قال إنّ الحساسية الجديدة قائمة الذات في تجارب العديد من الشعراء: نور الدين الزويتني: نعيش زمنا شعريا آخر علينا الوعي به
[wpcc-script type=”d3fd6bf37fcdb75e2023fd5b-text/javascript”]

نور الدين الزويتني صوت أساسي ومختلف في مدونتنا الشعرية المعاصرة، كما تثبت ذلك مجاميعه الشعرية الثلاث، عدا عمله الترجمي النوعي، وانشغاله الأكاديمي بالدراسات الثقافية في الجامعة المغربية. التقيتُ به في مراكش والجديدة وأكادير، وفي كل مرة أنشد إلى سمت إنسانيته الرفيع. قدم نور الدين من فاس إلى الجديدة، فعاش فيها سنين عددا؛ وهكذا تجد لهجة الشاعر الخافتة قد امتزجت برطانات أهل دكالة المتنوعة والمدهشة، ما أوجد في قاع كتابته جذورا تتشعب في كل مكان. فضلا عن ثقافته الأنكلوساكسونية العميقة التي تتبينها من مراجع نصه الإبداعي، غير أنه يبني فضاء ثالثا ـ بتعبير هومي بابا- على أساسه تنفتح لقرائه المتعددين إمكانات تأويل مغرية وجادة.
■ في عقد الثمانينات الذي بدأت الكتابة فيه. في نظرك، ما هي أهم المكاسب والآثار التي تنسب له، والتي مازالت تفعل فعلها المؤسس؟ وما هي مرجعيات الكتابة التي استلهم منها سبل إبداعه الجديد؟
□ لا أظن أنني أملك أجوبة جاهزة الوضوح بالنسبة لهذا السؤال. لكنني أرى ـ ربما- أن أهم الآثار التي يمكن أن ننسبها إلى شعراء الثمانينيات في المغرب، هي انعكاس لآثار الشعراء في الغرب والمشرق، وتعميق لها آنذاك، تهم سؤال الشعر بما هو أفق مفتوح على المغامرة، وليس معطى جاهزا في قوالب يكفي التقيد بها، أي أن الشعراء أثاروا هذا السؤال بحدة ولجوا في طرحه، على أن هذه اللجاجة ستأخذ صيغة رتيبة لن تنتشله منها، أي من تلك الرتابة، حتى قصيدة النثر التي بدأت في ذلك الوقت تنيخ بكلكلها. وهي الرتابة ذاتها التي هيمنت على الحداثة الشعرية عالميا، أي إعادة صياغة سؤال الشعر أو أسئلة الشعر، واستحالة الرسو على بر. وفي ذلك ما فيه من إيجابيات عادت على الشعر باستكشاف آفاق جديدة منذ زمن الرواد إلى الآن ربما، وأيضا هو السؤال الذي كان له أثر كبير على الأشكال الشعرية والمضامين والرؤى والصور.
■ أصدرت باكورتك الشعربة «القربان والملكة» سنة 2007. في المجموعة ما يمكن أن نسميه غنائية الفقدان، بحيث نلتقط إشارات نزوع غنائي- ملحمي يستثمر الشخصي ويؤصل بعده الأسطوري الفجائعي. من أين لك هذا الحزن؟ هل ثمة استعادة لطفولة في زمن ما؟
□ أكاد أجزم يا صديقي أن وراء كل تجربة شعرية هناك دائما تجربة فقدان ما… فالإبداع سواء كان شعرا أم رواية أم تشكيلا أم غيره من الفنون، هو محاولة لاستعادة جسد ما أو فضاء أو حالة، سواء كان ما ذكرته رمزيا أو ماديا ملموسا. وقد ألمح فرويد إلى ذلك في كتابه «ما وراء مبدأ اللذة»، حين ذكر حكاية طريفة عن ابن اخته الذي لم يتعد السنتين من عمره، والذي شاهده فرويد خلال غياب أمه إلى السوق يلعب بكرة من الخيط مربوطة بشريط، فكان يرمي بكرة الخيط بعيدا أمامه صائحا Fort التي تعني «راحت»، ثم يسحبها إليه مرة أخرى صائحا Da التي تعني «جاءت». ويعلق فرويد على هذه اللعبة الرمزية بأنها أسلوب رمزي للتحكم في جسد الأم الغائب، ومحاولة استعادته كل مرة. فهو عندما كان يرمي بالكرة ويقولFort، فإنه يرمز إلى تجربة فقدان جسد الأم، وعندما يستعيد الكرة صائحا da، فإنه يستعيد رمزيا جسد الأم الغائب، مثلما استعادته ـ حتما- رمزيا من سطوة الأب. وقد سحب فرويد ذلك على كل عملية استعادة رمزية لجسد الأم، بما في ذلك عملية الإبداع. من ثمة يمكن القول إن كل نص أو عمل فني هو مسكون في العمق بتجربة الفقدان وبمحاولة إعادة امتلاك رمزي لجسد الأم، أو ربما الأمومة بمعنى اللغة الأصل المفقودة أيضا. جاك لاكان عمّق الفكرة كثيرا حين قال إن دخولنا في مجال اللغة؛ أي اكتسابنا للغة في تلك الفترة المبكرة من الطفولة، هو في الحقيقة فقدان لعالم موجود ما وراء اللغة، عشناه في كنف الامتلاء الأمومي الأول. وما نمر به في حياتنا من تجارب فراق وفقدان إنما نعيشها بمرارة وحزن، لأنها تحيي صدمة ذلك الفقدان الأول، الذي لن يشفى منه أحدٌ أبدا. على المستوى الحياتي المباشر مررت فعلا بتجارب فقدان وفراق مريرة، أرخت بظلالها على سنوات من شبابي وطوحت بي في متاهات حزن، حاولت تكثيفه في ما أشرت إليه في سؤالك بالبعد الأسطوري الفجائعي في قصائد «الملكة والقربان».
طغيان البعد الأيديولوجي في الكتابة الشعرية، الذي أرخى كثيرا بظله على الشعر الحديث، كان من بين العوامل التي ضببت مجال رؤية الكثير من الشعراء، وحادت بهم عن جوهر الإبداع الشعري.
■ صدرت لك بعد ذلك مجموعتان شعريتان؛ هما: «قلب الثلج» 2015، و«كيف تظل شاعرا بعد 2012» 2017، وفيهما نكتشف اشتغالا على لغة الفانتازيا والغرائبية، التي لا تنعزل عن الواقعي، بل تسخر منه وتنسفه من الداخل، إلى أي حد يمثل هذا الاشتغال وظيفة جديدة للشعر في زمن لا شعري؟
□ قد تكون لاحظت أن ديوان «قلب الثلج» يشكل معبرا بين تجربتين نحو أفق سيتضح حتما في ديوان «كيف تظل شاعرا بعد 2012» حيث أنني أعتبر هذا الديوان بمثابة منيفيستو أو بيان شعري في الإشعار بحساسية جديدة في الكتابة الشعرية. وأضع خطا تحت كلمة الإشعار، حتى لا يفهم القارئ أنني أؤسس لكتابة جديدة. فهذه الحساسية الجديدة قائمة الذات في تجارب العديد من الشعراء الجدد وغيرهم من أجيال أخرى مثل جلال الحكماوي ومبارك وساط ومحمد بنميلود وعبد الإله المويسي من المغرب، بدون ذكر تجارب عربية عتيدة أخرى مثل تجارب سركون بولص وصلاح فائق وغيرهما. والرسالة التي أحببت الإشعار بها وإيصالها هو أن تجربة الحداثة على الأسلوب الأدونيسي الذي هيمن لعقود قد انتهت، وأننا نعيش زمنا شعريا آخر علينا الوعي به. بشكل نظري يمكن القول إن تجربة الحداثة كما أسست لها تجربة مجلة «شعر» وبعدها «مواقف» أدونيس، انبنت على ما أطلق بعض نقاد الحداثة عليه «المهيمنة الإبيستيمولوجية» في الكتابة؛ أي بعبارة أكثر وضوحا، يمكن القول إن تجربة الحداثة تلك أطرتها أساسا أسئلة مثل سؤال الشكل، ماهية الشعر، معنى العالم الذي نعيش فيه، كيفية مقاربة هذا العالم واستكشافه، تغيير هذا العالم، دور الشاعر، إلخ. إلا أن التجربة اللاحقة والخارجة عن تلك التجربة لم تعد تحفل بمثل هذه الأسئلة ولا تعيرها اهتماما، بل أحيانا كثيرة تضعها محط سخرية، ذلك أن هاجسا مختلفا تماما يؤطر رؤيتها، أو لنقل – بلغة تنظير نقاد الحداثة- إنها تنبني على مهيمنة أخرى هي المهيمنة الأنطولوجية أو الوجودية، ومن ثمة فهي غير معنية بشكل الكتابة أو العالم، بل تضع الكتابة ذاتها والعالم ذاته محط تساؤل. الناقد الأمريكي براين ماكهيل يشبه الكاتب أو الراوي أو الشاعر في أدبيات الحداثة تلك بمثابة «التحري» detective المعني بالبحث والسؤال قصد الوصول إلى الحقيقة، بينما يشبهه في الأدبيات اللاحقة، أدبيات ما بعد الحداثة، بالشخصية الرئيسية في كتابات الخيال العلمي، حيث قد يستحيل العالم المألوف إلى مجرد وهم، تماما كما يحدث مع شخصية «نيو» في فيلم «ماتريكس»، وحيث تتعدد العوالم، ويمكن التواجد في أمكنة مختلفة في الوقت ذاته، وحيث الحقيقة أيا كانت في النهاية ما هي إلا سردية ضمن سرديات عديدة محتملة. ومن ثمة، ما وصفته في سؤالك الوجيه العميق حقا بطغيان «لغة الفانتازيا والغرائبية التي لا تنعزل عن الواقعي، بل تسخر منه وتنسفه من الداخل». قد يبدو الأمر غريبا، لكنني أستبعد إمكانية الولوج إلى كنه تجارب شعرية مثل تجربة وساط مبارك أو صلاح فائق أو تجربتي الصغيرة في «كيف تظل شاعرا بعد 2012» أو تجارب شبيهة بدون هذه الخلقية النظرية.
■ انتبهت مبكرا إلى قيمة البعد الجمالي بدل الأيديولوجي، الذي كان يسلب الشاعر صوته الفردي، في بناء ممارستك الشعرية. وضمن هذا البعد احتفاؤك بالسيرذاتي. كيف تنظر إلى مسألة السيرة الذاتية في سياق الشعر؟ ماذا يبقى منها، وما الذي ينضاف إليها؟
□ طغيان البعد الأيديولوجي في الكتابة الشعرية، الذي أرخى كثيرا بظله على الشعر الحديث، كان من بين العوامل التي ضببت مجال رؤية الكثير من الشعراء، وحادت بهم عن جوهر الإبداع الشعري. لم يحدث حسب علمي أن التصق ت. س. إليوت، أو فرانتز كافكا، أو جلال الدين الرومي بقضية أيديولوجية معينة في كتاباتهم الإبداعية، ولم يرهنوا إبداعهم وجماليات كتاباتهم بأي قضية معينة بشكل مباشر. مع ذلك لمست كتاباتهم جوهر الإحساس الإنساني سواء فرحا أو معاناة. أيضا لطالما شكلت تلك الإبداعات ولا تزال تهديدا لقوى الظلام. ذلك أن كل قضية سياسية مهما بدا سموها، هي مبنية على سردية معينة، والسردية كما يوضحها فرانسوا ليوتار هو ذلك الشكل من السرد أو الخطاب المؤسس لنسق من الرؤى والافتراضات والأفكار المسبقة التي تنكر وجود أي حقيقة مختلفة خارجها، بل إن منظري النقد ما بعد الكولونيالي مثل بينيديكت اندرسن وهومي بابا أسهبوا في تفكيكهم لمفهوم الأمة، واعتبار هذه الأخيرة مجرد سردية، تشكلت كنظام ثقافي للدلالة. لكن ينبغي هنا عدم فهم الدعوة إلى التركيز على الجمالي بدلا من الأيديولوجي كدعوة إلى العدمية، بل إلى الإبداع خارج قفص الأيديولوجيات والسرديات مهما اشتد بريق جاذبيتها. من يفكر اليوم في بدر شاكر السياب شيوعيا أو قوميا، أو في عبد اللطيف اللعبي ماركسيا؟ لن يفعل ذلك إلا سطحي أو غبي. ذهب الزبد جفاء وبقي إبداعهم الكوني شامخا في جماليته.
الغرب لا يعرف شيئا عـــــن شعرنا عامة، وشعرنا الحديث في غناه بصفة خاصة.
بخصوص الشق الثاني من سؤالك والمتعلق باحتفائي بالسيرذاتي وبمسألة السيرة الذاتية في الشعر، يحضرني ما قاله الناقد الأمريكي جون بار منذ عقدين في معرض حديثه عن أزمة الشعر الأمريكي آنذاك وعزوف الجمهور عنه، حيث كتب أن ابتعاد الشاعر عن الاحتكاك الكثيف بالحياة اليومية هو أحد هذه الأسباب، وذكر أمرا طريفا حين قال، إن مهن التدريس التي يتعطاها كثير من الشعراء لم تنتج أبدا شعراء كبارا، إذ أن شعراء مثل والاس ستيفنز وإليوت ووليام كالوس وليامز مارسوا مهنا لا علاقة لها بقاعات الدرس ولا الأكاديمية، بل كانت مهنهم أكثر التصاقا بالجماهير، فجعلتهم في قلب معترك الحياة. وقد كنت دائما واعيا بحكم جون بار هذا قبل أن أطلع عليه، أي كوني مدرس أدب، إضافة إلى نزوعي الانطوائي، وهما للأسف أمران لا يفسحان لي مجالا للاحتكاك الكثيف بالجماهير، لكن وعيت في الوقت ذاته، أن احتكاكي اليومي الكثيف كان دوما مع ذاتي وتاريخي الشخصي وأفراحي الصغيرة وصراعاتي وخيباتي، فكان لزاما ألا أتنطع وأرتمي على قضايا بعيدة عني، وأكتفي بالكتابة عن هذا التاريخ الشخصي، وهذه الأفراح والخيبات، دونما أمل واهم في أن أصبح شاعرا كبيرا، أو كما قال نزار قباني:
إذا قيل عني «أحس» كفاني ولا أطلبُ «الشاعرَ الجــــيدَا»
شعرتُ بِـشيءٍ فكونتُ شيئا بعـــــفويةٍ، دون أن أقـــــــصدَا
■ ماذا تعنيه لك ترجمة الشعر التي مازلت وفيا لها، فلم تنسق وراء الترجمات «الربحية» التي تحققها بعض الكتب المترجمة؟
□ فعلا، تعني ترجمة الشعر كثيرا بالنسبة إليّ، ولو جمعت كل ما ترجمته من شعر أمريكي وإنكليزي إلى العربية حتى اليوم لملأ كتبا عديدة، لكنه للأسف لا يزال موزعا بين الجرائد والمجلات. كما أنني ترجمت شعرا مغربيا كثيرا إلى الإنكليزية سواء في إطار الموقع العالمي للشعر في هولندا أو غيره من المواقع والمجلات الأمريكية. كما ترجمت دواوين كاملة لشعراء مغاربة، منها ما نشر وما لم ينشر بعد كشعر محمد الأشعري ووداد بن موسى وعائشة البصري. وكم يحز في نفسي حين أذكر الشعر العربي الحديث في محفل من المختصين الناطقين باللغة الإنكليزية أن لا يعرفوا منه سوى محمود درويش أو أدونيس أو قلة مماثلة من المشاهير مختزلين مشهدا غنيا جدا إلى بضعة أسماء.
الغرب لا يعرف شيئا عـــــن شعرنا عامة، وشعرنا الحديث في غناه بصفة خاصة. لكنني قد لا أتفق معك بخصوص ما قلته عن تعاطي للترجمة الربحية، لأنني بالفعل مارستها للأسف كثيرا حيث أنني كنت أسست في فترة من حياتي شركة للترجمة ترجمت من خلالها العديد من الكتب التي لا علاقة لها بالأدب أو الشعر، منها ما وضعت عليه اسمي وما لم أضع عليه اسمي، ومنها ما وضعت عليه اسما مستعارا، وهي فترة آسف كثيرا عليها رغم الربح المادي الذي وفرته، لأنني لو كنت أعملت كل ذلك الجهد في فترة العنفوان تلك في ترجمة كتب الشعر والأدب والنقد لكان أجدى وأبقى.
■ بإيجاز، لماذا تكتب؟ ولمن تكتب؟
□ كونك ناقدا فذا تعرف أنه كما يوجد في كل رواية راو مفترض هو غير الكاتب، كذلك يوجد في كل قصيدة متكلم مفترض هو غير الشاعر، وأيضا يوجد في كل رواية مروي له مفترض كما في كل قصيدة مخاطب مفترض. أنا أكتب لذلك المخاطب المفترض.
أما لماذا أكتب فأقول إن الكتابة هي المجال الوحيد الذي أحقق فيه اختلافي وتفوقي. فيها أتفوق في استخدام اللغة بشكل لا يستطيعه شخص آخر.