الباحثة الجزائرية شفيقة وعيل: النفري لم يكن صاحب مدرسة فكرية أو دينية أو أدبية
[wpcc-script type=”847f5fa879ee0f8d5bb5e294-text/javascript”]

ترى الشاعرة والباحثة في الفكر الإسلامي شفيقة وعيل أن النفري لم يكن صاحب مدرسة فكرية أو دينية أو أدبية، وأنه لم يكن إلا عفوَ التجربة الروحية؛ مجذوبًا في الدهشة أمام التعالي. وذلك في قراءة جديدة مختلفة قدمتها وعيل في بحث بعنوان: «الذي رأى: محاولة أخرى لقراءة النفري» تناولت فيه إشكالية علاقة اللغة بالتصوف عند محمد بن عبد الجبار النفري، إلى جانب مواضيع أخرى تتعلق بالكتاب وسيرة صاحب «المواقف».
بجانب بحوثها تصدر وعيل في قصائدها عن معرفة عميقة في قراءة كل ما يحيط بها من تفاصيل، هي مادة الحياة التي تتشكل قصيدة صوفية ليست تنويعا على تجارب في السياق الثقافي والأدبي، بل حالة فريدة استطاعت أن تكرس حضورها من خلال منجز شعري وفكري مغاير ومختلف. التقتها «القدس العربي» في حوار حول عدة قضايا فكرية وأدبية..
■ هنالك صورة نمطية سائدة في ذهنية المشرق العربي عن أهل المغرب العربي، إنهم أهل فكر لا أهل شعر، وأهل سرد لا أهل قصيد فما الذي أصل لهذه الصورة؟
□ قد يكون هناك عاملان وراء هذه الذهنية: الأول، ولعله الأخير تاريخيا، هو انخراط المغرب العربي في حركة الترجمة إثر احتكاكه بالفكر الحداثي وما بعد الحداثي، خاصة المدارس الأوروبية. وهذا ما نشأ عنه إنتاجٌ فلسفي فكري انفتح على أسئلة كثيرة بدأت بالفلسفة ولم تتوقف عند القضايا الفكرية والاجتماعية والدينية. أما الثاني، فقد يكون بروز توجهٍ سردي مبكر في المغرب العربي بدأ باللغة الفرنسية لظروف الاستدمار آنذاك (مع مولود فرعون وكاتب ياسين ومالك حداد وغيرهم)، ثم امتد الإرث إلى اللغة العربية، لتنبري أسماء سردية كبيرة في الساحة العربية كان لها حظ الانتشار على حساب التجارب الشعرية في تلك الفترة. ولعل هذه التجارب الشعرية لم تكن كبيرة لا على مستوى «التجريب» ولا على مستوى الإنتاج، لكنها كانت موجودة في كل حال.
الأسئلة الوجودية في الفلسفة أو علم الكلام تستند بالفعل في وسائلها الحجاجية، إلى أدوات البرهان، لكن لا تقتصر عليها.
■ كباحثة في الفكر الإسلامي، أي المباحث تستهويك أكثر؟
□ المراجعات هي أهم شيءٍ يجلب انتباهي، وينفتح ذلك على مختلف مباحث الفكر الإسلامي، سواء ما تعلق منه بالدراسات الدينية، وعلى رأسها تأويل القرآن وأصول التفكير المقاصدي والفلسفي وسجالات علم الكلام، أو ما تعلق منها بالفكر اللغوي والأدبي. غير أنني أجــــد متعةً كبيرة في بحث القضايا التراثية الوجودية فلسفيا من مداخل لغوية، ولذلك تستهويني كثيرًا التجارب الصوفية كلغة وتجارب ونصوص ورؤًى وجودية. أشعر بأن الإنسان يربض هناك.
■ وهل هناك معايير أو حدود لإثارة الأسئلة الوجودية ومحاولة تفسيرها من دون الاعتماد على البرهان العقلي؟
□ الأسئلة الوجودية في الفلسفة أو علم الكلام تستند بالفعل في وسائلها الحجاجية، إلى أدوات البرهان، لكن لا تقتصر عليها. فعندما تقصر الأداة البرهانية يكون على المتفكر أن يستند إلى الحدس أو الإيمان المحض، الذي قد يمكنه من التفكير في السؤال وتشريحه وقد يمنحه معرفة مطمئنة (أو يقينية) ولكن يقصر أن يبرهن للآخر مجال الطمأنينة أو اليقينية. وبالنسبة لي، أنا لا أطرح الأسئلة في محاولة إجراء جدالات كلامية أو فلسفية لإقناع أحد، بل أطرح الأسئلة التي أراها جوهرية، لكي أعيش يقينياتي باطمئنان. ولذلك، لا أضع حدودًا ولا معايير لطرح الأسئلة الوجودية، وأحاول أن لا ألغي أي سؤال من عقلي ومن روحي، لكنني أتعاطى معه بروية تعرف أنه متى يعجز العقل يُسلم للإيمان والحدس.
■ كيف تلخصين إشكالية المناهج في قراءة النص الصوفي، وما هو النموذج المعرفي الذي تنتهجينه وتنصحين به في قراءة الفكر الصوفي؟
□ النص الصوفي تتمازج فيه اللغة مع الفكر والذائقة في التعبير عن تجربة إنسانية بمستوى لغوي جمالي ما. فهو إذن، نص أدبي بامتياز، لكن تتجاذبه المناحي الكلامية (العقدية) والفلسفية. والتعاطي مع هذه النصوص اختلف عبر التاريخ من منطلق أدبيتها أو عقديتها، وقد عُرف صراع شديد بين الفقهاء (أو من يسميهم الصوفية علماء الرسوم) وبين المتصوفة. فمنهم من تطرف حتى أعدم لغتهم ومؤلفاتهم، حاكمًا عليها بالهرطقة والزندقة، بل منهم من أعدم حتى أصحابها؛ ومنهم من التمس لهم العذر، ورأى أن قولاتهم إنما كانت ناجمة عن وَلَهِ العقل وغياب المنطق في الجذبة الروحية، إثر التعرض للمعرفة المتعالية. فما كان إلا أن تأولوا أقوالهم بوصفها شطحات، ولكنهم حذروا من خوض غمارها. أما المدارس الحديثة فمنها ما تناول النص من جهة تاريخيته، ومنها ما تعاطى معه فيلولوجيا بما هي قالب لا بما هي إمكان، وأغلبهم من الباحثين الغربيين. غير أن بعض الدراسات – العربية تحديدًا – تبنت مناحي تأويلية وفق نظريات غربية حديثة، ومعظم هؤلاء حاول إقحام التصوف في لبوس نظري خارج عن طبيعته. ولست أرفض هذه المناهج التأويلية الحديثة جملةً، ولكن أنزاح إلى بناء رؤية نظرية خاصة بالسياق التاريخي والديني للتجربة الصوفية الإسلامية. وهذا يعني تهذيب الأدوات الحداثية وإعادة صناعتها بما يوافق طبيعة التصوف الإسلامي.
رحلتي مع النفري كانت تجربة حياة، لم أحاول فقط تحريك الساكن الفكري والتاريخي بخصوص هذا الرجل، ولكن أردت تحريك المنظور الوجودي الذي يتعاطى مع لغته وتجربته.
■ ما بين «كأنك ترى» لابن عربي، و«إنك ترى» للنفري، ماذا ترين؟
□ إسمحي لي بملحوظة، وهي أنه رغم شيوع اسم ابن عربي للشيخ الأكبر، فإن الرجل سمى نفسَه ابن العربي بالتعريف، ولذلك أحب العودة إلى تسميته كما سمى نفسه. دعيني في البداية أقدم بعض التوضيح حول موقفَي الرجلَين حتى لا أقع في فخ الضبابية المعرفية. العالَم البرزخي لابن العربي هو كالخط الفاصل بين الظل والشمس، حيث كل ممكنات الخيال موجودة أو قابلة للوجود، ولذلك، فعلاقته مع الله ومع الوجود هي علاقة لا تنتمي إلى الوجود المحايث المحض (الشاهد) ولا إلى الغيب المتعالي المحض، ومن ثمة لا تنتمي إلى حقيقة الـ»هنا والآن» ولا إلى حقيقة الغيب، لكنها حالة من الخيال والمجاز يختصرها كاف التشبيه. وتقوم تجربته على رهانٍ وجودي، هو أن يعيش المرء كاف التشبيه حياةً حقيقية تتشبث بطرف من العلَمَين. وطبعًا، حتى عندما أقول «حقيقة»، هنا، فأرى أن ابن العربي يريد بها الحقيقة البرزخية التي تعيش الـ»هنا» والـ»هناك» في اللحظة الوجودية والمعرفية نفسها، التي يلخصها الحديث الشريف «أن تعبد الله كأنك تراه».
أما النفري فيعيش بين عالمَين لا برزخ بينهما: عالم المحايثة الذي يسترق منه لغته ليقول بها ما يتحقق من معارف التجربة المتعالية؛ وعالم التجربة الروحية المتعالية ولغتها. وكل تجربته قائمة على عدم إمكان مد جسرٍ بين العالَمَين وبين اللغتَين، لذلك يعتمد على تفريغ المفردة والسياق كليا من معناه: يقول، ثم يهدم القولة، ثم يحيل بعد ذلك إلى «الفراغ» الذي يعبر عنه بالنفي. النفي فقط هو حقيقة ما يراه في التعالي بالنسبة إلى ما يكون في المحايثة، وهو فقط ما يناسب تلك التجــــربة – المعرفة التي «ليس كمثلها معرفة» لأنها متعلقــــة بمن «ليس كمـــثله شيء». رأيت بين كافَي الرجلَين: كافَ خـــيال وانتفاح ممكن، وكافًا تلغي حقيقتها المحايثة لتنفتح على حقيقة غيبية غير قابلة للإمساك لتتحول إلى محض إيمان.
هنا وقفتُ فعليا وقفةً وجودية أحالتْني إلى أن الشعر كالتجربة الصوفية: إمكانُ خيالٍ مفتوح ولكنه، أيضًا، محض إيمانٍ وتسليم. هناك رأيت كل شيء ولم أرَ شيئًا.
■ ما الذي سعيت إليه من خلال إعادة قراءة النفري؟
□ رحلتي مع النفري كانت تجربة حياة، لم أحاول فقط تحريك الساكن الفكري والتاريخي بخصوص هذا الرجل، ولكن أردت تحريك المنظور الوجودي الذي يتعاطى مع لغته وتجربته. فهو ليس ما قاله آربري ونويا، وليس ما قاله أدونيس. النفري لم يكن صاحب مدرسة فكرية أو دينية أو أدبية، لم يتعمد الغياب ولم يلعب باللغة ولم يثُر على أنماط الشعر الكلاسيكي، ولا على الفكر السائد، ولم يكن إلا عفوَ التجربة الروحية؛ كان مجذوبًا في الدهشة أمام التعالي. من جهة، هو رجلٌ مبهمٌ تاريخيا غاب لأنه لم يهتم بالحضور المحايث، تتجاذبه كل المدارس الفكرية والدينية وتحاول تبنيه لتقول على لسانه ما لا تجرؤ على قوله، وهو غائبٌ كليا عن انتماءاتهم. حاولتُ رسم صورة تاريخية له ولغيابه مع الخضوع للكثير من الموضوعية والانفتاح على أسئلة تاريخية ووجودية، تتعلق بسياقه التاريخي وبتجربته كنص ولغة وعرفان. وجدت أن فهمنا للرجل خارج نطاقه التراثي ومعطياته اللغوية ومفردات تجربته هو قصور محض، وحاولت جبر هذا الخلل. من جهةٍ أخرى، أردت فعليا أن أتسلل إلى لغته وتجربته لا من منظور القارئ الأكاديمي المشاهد المراقب المحلل، ولا من منظور الذواق المتفكر، ولكن من منظوره هو. لقد حاولت أن لا أكون أكاديمية، ولا شاعرة، بل أن أعيش تجربة الرجل كما عاشها، وأن أقول ما وعيتُهُ منها، لذلك أسمي تجربتي مع النفري تجربةً وجودية.
■ برأيك، ما هو سبب انحسار الحضور النسائي الشعري أمام الرجالي في المشهد الشعري العربي؟
□ القضية ليست بنت اليوم، وجذورها تمتد في عمق الذهنية العربية. وليس التفوق العددي للرجل العربي بوصفه مبدعًا شيئًا جديدًا. وأظن أن سطوة مقولة الفرزدق «إذا صاحت الدجاجة صياح الديك فاذبحوها» تلخص كل القضية. وارتباط الشعر العربي بمفهوم «الفحولة» أقصى المرأة من الشعرية، حتى جعل الذكورة شرطًا في الهوية الشعرية العربية. طبعًا، من أسس لهذه الفكرة لم ينطلق من فراغ، بل انطلق من الحضور الذكوري السلطوي للرجل في المجتمع العربي، ومن حدود العوامل التي لا تسمح للمرأة بممارسة الشعرية بوصفها فحولةً، ومنها السفر والحروب وغيرها من مظاهر الجرأة. وأظن أننا مازلنا أسيري نموذج أولي لرؤيتنا المجتمعية هذه الذهنية لنعيش بها اليوم عن قصد أو عن غير قصد، طواعيةً أو استسلامًا. ولذلك، عندما انتقلت المرأة إلى المقدس في التجربة الصوفية لم يعد اعتبار قولها الشعر (أو البَوح عمومًا) خروجًا عن طبيعتها أو جريًا منها وراء الفحولة.