتب في النصين في تفاصيل مختلفة الجوانب، تكشف الجانب الخفي في علاقة الأخت بأخيها، والأخ بأخته من موقعين مختلفين، في النص الأول يكتفي الكاتب بموقع الراوي، حيث ينقذ الشغب الأخوي الأسرة كاملة من مصير فاتك، في آخر اللحظات؛ بينما في النص الآخر يتدخل الكاتب ليكون جزءا من الحدث الذي لم يحدث، لكن ترتيب الوقائع جعل صوته ذاتيا، في النص أكثر منه موضوعيا.
بينما تتجلى شاعرية جودة العالية في البناء السردي كما نقرأ في نصوص «هل يصير لنا ميناء؟» و»الحرب تُخرّب القلوب.. تُتلفها» و»لن تستطيع أن تُغمض عينيك» و»هكذا دون مقدمات»؛ تتجلّى مقدرة الكاتب في إنجاز ما وطّن نفسه على إنجازه عبر هذا السفر، في توثيقه الملحمي لما حدث حقا عبر نصوص «رفح.. يوم الخديعة» و»لن يعودوا أبدا» و»أنا لست بطلا» و»الإلياذة الفلسطينية» و»نحن نحب الحياة».
ما لم تستطع الكاميرات تصويره
«تخيَّل المشهد.. مُجرد تخيُّل فقط/ يأمرك جيش الاحتلال فجأة، من خلال اتصال هاتفي بإخلاء بيتك في مهلة لا تزيد عن عشر دقائق/ تخيّل معي، عشر دقائق، ويتم محو تاريخك الصغير عن سطح الأرض، هداياك وصور الأخوة، والأبناء الشهداء منهم والأحياء، أشياؤك التي تحبها، كرسيك، كتبك، آخر ديوان شعر قرأته، رسالة من أختك المغتربة، ذكرياتك مع من أحببت، رائحة الفراش، عاداتك في ملاطفة الياسمينة التي تتدلى من شباك غرفتك الغربي، مشبك شعر ابنتك، دفء المقعد، ملابسك القديمة، سجادة الصلاة، ذهب الزوجة، تحويشة العمر».
خاض محمد جودة مغامرة إنجاز باكورة إنتاجه الأدبي في حقل المباشرة الشائك، بدءا من العنوان- الإهداء: «إلى كل من أصابه الجرح الفلسطيني، فنزف دماً أو ألماً…»- المقدمة: «تدور أحداث هذا الكتاب خلال فترة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ما بين 8 تموز/يوليو وحتى 26 آب/أغسطس سنة 2014، الذي خلف أكثر من (2200) ضحية وأكثر من (15000) جريح، منهم (3500) إصابة ستعاني من إعاقات دائمة».
عبر نصوصه الـ(26)، نصوص بعناوين مختلفة، كل نص يلعب لصالحه الخاص، في الأخير تلعب النصوص جميعا لصالح «نص الكتاب»، هنا تجد ما «لم تستطع الكاميرات تصويره».
شاعر وصحافي من السودان
الصّادق الرضي