الكاتب المغربي عبد الحميد شوقي: الشعر تجربة وجودية… والرواية ملحمة العصور الحديثة
[wpcc-script type=”e93757790aaec96e074ca70d-text/javascript”]

الرباط ـ «القدس العربي»: عبد الحميد شوقي شاعر وكاتب مغربي، مجاز في الفلسفة في كلية آداب الرباط، وأستاذ المادة نفسها في مسقط رأسه تيفلت، من الأعمال الأدبية التي أنتجها ديوان «كنت أهيئ صمت الانتظار» وديوان «متاهات برائحة الفجر»، وأربع روايات «خراب الحلم»، «الموت في رابينه»، «الموتى لا يعودون من السماء»، لم ينشر منها سوى «سدوم» الصادرة عن دار الآداب، التي أثارت العديد من التابوهات في المجتمع المغربي، واستقبلت بردّات فعل زئبقية متنافرة، تتقافز في المجال المغربي الساخن، بين من اعتبرها مرآة تعرّي حقيقة الإنسان المغربي، وتضعه أمام نفسه بعلاتها التاريخية، الجسدية، الهوياتية والدينية، وبين من اعتبرها «قلة أدب» تتلفع دفتي رواية أدبية. التقته «القدس العربي»، وأجرت معه الحوار التالي:
■ بعيدا عن الأديب والشاعر، أو بينهما، من هو عبد الحميد شوقي الإنسان؟
□ أنتمي إلى بلدة صغيرة على هامش التاريخ اسمها «تيفلت». فتحت عينيّ على شغف الكتابة التي حولتني من مجرد كائن وجودي إلى شخص مبدع.
■ عندما يقتحم القارئ نص الرواية، توقفه عبارة «سدوم»، تتجاذبه دلالات المفردة، الدلالة الأولى تعرج به نحو «مدينة سدوم» التي جاءت في نصوص التوراة، والثانية ذلك المعنى المعجمي الذي يحمل معاني الألم، فهل كنت باختيارك لها تمغنط التاريخ في اللغة، لتقول إن حرية «سدوم» العبرية في المغرب مؤلمة، أم ماذا؟
□ كل رواية تبدأ بلقطة، بفكرة مباغتة، بدهشة ما. اللقطة التي أشعلت شرارة الكتابة هي مشاهدتي لفيلم سينمائي عن علاقة الشاعرين الفرنسيين فيرلين ورامبو، حيث في القرن التاسع عشر، كانوا يستعملون عبارة «السدومية» للإشارة، إلى كل علاقة شاذة أو سلوك رذيل، وهو ما كانت عليه علاقة الشاعرين، وبقدر ما أثارتني العبارة بقدر ما وضعتني أمام إحراج حقيقي: لو لم يرتبط رامبو وفيرلين بعلاقة «سدومية»، هل كان الإبداع العالمي سيحظى بهذا الدفق الشعري الذي عبرا عنه؟ بطريقة أخرى، كان من الممكن أن تكون علاقتهما «سوية» وفق ما تفترضه التقاليد والأخلاق الراقية، ولكن ماذا كنا سنربح فكريا وإبداعيا وجماليا من هذه الأخلاق النبيلة؟
■ الشاعر فيك كان حاضرا في الرواية، تارة بوضوح القصيدة، وتارة بقصائد تتشح نثرا أغنت النص، فأيهما غلب الآخر في صراع الكاتب والشاعر داخلك، وأنت تكتب الرواية؟
□ أنا في الأصل شاعر، وما زلت. لكنني بعد سنتين فقط من بداية تجربتي الشعرية، وأنا في الخامسة عشرة من عمري، كتبت أول رواية. فأنا لم آت إلى الرواية متأخرا بعد أن ضاقت بي ضفاف الشعر، لكن الشعر ليس هو الرواية، رغم أن السرد الذي لا يقوم على دفق شعري، لا يقدم رواية عميقة ومأساوية. الشعر تجربة وجودية لا يمكن توصيفها وفق آليات تقنية، لكونه زخما منفلتا له مساحته الضيقة في الزمان والعبارة والتلقي، أما الرواية فتمتلك كل الإمكانات الواسعة لإيصال الفكرة والتجربة.
■ يرى الكثير أن الرواية باتت «ديوان العرب» عوض القصيدة، أو بأن هذا زمن الرواية وليس زمن الشعر عند العرب، ماذا ترى أنت من موقعك كشاعر وروائي معا؟
□ لا يمكن أن ننكر أن الرواية حققت انتشارا هائلا على حساب الشعر. الرواية بهذا المعنى ليست ديوان العرب فقط، بل هي ملحمة العصور الحديثة. كما أن التلقي الشعري العربي طرأ عليه نوع من الارتباك بظهور ما عرف بالشعر الحر. الآن هذا «الفكر» الشعري تمت خلخلته تماما، وهو ما لم تعرفه الرواية العربية لأنها لا تنهض على موروث بل على متن عالمي.
■ الفرنسية كانت حاضرة في نص سدوم بشكل لافت للنظر، هل كان عبد الحميد يطرح إشكالية «الازدواجية اللغوية» في الإنسان المغربي، أم أن هناك في مطبخ كتابتك شيئا آخر أبعد من هذا التأويل؟
□ أنا روائي أشتغل على متن يمتح من واقع موضوعي، وليس من مجرد واقع شعوري. والواقع المغربي يعرف تعددا لغويا، وهذا أمر لا يحتمل أي حكم قيمة. في سدوم نجد تعددا لغويا يعكس واقعا ليس من ابتكاري؛ نجد الدارجة والفصحى والأمازيغية والفرنسية. الفصحى تخترق حوارات الشلة السدومية، وهي تناقش قضايا إبداعية أو فكرية، والدارجة هي لغة الإنسان العادي الشعبي الذي وصفته من خلال مشاهد «ساحة الخروب»، والفرنسية هي لغة كاميليا سليلة البورجوازية الرباطية والمنتمية إلى البعثة الفرنسية، والأمازيغية هي لغة أهل المتاجر البسيطة من سوس الذين كانوا يفرغون أحمالهم الجنسية في بيت «زينة» أم ميلاد.
لا يمكن للروائي أن ينسلخ تماما من ذاكرته وطفولته وذاته، وإلا فإنه مجرد موظف يكتب تقارير إدارية جافة، لكن الذات الروائية تمارس نوعا من المكر على المتلقي
■ سأطرح عليك سؤالا طرحته أنت بلسان إحدى شخصيات الرواية، لكن بطريقة مختلفة، هل سر الجمال في الأعمال الإبداعية الذي يحقق لها الخلود فعلا هو التحرر، أم كانت تلك عبارة أدبية حرة نكاية في حراس النوايا من كهنة اليوم، وسجاني الخيال الإبداعي في سياج الظلام والتكفير؟
□ في العتبة قولة لباسكال تم تحويرها: le cœur a ses raisons que la Raison ignore ، وهي ذات دلالة روحية، إلى: le corps a ses raisons que la Raisons ignore وبذلك ننتقل إلى الأبيقورية والنتشوية، إلى عنفوان الجسد واندفاع شهواته. يقوم الاعتراف بالجسد على ثيمة الحرية كمعطى أنطولوجي. بدون حرية، نكون أمام روح بائسة تجعل الجسد على صورتها، فتنظر إلى شهواته بإدانة مبنية على أحكام الخطيئة الشيطانية. لكن ماذا ننتج في النهاية؟ ننتج شخصية ما تنفك هاربة من جسدها وتنتظر أي فرصة للخلاص منه عن طريق الزهد أو الاستشهاد.
■ النزعة الأمازيغية كانت حاضرة بشدة في النص، ولأن النص عجينة من ماء الخيال ودقيق الواقع، سنتركه جانبا، وأسأل عبد الحميد شوقي الإنسان، ما موقفك من «القضية الأمازيغية»، وماهي قراءتك الآن للتاريخ «العربي» في منطقة الشمال الافريقي؟
□ أنا أنتمي إلى منطقة زمور الأمازيغية، رغم أن أسرتي معربة. نشأت على تداخل بين الأمازيغي والعربي القادم من أحواز دكالة والشاوية وعبدة والرحامنة، ومثلما نشأت أذني على عيوط العرب الهلاليين، ترعرعت كذلك على مواويل الأطلس المتوسط. وانتبهت إلى أن التاريخ المغربي أعرق من التاريخ الرسمي. هذا أمر لا يمكن أن أقبله كمنحاز لقيم الحرية والاختلاف. لهذا أرى أن المغرب خسر وسيخســــر الكثير من مقوماته الثقافية، لأنه يريد أن يحصر الشخصية المغربية في شيء أحادي.
■ هل ترى أن انشطار الهوية المغربية يشكل حيرة في تحديد ولاءاته وانتماءاته؟ أم أن الأمر أبسط من محاولات التنظير؟
□ أعتقد أن مشكلة الهوية لا تطرح إلا في البلدان التي تعاني من تراجيديا الانعتاق من ثقل الماضي. الهوية مسألة متجذرة في اللغة والتربية والسلوك ورؤية العالم، ولا داعي لطرحها. ما يلزم أن يطرح الآن هو الاعتراف بالاختلاف والتعدد باعتبارهما قوة وغنى للفكر والثقافة بإمكانهما أن يخرجانا من الارتهان لزمان نزعم أنه مسطر سلفا.
■ أبطال الرواية كلهم ينتمون إلى الوسط الفني والثقافي، تعددت مشاربهم التكوينية بين المدارس الغربية والمشرقية، هل وراء ذلك رسالة مفادها أن الوصول إلى مجتمع متحرر لن يكون بدون وعي ثقافي، أم أن الشخصيات وحدها أثناء الكتابة تحررت من عقال الكاتب متمردة؟ ما هو السر الذي يكمن وراء هذه الصبغة التي ضمخت بها شخصيات «سدوم»؟
□ لست صاحب رسالة أو قضية أحاول إيجاد مسوغ لهما على مستوى الكتابة. أزعم فقط أنني كاتب، أطالب بامتياز بسيط، وهو أن تتم المعاملة مع أعمالي انطلاقا من معايير جمالية، أما مسألة الأفكار الموجودة في الرواية، فهي متروكة لفكر الناقد، لكن هذا لا يعني أنني انطلق في كتاباتي من سديم فكري أو أيديولوجي أو معرفي.
■ هناك سؤال راودني وأذكى جذوته حوار «الراهب» و«كاميليا» في الرواية، «أن كل رواية مطبوعة بجانب حقيقي من حياة الروائي الواقعية، ولن يستطيع أي روائي أن ينسلخ عن سيرته المعيشية»، وسؤالي هو أين يجدك القارئ في شخصيات «سدوم»؟
□ لا يمكن للروائي أن ينسلخ تماما من ذاكرته وطفولته وذاته، وإلا فإنه مجرد موظف يكتب تقارير إدارية جافة، لكن الذات الروائية تمارس نوعا من المكر على المتلقي إذ تستدرجه لسراديبها الخاصة، لكي يصادف ذوات أخرى وأصواتا متعددة، وفي هذا التشابك «الهلامي» بين الذاتي والموضوعي، تكمن براعة الروائي في الإقناع. كثيرون اعتقدوا أنني أتخفى وراء شخصية «الراهب»، في حين أن الرواية تركت هذه المسألة غامضة ما بين الراهب وجلال.
■ الجسد، العقل، التحرر، مفاهيم مترابطة في الرواية، كأنها نقطة انطلاق، مطية، ونقطة وصول، نقطة الوصول يظهر جليا أنها تكمن في التحرر، ليبقى الجسد والعقل فأيهما نقطة الانطلاق، وأيهما المطية؟
□ هنا مفارقة غريبة جدا: يمكن للفكر أن يكون متحررا، لكن لا يترتب على ذلك تحرر الجسد على أرض الواقع. لكن عندما يتحرر الجسد، لا يمكن للعقل ألا يكون متحررا. فكثير من المثقفين يرفعون شعارات الحرية، ولكنهم يمارسون أشنع أنواع الرقابات والكبت عندما يتعلق الأمر بحرية الجسد في أن يسلك وقف قناعاته الشخصية، التي لا تؤذي أحدا. أنا أستغرب كيف يمكن للمبدع أن يقنعنا بالحرية والجمال، وهو لا يجسدهما على مستوى السلوك الخارجي.
■ الأوضاع السياسية المغربية كانت تستحضر نفسها في أحداث الرواية، وجاءت حركة 20 فبراير/شباط في السياق، الآن بعد كل هذه السنوات، كيف ترى الوضع السياسي الحالي للمغرب؟ كمثقف مغربي ما تعليقك على الأحداث التي شهدتها البلاد، صعود الإسلاميين على ظهر ما سمي «الربيع العربي»، دستور 2011، الحكومة الحديثة، كيف ترى هذه الأشياء؟
□ تسمية الحراك بالربيع العربي هي تسمية في غير محلها. إنها تحاول التشبه بالربيع الأوروبي سنة 1848. كل ثورة تراهن على تصور حقيقي للزمان يرى أن المستقبل هو تلك الإمكانات التي لم تتحقق لحد الآن، ونناضل لتحقيقها لاحقا، وليس بالارتماء في مستقبل، تم اكتمال بنائه في الماضي، وما علينا سوى أن نقوم بعملية التفاف هائلة بالعودة إليه. كل ثورة لا تنهض على فلسفة جديدة للإنسان هي ثورة محكوم عليها بالعودة إلى الماضي كـ»كمال جاهز».
■ أخيرا، كيف ترى الوضع الثقافي في المغرب؟ وهل تغير بعد حراك «الربيع العربي»أم لا؟
□ منحنا الـــحــــراك هامشــا من الحرية، لكن هل ذلك يشير إلى «أنوار» تنطلق من تحرير العقل من كل وصاية؟ أشك في ذلك ما دام الفضاء العام ليس ملكا لحرية التفكير.