الروائي الأمريكي جون غريشام… أنا مؤلف روايات إثارة يستثمر القضايا السياسية في حكاياته
[wpcc-script type=”9098e69de1b2d49eb73fa9f3-text/javascript”]

ولد جون غريشام في الثامن من فبراير 1955 بجونيسبورو(أركانساس). وبعد دراسته الجامعية للقانون والمحاسبة،عمل في مطلع ثمانينيات القرن الماضي بمكتب للمحاماة متخصصا في القانون الجنائي. كما اشتغل بالسياسة وانتخب عضواً بمجلس النواب بالمسيسيبي، وتولى منصب نائب الرئيس. وفي 1988 نشر أولى رواياته «غير مذنب»، التي لم تلق أي نجاح يُذكر. وبعد عامين حاز غريشام على شهرة واسعة بعد صدور روايته «المؤسسة» التي حققت أعلى نسبة مبيعات، وحُوِّلت إلى فيلم سينمائي من إخراج سيدني بولاك، وبطولة توم كروز. كما حُولت معظم رواياته إلى أفلام في هوليود، منها: «قضية البجع»، «الزبون»، و«حق القتل». وقد أصبح غريشام يمثل علامة بارزة في رواية الإثارة القانونية. وفي هذا الحوار الذي أجرته معه مجلة Lire الفرنسية، يستعيد غريشام مساره الأدبي، ويستعرض عناصر فلسفته في الكتابة الروائية، وموقفه من الرئيس الحالي للولايات المتحدة الأمريكية ..
■ هل تذكر اللحظة التي كتبت فيها نصوصك الأولى؟
□ لم يحصل بالمرة أن مارست الكتابة لمَّا كنت حدثاً أو مراهقاً، ولم أحلم مطلقاً أن أصير كاتبا، فلم يكن لأي فرد من عائلتي طموح أدبي، هذا الطموح تولَّد لدي في وقت متأخر عندما أصبحت محاميا. وأول نص أدبي حقيقي كان روايتي البكر «غير مذنب».
■ وهل كان لديك في سن المراهقة كتاب مفضلون؟
□ بكل تأكيد، يأتي في المقام الأول مارك توين وقد تملَّكني الشغف وأنا حدث لم يشب عن الطوق، بعبقريته الأدبية بعد قرائتي مغامرات توم سوير، وهاكليبيري فين. وقرأت،كذلك، العديد من الروايات البوليسية. وفي وقت لاحق استغرقتني روايات ديكنز التي كلفت بها. ولما أدركت السابع عشرة، أخذت أقرأ روايات جون شتاينبيك، وقد كان وقعه حاسماً في نفسي، فهو سيظل كاتبي المفضل.
■ وما هي أهم النماذج الأدبية التي نسجت على منوالها أولى رواياتك؟ والأعمال الأكثر تأثيراً؟
□ لم أدرك يوماً أني أبحث عن الكتابة على مثال آخر، ولكنني مع ذلك، أعي جيِّدا أننا نحاكي باستمرار وإن على نحو مستتر، الكُتَّاب الذين نعجب بهم. بعد قراءة جون شتاينبيك، أدركت أنَّه من الرائع أن نكتب بطريقة واضحة وشفافة. وقد علَّمني ديكنز أنه من الضروري أن نخلق شخصيات معقدة جدّاً. ومع جون لوكاري وعيت أنه من المثير أن نشيد عالماً موسوماً بالإثارة. أما مارك توين فعلَّمني روح الدعابة عبر الكلمات. ويمكن أن أذكر كذلك جون د. ماكدونالد الذي أدهشني بحَبكته الحكائية التي لايمكن التنبؤ فيها بمآلات الأحداث. ولاينبغي أن يغرب عن بالنا أن الكُتَّاب على بكرة أبيهم هم قراء، وأننا جميعا نود مطالعة الكتب الجيدة. إنه من الطبيعي أن تكمن إجراءات الكتابة وتقنيات التأليف في كلمات وحكايات كُتَّاب آخرين.
■ وما الذي جعلك في بادئ الأمر تُعْنى بالقانون وبالسياسة؟
□ يممت شطر الدراسة القانونية بدافع رغبة جامحة في التألق في هذا المجال، وكسب الكثير من المال لفائدتي، بطبيعة الحال، ولتقديم العون للمعوزين. وهذا جزء من ثقافتي. بعد دراساتي، عدت إلى بلدتي الصغيرة واستقريت فيها لأمارس المحاماة، وأرافع عن القضايا التي تخص طائفتي.
■ ما هي أفضل ذكرياتك في مهنة المحاماة؟
□ لقد زاولت هذه المهنة لمدة عشر سنوات فقط، ولكنها كانت فترة جوهرية في حياتي؛ لأنها بذرت فِيَّ العناصر التي ميزت مسيرتي الأدبية. إن أغلب الوضعيات التي وصفتها في رواياتي مستوحاة ممَّا عاينته وعايشته في مهنة المحاماة. هذه المهنة تضعك أمام المآسي الإنسانية، أمام المنازعات المختلفة، والحيوات المسحوقة. كل هذه الحكايات تشكل لبنة أساس لتشييد صرح الخيال. معظم المحامين هم حَكَّاؤون ماهرون لأنهم يحتكون بالخلافات والمآسي. فبفضل هذه التجربة، أستطيع أن أكتب بسهولة وبالتفصيل مآسي قضائية مستلهمة من أوضاع واقعية.
■ وما العلاقة بين القانون والأدب؟
□ كلاهما يعتبر مسألة سرد قصصي. عندما تكون محاميا، فأنت دائما تقرأ مقالات عن القضاة والمحاكم والجرائم وجلسات المحاكمة، والإجراءات القانونية، والمتابعة القضائية، و مساعي التحكيم، إلخ. إن الأمريكيين يقرأون بِنَهم هذه القصص التي تسبح في فلك القانون، لأنه وبكل بساطة علَّمتنا ثقافتنا أن لنا حقوقا ينبغي أن نفرض على الآخرين احترامها، كما يتوجب حمايتها. فإذا انتهك شخص أحد هذه الحقوق، فإننا نستعين تلقائيا بأحد المحامين، ونلجأ إلى المحكمة. هناك الكثير من الجرائم والجنح بالولايات المتحدة، وينبغي أن نُقر بأنها نافعة لكل الروائيين.
■ وماذا عن تجربتك الروائية الأولى «غير مذنب»؟
□ كما ذكرت من قبل، إن الأمر يتعلق بأول تجربة أدبية لي كمؤلف. ولم يكن لدي حينها أي فكرة عما كنت بصدد كتابته، بل لم أكن أعلم أنني سأنهي هذا المخطوط حقا، وأن أصل إلى هذه الغاية، وماذا أنا صانع به، وإلى أي مآل سينتهي أمره! لقد كنت طارئا على الكتابة غير قادر على فك اللغز، ومع ذلك، فقد استدعى الأمر ثلاث سنوات من العمل، بينما كانت لديَّ نشاطات أخرى. إن الطبعة الأولى لم تكن مُرضية مطلقاً، مُسهبة ومشحونة بالشخوص وبالحَبكات الثانوية، وبكل عفوية بعثت بهذا المؤلف إلى وكلاء وناشرين بنيويورك، وقد رفضه الواحد تلو الآخر، حتى حصلت على موافقة دار نشر متواضعة رغِبتْ في أن تمنحني فرصة.
■ وكيف استقبله القراء؟
□ لقد مُني بالإخفاق، طبع منه خمس آلاف نسخة، ولم نتمكن من تصريفها كلِّها. غاب القراء وأكثر من ذلك غاب النقد. لقد أصبت بالانهيار في الوقت الذي كنت أتهيأ فيه لإنهاء روايتي الثانية. كنت مشغولا بمهنة المحاماة وبمسؤوليتي كأب أسرة، ونائب في البرلمان. الحياة جميلة، وإذا لم يُقيَّض لي أن أنشر أعمالا أخرى، أعتقد أني كنت سأكون سعيداً بالاستمرار في المحاماة، أو أشغل منصب قاض.
■ لكن النجاحات أتت في رواياتك اللاحقة، وخاصة «المؤسسة» أهم هذه الأعمال، فكيف جاءت فكرته؟
□ يعود الفضل إلى ذكرياتي بمدرسة المحاماة. لم أكن ممن يُدعون طلبة متفوقين، عكس صديقي الحميم الذي كانت «مُطارداً» من قبل أكبر مكاتب الأعمال التي لم تكن تمنحه أجرا جيداً فحسب، بل كذلك، امتيازات عديدة ووعودا مغرية. وقد كان صديقي يظن إذا التحق رجل قانون حديث العهد بهذه المؤسسة، فإنه لن يتمكن من إنهاء عمله بها كما يحدث في المافيا تقريبا؟هذه القصة الطريفة كانت بمثابة نقطة البداية.
■ وهل تعد نفسك كاتباً سياسياً؟
□ بالتأكيد لا. أنا على وجه التحديد مؤلف روايات إثارة يستثمر القضايا السياسية في حكاياته. إن القضايا السياسية والقانونية تتشابك إلى درجة أنه يصعب عليك أن تكتب عن إحداها دون أن تثير الأخرى. فعلى سبيل المثال، لقد أثرت مرارا قضية الإعدام، وهو موضوع سياسي بالأساس، شأنه شأن إصلاح العدالة الجنائية، ومشاكل البيئة، وتعريف الجرائم والجنح، والاكتظاظ في السجون، وغيرها. يتوجب عليَّ أن أتوخى الحذر وألاَّ استعرض وجهات نظري السياسية. أحب قرائي وأحترمهم، وهم في غنى عن آرائي. وعلاوة على هذا أشعر بالامتعاض عندما أقرأ رواية تطغى فيها المواقف السياسية للكاتب على حساب التشويق الفني، إن الكُتَّاب الذين يلقون المواعظ، سَرعان ما يطويهم النسيان.
■ وبما تتميز رواية الإثارة عن غيرها؟
□ إن رواية الإثارة تتوطن في سجل الأدب الشعبي والرواية البوليسية والرواية السوداء مرورا بروايات الرعب والجاسوسية والروايات العاطفية والتاريخية، والقائمة طويلة، فجميعها يبتغي الهدف ذاته.
يقال دائما إن رواية الإثارة هي أحد الأجناس التي تلعب على هذيانات القارئ. هل تؤيد هذا الرأي؟
إطلاقا. لا أفكر بهذه الطريقة، لا أفكر في اللعب بعقول قرائي وبخيالاتهم. إن مهنتي هي أن أقدم المتعة والتسلية. ولكي أصل إلى هذه الغاية، فإني أخلق حكايات مشوقة مع ما يلزم من التراجيديا والإلغاز والإثارة لأنقل معي القارئ إلى عالم آخر. فأنا لا أتحايل عليه، هذا أمر لا يخطر ببالي مطلقاً.
■ وكيف تكتب حبكتك القصصية؟ وما هي الحبكة الجيدة؟
□ إنني ألتزم بدفتر دقيق جدّاً يتألف من «ما يجب فعله»، و«ما لايجب فعله»: فلا أكتب المشهد الأول مالم أتصور في ذهني المشهد الأخير. أكتب صفحة واحدة، على الأقل كل يوم. اشتغل دائما في المكان ذاته، والساعة ذاتها كيفما كانت الظروف المحيطة. لا أكتب مُقدمة مطلقاً، بل أبدأ بالفصل الأول. أقرأ كل جملة بصوت عال وأحذف الكلمات التي لافائدة منها. لا أبحث عن استخدام الكلمات الغريبة لإبهار القارئ. ويمكن أن أضيف قواعد أخرى بكل تأكيد. أبحث باستمرار عن حَبكة سردية ذات مضمون قانوني. وعندما تتبلور في ذهني بكل وضوح بداية حدثية تنضح بالإثارة والتشويق وتسير في اتجاه نهاية غير متوقعة، أدرك أنني أمسك بمقاليد حكاية رائعة. أما الحبكة الجيدة، فينبغي ألاَّ تكون معقدة جدا، وانفراج الأحداث فيها يصعب التنبؤ به، كما ينبغي أن تستغرق القارئ وتدفعه إلى قلب الصفحات بشغف وتلهف دون إغراقه في التفاصيل التافهة.
■ في روايتك الأخيرة «قضية فيتزجرالد» إحدى الشخصيات الرئيسية كاتبة روائية تنضب قريحتها الأدبية. فهل سبق أن تعرضت إلى متلازمة الصفحة الفارغة؟
□ أشكر الله لأنني لم أكن في يوم من الأيام ضحية لهذه الحالة التي يُلَا قيها الكثير من الكُتَّاب. في حالتي يحدث العكس .. دائما لدي العديد من المشاريع والأفكار توقعني في حيرة الاختيار، وهو ما يدعى بمشكلته «الوفرة»أدرك ذلك جيِّداً.
■ تسافر بنا روايتك الأخيرة في عالم تجارة الكتب القديمة والطبعات الأصيلة، مع حشد من الإشارات الأدبية، فهل كانت فرصة لرد الاعتبارللأدب الذي تعشقه؟
□ لا أستعمل تعبير رد الاعتبار، رغم أنني أشعر بالغبطة لكون العديد من الاستشهادات الأدبية تنداح في ثنايا نصي الروائي ــ يبقى من مهمتكم اكتشافها ــ فما يعنيني قبل كل شيئ أن أوقِّع رواية بوليسة جيِّدة لإمتاع الجمهور العريض.
■ مع تحوّل الكثير من رواياتك إلى أعمال سينمائية، كيف ترى فضل هوليود على مؤلفاتك؟
□ تسعة من أعمالي نقلت إلى الشاشة وقد لاقت في معظمها نجاحا، ولا أخفيك سرّاً أني أفكر في الفيلم السينمائي عندما أكون بصدد كتابة روايتي. إن كتابتي بسيطة جِدّاً، استهلها بكتابة مشهد أتمثله في ذهني، ثم أمضي إلى المشهد الثاني، وهكذا دواليك. كل رواياتي ما هي إلا سلسلة من المشاهد تماما كما في السيناريو.
■ وهل ترضى عن الأعمال السينمائية المقتبسة من أعمالك؟
□ نسبيا، وفي جميع الأحوال استحسن مشاهدتها، باستثناء روايتي «غرفة الإعدام بالغاز» أو وراثة الحقد، من إخراج جيمس فولي، التي لم تكن اقتباسا أمينا ولا فيلما جيِّداً . ولكني عندما أبيع حقوق رواية لأحد الإستديوهات أقول وداعاً للقصة، وأرجو الاستفادة الأمثل منها في الشاشة.
■ مَن هو البطل الجيد في نظرك؟
□ هو الشخصية التي يمكن للقارئ التماهي معها، يمكن أن يكون لطيفا ودودا، ولكن بنقائصه بعيدا عن الكمال. منذ هذه اللحظة، كلما انتاب البطل الإحساس بالخوف، يستشعر القارئ القلق بداخله وتنتابه القشعريرة.
■ ومَن هو البطل الشرير الناجح؟
□ من الغريب أننا يمكن أن نتخيله بسهولة. فما علينا الا أن نُنقِّب في المجتمع الأمريكي. ويعود الأمر للروائي كي يمزج الصفات السيئة وإيجاد توازن بينها.
■ لقد اتخذت علانية موقفا انتقاديا تجاه دونالد ترامب، فهل من الممكن أن تصنع منه شخصية شريرة جَيِّدة؟
□ لا، إنه أكثر تهريجا من أن نأخذه على محمل الجد في عمل تخييلي. ولكنه في الواقع، شخص قذر ويبدو خطرا على التوازن العالمي وأكثر إرباكا لبلدي. دونالد ترامب؟ إني استسمج هذا الشخص، وهذا منذ عدة سنوات. لقد أثار انتخابه كل مخاوف عدد من أبناء بلدي: الخوف من فقدان العمل، والبيت، والسلاح، والأمن الاجتماعي، والمدارس، إلخ. معظم الناخبين يتهمون الأجانب بالضلوع في مشاكلهم دون أن يتبصروا عواقب الأمور.
٭ بتصرّف عن مجلة (لير)