الروائي العراقي محمد حياوي.. أصبحت سعيداً في منفاي ولكنني لم أتمكن من الكتابة عن السعادة
[wpcc-script type=”cc7c2749cf190498011bd1a1-text/javascript”]

نشر أول قصة «بصيص من الأمل» في عام 1975 وأصدر أول كتاب «ثغور الماء» في عام 1983، ثم توالت الإصدارات لتصل إلى ثلاث مجموعات قصصية وخمس روايات، بالإضافة إلى كتب للأطفال. هكذا هي مسيرة الروائي العراقي محمد حياوي ابن مدينة الناصرية، الذي غادر العراق عام 1992 وأقام في الأردن ثم إلى هولندا لاجئا سياسيا منذ عام 1996، وهو الآن عضو اتحاد الكتّاب الهولنديين، ويعمل أستاذاً لمادّة الغرافيك والصحافة، كما يرأس تحرير مجلة «رواية» المتخصصة في شؤون الرواية العربية والسرد. عن مشواره الأدبي كان الحوار التالي..
■ ما الذي جاء بك إلى الأدب؟
□ الوحدة أو التوحد مع الكتب والخيال بالدرجة الأساس. فقد ولدت في مدينة الناصرية جنوب العراق، وكنت الطفل الأوّل لعائلتي، إذ كان جدي لأمّي، تاجر حبوب كبيرا آنذاك، يقيم الحفلات والولائم على مدى عشرة أيّام، جدي هذا الذي لم أره، إذ مات وأنا في الثانية أو الثالثة من العمر، قد شكل مرتكزًا مخيلاتيًا كبيرًا لديّ، نتيجة للقصص التي سمعتها عنه وعن الخان أو السِيف الذي كان يمتلكه. كما تولى أخوالي وخالاتي المثقفون تنشئتي، فقضيت في كنفهم طفولة مليئة بمجلدات «بساط الريح» و»سوبرمان»، ومن ثم «ألف ليلة وليلة» و»الأم» لغوركي وغيرها من الكتب المدهشة، لقد كان هذا المفصل المهم من طفولتي بمثابة التأسيسات الأولى لشخصيتي الأدبية، التي جبلت على التمرد المبكر، والاكتشافات، وتكوّن الوعي وإثراء المخيلة، سواء بالقصص التي كنت أقرؤها أو حكايات الحب العاصف والتمرد، التي كان يجسدها من هم حولي، من أعمام وأخوال وعمّات وخالات، إضافة لقصص الرعب التي كنت أسمعها من جدتي عن «أم المناجل والمساحي» التي تخرج للرجال في الأهوار، فكتبتها وأرسلتها لسعدي يوسف، حين كان مسؤولًا عن القسم الثقافي لجريدة «طريق الشعب» في السبعينيات، وكم كانت دهشتي وفرحتي كبيرة حين نشرها، إذ كنت في السابعة عشرة آنذاك، ومن يومها وأنا مسكون بالكتابة.
■ بدأت قاصًا ثم تحولت إلى مجال فني آخر. كيف ترى رحلة الحرف والفنون معك؟
□ منذ أن بدأت بكتابة القصص القصيرة، كان ثمة بذرة حيّة لرسّام داخلي، حتى في ذروة انشغالي بالكتابة، لم تنطفئ تلك البذرة تمامًا، وفي أغلب الأحيان كانت بمثابة المكمّل للكتابة عندي، ومع ذلك فقد قضى انتمائي السياسي آنذاك على حلمي، بعد أن منعت من دراسة الرسم في معهد الفنون الجميلة، لتُدفن مَلكَة الفن في أعماقي، وأتفرغ للكتابة القصصية ومن ثم الروائية. وبعد أعوام طويلة جدًا، وبعد أن اعتقدت بأنّها اندثرت واضمحلت، ظهرت فجأة عندما أتيحت لي فرصة لدراسة الفن الغرافيكي في منفاي والتخصص فيه، لكنّني كنت في هذا الوقت قد أرسيت تجربتي في الكتابة ووطدتها، وأصبحت شغلي الشاغل الأوّل في حياتي، فتحول الفن بطريقة أو بأخرى، إلى وسيلة ساندة أو مكملة لتجربتي الكتابية.
■ صياغة الأدب لا تأتي من فراغ، بل لا بدّ من وجود محركات مكانية وزمانية. كيف كتبت «خان الشّابندر» مثلًا وأنت تعيش الغربة منذ زمن بعيد؟
□ تلك المحركات تتمثل في بعدين مهمين، الأوّل ما يمكن أن نسميه التدوين البصري وتخزين الصور التي تصادفني في المخيّلة، وهو خزين حيوي أنهل منه، ولو بعد سنين عندما أبدا الكتابة. والثاني هو الومضة الخاطفة، لكن الساحقة، التي يحدثها مكان ما في مخيّلتي من الوهلة الأولى، لهذا تراني كثير التجوال في الأزقة والأسواق، والتطلع في وجوه الناس وزيارة الأمكنة القديمة والغامضة، خصوصًا عندما أكون في العراق. وهذا ما حدث معي بالضبط عندما زرت خرائب خان الشابندر في منطقة الحيدرخانة، ولعل الخان نفسه لم يكن المحرّك الحيوي في تلك الومضة، بل أحد المنازل الآيلة للسقوط الملاصق له، فبعد أن أعيتني الحيلة للدخول إلى الخان، بسبب عدم وجود منفذ له، وبابه الوحيد كان مقفلًا بسلسلة وقفل، توجهت لذلك المنزل وطلبت منهم السماح لي بالصعود إلى السطح والتقاط بعض الصور لباحة الخان الكبير نصف المهدّم، ولحسن الحظ كانت المرأة التي فتحت لي الباب طيّبة السريرة، وسمحت لي بالصعود إلى سطح الدار. وثمّة تفصيلات صغيرة لكن مهمة للغاية، حدثت أثناء زيارتي الخاطفة تلك، مثل سماع ضحكة امرأة في إحدى الغرف وصوت أغنية بغدادية قديمة يتسلل من وسط الخرائب، ورائحة باذنجان مقلي ورفيف أجنحة غامض، ينبعث من إحدى الزوايا. فتذكرت على الفور منزلًا مشابهًا في المنطقة نفسها، كنت قد تعرفت فيه إلى المرأة لأوّل مرّة في حياتي، قبل عقدين من الزمان أو أكثر، ثم قامت المخيلة بعد ذلك بربط بقية الأحداث بطريقتها الغامضة، التي لا يُفهم عملها وغايتها لا تدرك.
■ وهل هذا ما يفسر الاحتفاء بالمكان وليس فقط اتخاذه وسيلة للكتابة؟
□ المكان عندي هو الوعاء الذي يحتوي الأبعاد غير المرئية، لكنّ الكامنة في أعماقنا كمون النّار في الحجر، ففي حال مجموعة من البشر تربطهم مصائر محدّدة، يكون وعاؤها المكان ـ البيت. وعلى الرغم من أنّني تحولت إلى رجل سعيد في منفاي أخيرًا، إلّا أنّني لم أتمكن أبدًا من الكتابة عن السعادة، ربما لاعتقادي بأنها شعور عابر أو خفيف وسطحي، فتراني دائمًا أعود إلى العراق، حيث المشاعر أكثر وطأة، وأقرب لشغاف الروح، وحيث تكون الأحاسيس على اختلافها، لكن من جهة أخرى أنا لست معنياً برثاء بغداد أو تدوين مناحة ما على واقعها المرير، الذي تعيشه هذه الأيام، وكل ما يعنيني هو إنتاج قطعة فنيّة تترك أثراً عميقاً في نفس القارئ. الأدب من وجهة نظري، لا يحتمل توجيه الرسائل مهما كان نوعها، وليس من شأنه توجيه المراثي أو قصائد المديح، لأنّك في اللحظة التي تقرر فيها كتابة رواية ما عن موضوع محدّد اخترته سلفاً، تكون قد أجهضت الرواية وصادرت عفويتها. الرواية الحقّة لا تُكتب بقصديَّة مسبّقة أو لأهداف معينة، لكنّها في الوقت نفسه هي انعكاس للواقع ومرآة موازية له، أعني ليس بطريقة الفوتوغراف، بل بطريقة عين الراصد وقراءتها المختلفة كليّاً عن الآخرين.
■ وماذا عن الفارق بين أدب الداخل والخارج؟
□ الأمر يتعلق بمدى اختمار التجارب، سواء كانت في الداخل أو الخارج. الخارج ليس ميزة أو كلمة سحرية للمرور إلى عالم الإبداع، ما لم نكن نمتلك القدرة على توظيف ممكنات ذلك الخارج لصالح التجربة الإبداعية، ولعل الميزة تكمن في مفردات بسيطة، إن وجدت، مثل إتقان لغة أخرى لقراءة التجارب العالمية، والاطلاع عليها، متحررين من هيمنة المترجمين، لكن تبقى ميزة الداخل الكبرى هي القرب من مكامن السحر والخيال، ومنابع الحكايا الأولى، وهي ميزة مهمة للغاية يفتقد لها من هم في الخارج، ولا أعتقد أن أدب الخارج يمتلك ميزة معينة عن مثيله في الداخل، بل إن من هم في الخارج عرضة لتحولهم إلى رجال سعداء ونسيان الإبداع وشغفه، والمنافي مليئة بمثل هؤلاء الذين يتغزلون بفنجان قهوتهم الصباحية، أو إطلالة حديقتهم الخلفية على إحدى البحيرات، أو يثملون ويرقصون عندما تتزوج بناتهم، أو يمتدحون كلاب جاراتهم العوانس طمعًا في استمالتهن وهكذا. أما وجع الإبداع وشغف الكتابة الحقيقية والعميقة والموجعة، فقد تراجع عندهم إلى الجانب الخلفي من رؤوسهم، وتحول إلى مجرد ذكرى بعيدة. لكن من جهة أخرى فإن الفرق الوحيد بين الأدبين قد يتجسد بفسحة الحريَّة والاستقرار النسبي وحسب، لأن آلية اشتغال المخيّلة واحدة في الحالتين، ربّما الكاتب في الداخل على تماس مباشر ودائم مع المتناقضات المجتمعية ومراقبة تأثيرها على الناس، لكن الإبداع بصفة عامّة والرواية على وجه الخصوص تعتمد على صور الماضي والذكريات والتجارب التي خاضها الكاتب. ربّما يعتقد الكثيرون أن الحياة في الغرب من شأنها توفير بيئة مناسبة ومستقرة للكتابة، لكنّني وفي ضوء تجربتي، أختلف مع هذا الرأي، فأنا على الرغم من تحقيقي لبعض النجاحات على صعيد تعلّم اللغات والدراسة المتخصّصة بالغرافيك، ونيلي شهادة عليا فيه، إلّا إنّني فقدت حاضنتي ومفردات مخيّلتي في الغربة، ولم أشأ أن أكتب عن العلاقات بين المغتربين العرب والمجتمعات الغربية التي تحتضنهم كمجتمعات بديلة، الأمر بدا لي سطحياً، ويفتقر إلى العمق والحرارة والوجع، حققت في المنفى أو الاغتراب بعض النجاح الشخصي ربما، لكنّني على صعيد الكتابة الإبداعية أُعطبت تماماً، حتّى عودتي إلى وطني الأم بعد غربة امتدت لأكثر من عشرين عامًا، لتلتهب مخيلتي من جديد وتمتلئ بالحكايا والسحر، وتبقى المجتمعات الغربية من وجهة نظري مجتمعات لاروائية من فرط استقرارها، لهذا لم تخرج منها روايات عظيمة بمستوى روايات أمريكا اللاتينية، المليئة بالتناقضات المجتمعية، في الغرب يمكنك أن تحصل على السعادة الشخصية والأمان والكرامة، لكنّك لن تحصل أبداً على صعقة الإبداع اللازمة لكتابة رواية، هذه هي المعضلة في الواقع.
■ كيف ترى تجربتك من خلال النقد العراقي والعربي؟
□ ثمة تجارب نقدية عراقية متمكنة وراسخة وصبورة، تتعامل بجديّة منقطعة النظير مع التجارب المختلفة، هذه النقدية تمكنت من ترسيخ رؤاها بأناة وروية وجديّة، بعيدًا عن الأضواء أو النجومية، ولا أدري إن كان هذا عيبًا أم ميزة لها في الواقع، لكنّها في جميع الأحوال لم تحابِ أو تجامل على الرغم من زهدها بالانتشار أو المغانم، وهي لا تقل بأي حال من الأحوال، عن مثيلاتها العربية، إن لم تفقها في بعض الأحيان، أذكر هنا حزمة من النقاد الذين يمكن تصنيفهم وفق هذه الرؤية، منهم علي الفواز، عبد علي حسن، محمد جبير، محمد يونس، جاسم عاصي، عباس عبد جاسم، جاسم محمد باقر وأحمد الحلي وغيرهم، أما عربيًا فالمشهد يبدو أكثر صخباً في الآونة الأخيرة، بسبب الانخراط في لجان تحكيم الجوائز وغيرها من الممارسات التي لا تمت للنقد الحقّ بصلة، ومع ذلك لا يمكننا إغفال تجارب نقاد عرب كبار من أمثال المغربية زهور كرام، التونسي محمد آيت ميهوب، الأردنية رزان إبراهيم وغيرهم، ولعل ما يلفت الانتباه هو القدرة النقديّة الرائعة التي يتمتع بها بعض الإعلاميين العرب المعنيين بالأدب، وشغفهم بقراءة الرواية تحديدًا وتقديمها أو الكتابة عنها، مثل المصري خالد منصور، المغربي عبد الإله الصالحي، السوداني عمر عبد الرازق والمغربية غادة الصنهاجي وغيرهم.
■ هناك أسماء روائية برزت في جيلك وأخرى خرجت بعدك في العراق. هل هناك فارق إبداعي بين الجيلين؟
□ ما يميز جيلي، بغض النظر عن تقنياته الخاصّة ورؤيته، هو التجارب التي خاضها، هو تفصيلات المحنة والتشرد وتهديد مصير، ولعله الجيل الأدبي الوحيد في العالم العربي، الذي تعرض لمثل تلك المحن، فمنذ امتلاكنا وعينا الإبداعي مطلع الثمانينيات، نشبت الحرب العراقية الإيرانية الطاحنة التي استمرت أكثر من ثماني سنوات، وطبعت ذاكرتنا بمشاهد الدم، ومن ثم تعرض العراق لحصار اقتصادي ظالم وشرس، أدى في المحصلة لانهيار البنية الأخلاقية للمجتمع ككل، ثم اندلعت حرب الكويت وما تلاها من هزات ارتدادية عميقة، مهدت في آخر المطاف للاحتلال الأمريكي للعراق، وانهيار النظام السابق. إن تلك المحن والمتغيرات العميقة التي امتدت على مدى ثلاثة عقود، هي عمر جيلنا الافتراضي، وفترة امتلاكه لوعيه النقدي والإبداعي، طبعت كتاباتنا بطابع المأساة ومازالت، ولا اعتقد أننا سنتخلص من ذلك التأثير الساحق قريبًا، وعلى الرغم من تشتت هذا الجيل بين الخارج والداخل، إلّا أنّه ما يزال يمتلك بعض الملامح المتقاربة، سواء على صعيد الرؤية أو التقنيات، وثمة تجارب مهمة لروائيي جيلنا في الداخل لا تقل أهمية عن تجاربنا نحن الذين نعيش في الخارج، وفي المجمل لا يمكنني للأسف الإحاطة بالمشهد الروائي الواسع لجيلنا كلّه، نظرًا لتشتته ما بين داخل وخارج. لكن الملاحظ أن الرواية العراقية حققت في السنوات الأخيرة حضورًا لافتًا، سواء على الصعيد العربي أو العالمي، وصارت تُترجم إلى الكثير من اللغات، ولولا العزلة وصعوبة السفر التي يعاني منها روائيو الداخل لأصبح لهم شأن كبير في هذا المضمار، أسوة بزملائهم روائيي الخارج الذين تُرجمت أعمالهم وحققوا انتشارًا ملحوظًا.