خنساءُ الجنوب
[wpcc-script type=”d728fad3f5f63df867070d51-text/javascript”]
«إلى عيسى الشيخ حسن»
كتبت على أول درج الصبح نشيدي، معَ الحافلات الذاهبة من الجنوب إلى الجنوبِ، ولم أكن أعلم ستصطدم به في ارتقائك الباكرِ، لملمت نهود الشجرة في النشيد وحليب الأمهات، وسخام المواقد، وريش الطائر وبعض السكر وبعض الملح، ورحت أختار الوشم، ليكون على ظاهر يدك وباطنها، فكانت المرأة بشعر مسترسل كليل طويل، وعينين غامضتين كالأساطير، ووجع دفين في الوجه وتحت الأذنين وعلى الصدر الأبيض كبجع مطعون، لم أصدّق أن المدافئ ووقودها روث الحيوان في تلك المعميات على قلوبها، وتُسمى قرى، سيكون لها كل هذا الاشتهاء، وسأشمُّ فيما بعد ظاهر يدي وباطنها، ظناً أنَّ بعضا مجنونا من تلك الرائحة علق بها أو تغلغل فيها كجرثومة خلفّها جرح قديم، أو رصاصة استعصت بين اللحم والعظم، لم يسمع (جنوب الرد) صرختي، ليردَّ، فذهبَ الصوت من شمالَ الشرق إلى الشرق، حيث سنجار ودخان الانتقام الأعمى هناك.
أسماني شاعر من جنوب الله الفقير: بربري القصيدة، الهمجي، البدوي، فقلتُ له مقطعاً عن نهر جف ماؤه، وأناس خسفت بهم الأرض والسماء، ولو لم يكونوا مسلمين، لقال متطرف عنهم: «كفرة»، خسف الكون بهم، وتشردوا في عالم ضيق مثل منازلهم، ولو لم تدلَّ عليهم وجوههم الشاحبة وألبستهم ومأكلهم وبركهم الآسنة، يشربون منها وتشرب دوابهم، لقال عنهم من دعا إلى قتلهم يوما: قتَلهم بطرهم، بكىَ صاحبي، ورأيتُ في دمهِ الذي نزل من عينيه القرى خالية من ساكنيها، وتذكرت آنذاكَ أطفالاً كانوا يلعبون في الزرع الذي لا يطول أكثر من شبر ثم يموت، تذكرتُ دهشتهم وبهجتهم، حين وزعت عليهم تحيةً مع بعض التشجيع، وكنت متأنقا، ورائحتي تختلف عن رائحتهم، وكان ذلك كافيا لأكون من كوكب آخر، ويُصدَّق، وتحيته كالسكاكر، بكىَ صاحبي الذي يوما طالتهُ أعقابُ البنادق، بينما أطفالهُ يتفرجون ويتفلتون، ويمسحونَ بأكفهم الصغيرةِ دمه عن الأرض.
كنت قرأت في التاريخ أن الأبطال يموتون، فلم أصدق، لأنك بيننا، امتدت شجرتك من تحت إلى طابق للأحياء نشغله، ونشعل فيه النار، ونسيح الماء، ونكتب الأغنية وننام فيها، إذا ألم البرد والكره وعادة الفقد بنا، ثم أنني لا أصدق التاريخ الذي يكتبه أصحاب السير والبحارة والمتدينون، وأميل بطبعي إلى العاشق في كتابة الهزائم عادة، قالت لي بدوية بعد أن واعدتها في مفترق طرق: أنت شاعر، فقلت لها كيف: قالت: عيناك تلمعان، وجسدك يشع، ومن يراك يتبعك، قلت: هوني عليك، ذي صفات نبي، وليست صفات شاعر، قالت: الشاعر نبي، ولو لم أكن حبيسةَ الجغرافيا وهذه الدور التي تبدو من بعيد كالخرائب، لالتحقت بك، وتعلمتُ القراءة والكتابة لأقرأك من الألف إلى الياء. ليتني أعرف عنها شيئا، فالطائرة التي حومت فوق قريتها، ربما أخذت من تحبه أو من تحنو عليه أو من كان يعطف عليها ويرفع عن جبهتها ذؤابتها ليرى عينيها الجميلتين كما رأيت وأغمي عليَّ، وربما أخذتها، فالموت عادة يطول الجميلين، وهي جميلة وعفوية، وكانت تشبهُ الغزلان في خفتها ومأكلها، لها خصر ضامر، وعينانِ خضراوان ووجه برونزي، لفحته الشمس، فصار برونزا ثقيلا، وقريبا من الذهب الأحمر، لم أسألها حينذاك إلى أي القبائل تنتسب، لكنَّ المؤكدَّ أنها قبيلة كاملة بذاتها.
كنت نصف مقاتل يوما، وسياسيا فاشلا، وكنت أحب الله كلما رأيت ضحية ولم أكن أنا، لطالما توهمت أن كل جثة تشبهني هي جثتي – ولهذا – كنت أغمض عين القتيل وأسحب غطاء على جسده البارد مثل قلبي آنذاك، أقصد قلب نصف المقاتل، الذي حارب بلا سلاح يجرح، وعاد مهزوما ومطعونا في قلبه وذاته وأصدقائه، عندما عدتُ مرورا بعكاظ وتيماء وتركت خلفي تل حميس مثل جثة هامدة، وحولها جمع من الأشباح يبكي، مررتُ بالخنساء، كانت توا تدفنُ أبناءها، لم يكن بين القتلى من سميَّ صخرا، لكن قلب القاتل قدَّ من صخر، قلت وأشرتُ إلى مسرحِ المجزرة: انهضوا يا أخوتي، فالطائرة رمَت حمولتها، لا خوف بعدَ الآن، انهضوا كانت تمثيلية فحسب، انهضوا فقط، انفضوا الوحل والماء من ثيابكم، وستعودون للحياة. وعندما لم ينهضوا، وكنت أرى برك الدم، وأوهم نفسي بأنه الماء، صحت بهم: انهضوووووووا، وتهدّج صوتي، وطال كأزيز رصاصة على الإسمنت، وضعتُ رأسي على صدر الخنساء، حين تيقنت أن الأهل سافروا جماعات وفرادى وما من عودة، أذكر أن الخنساء بكت، حتى نزلت السماء بموازاة نظرها، فبصقت عليها، وقالت: السماء التي لا تضيق على الطائرة ولا تمنع برميلا من الخوض في كل أبنائي، لا تستحق أن تكون سمائي، لا هي غطائي ولا شمسها شمسي.
ستعرف ولو متأخرا أن السكين التي سال منها قلبك ليست لي، واليد الناشفة على مقبضها ليست يدي، ولم أكن في مسرح الجرم وقتها، لكن يفترض أن يكون في المسرح ما يدل علي، ويثبت أن الجريمة باسمي، ولا تحمل بصمة أحد، فحضرت بكلي متلبسا بشهادتي والسكين وقلبك الذي سال منها، أنا القاتل حين لم أكن هناك وجئت أرضها متأخرا كحصان هزيل في آخر السبق، قال لي صديق ونحن نمرّ بالسيارة مسرعين: انظر إلى تلك، ونظرتُ فلم أجد إلا أطلالا فقلت ماذا، قال: قرية، قلت: لكن لا ناس ولا حيوان ولا نبت فيها، قال: ألا يقال «البيوت تهجر بعد ساكنيها»، وتوقفنا قرأنا الفاتحة كما لو أننا أمام مقبرة، كان الأحياء/ الموتى، شاغلي هذا المكان يوما، قد توزّعوا في بلدهم كنازحين، إذ ضاقت بهم، فلا السماء أرسلت ماءها، ولا ولي الأمر فكَّ عنهم ولو قليلا، تناثروا كحبات الرمان، بنوا خيماً من الخيش وبقايا الثياب المهترئة، وراحوا يجمعون الثمار في مزارع أهل النعمة وناهبي لقمتهم، حتى سموا بـ»غجر الجزيرة».
لو كان الحنين رثاءً، لرأيتكَ تحنُّ عن بلد كامل وتبذخ بجذعكِ علىَ الذكرى، لو كانَ الحنين يكفي، لكنتَ قطعا من الغيمِ تظللهم صيفا، وتسير معهم كقربة ماء، لو كانَ الحنين دواءً، لو كانَ مأوى، ولو هواءً، «حين لا هواء» ولو ماءً، لكنتَ نبياً صغيراً، أخيراً ولهُ شفاعةُ كلِّ الأنبياء، ليخلصَّ هذا النهر من وحشته، وذاكرته، وأخيرا من طعمِ مجزرةٍ تحت أضراسه.
حينَ أزور(تل حميس) يوماً سأسأل عن سوقِ تيماء للغنم، وسأرىَ الخنساء، تفرّق لحم أبنائها عن لحم الدواب والنبت والوحل، وسأسأل إذا كانتْ أمُّ أحد الشهداء سمعت صوت الطائرة أو رأت مرة وجهَ الطيار، أي طيار، لا لشيء وإنما لتحقد عليه، وإذا كانت عمياء، ذهبت السنون بنظرها، سنحضر صورةَ (الطيار الأول حافظ سليمان الوحش) لتبصقَ عليها، حينَ أزور تلكَ الأرض، ستتملكني رغبة البكاء، سأطلبُ من مغنٍ شعبي اسمه (خضر العبلي) ليغني شرابياته، بينما أذهب في بكاء طويل ومكتوم كأنين الأمهاتِ المكلومات.
كاتب سوري
محمد المطرود