الشاعر اليمني أحمد الزراعي: الحياة هي أجمل ما في الحرب
[wpcc-script type=”87d925ad743a7f968dca7e2a-text/javascript”]

صنعاء ـ «القدس العربي»: ينتمي الشاعر أحمد حسن الزراعي إلى ما يُعرف بجيل التسعينيات في اليمن؛ وهو جيلٌ أنجزَ شعراً فارقاً في القصيدة اليمنية المعاصرة، ليس في تمردها الشكلي، وإنما في تجاوزها الموضوعي، وتحررها الفكري أيضاً، وتحليقها في آفاق معرفية كونية تحاور الوعي الإنساني في رؤيته الفلسفية… ومن أبرز هذه التجارب تتجلى قصيدة الشاعر أحمد الزراعي، الذي على امتداد تجربته، لم يصدر سوى ديوانين، لكن له في القصيدة بحر طويل المد في الدلالة، عميق القاع في الغموض…هنا حاورته «القدس العربي» في رؤاه تجاه بعض إشكالات ذات الشاعر وكونية الشعر:
■ لنبحث عن البداية ونقف على العوامل التي شكلتها… من أين نبدأ؟
□ من الريف؛ ففي الريف تعرفتُ إلى ذاتي من خلال تأملاتي في الحياة الطبيعية من حولي، فالحياة الريفية غنية، وتأملاتي كانت عميقة في الجبال والحقول والمجتمعات. ارتبطتُ بمجتمعات زراعية واقتربتُ من الجوانب المأساوية في الريف… منذ الطفولة والوعي يتشكل في حيوات مختلفة مع الأساطير والحكايات والعوالم التي اقترفتُ معرفتها، وأنا أتأمل الصخور في جبال حجة الهائلة (شمال اليمن). الحياة كانت غنية وتلهم أكثر، حتى وأنت تلاحظ الناس والأطفال والفقدانات اليومية في الحياة. أعتقد أن الحياة في الريف تستطيع أن تمنح الشعر طاقة مختلفة، خاصة على صعيد الوعي المأساوي بمعرفة العالم. البدايةُ كانت أيضاً مع علاقتي بالأصدقاء، وقراءة السِير الشعبية كسِيرة بني هلال وسيرة سيف بن ذي يزن… بعد أن تعلمتُ القراءة بدأتُ بقراءة الكتب والسِير. لكن الحكايات وتأمل الحقول كانت أشبه بحياة موازية، كانت أشبه بالقصيدة التي نعيشها الآن، الإمساك بالبدايات مَهمة ربما تكون عسيرة.
نحن في منطقة محتدمة ولها مشكلاتها الفكرية والإنسانية والتباساتها السياسية. معظم أحداث العالم تدور في الشرق الأوسط وفق الاسم الرائج لهذه المنطقة.
المعرفي
■ وإلى أي مدى أسهمت دراستك الجامعية لعلم الاجتماع في بلوَرة رؤيتك الشعرية؟
□ التحاقي بدراسة علم الاجتماع كان اختيارا ينطلق من معرفتي الجيدة التي تشكلت من القراءات قبل الجامعة. قبل الجامعة كنتُ أقرأ بكثرة، والقراءةُ المكثفة قبل الجامعة أسهمت في بلورة تكويني الفكري والثقافي، وبالتالي تحديد خياراتي العلمية، وكان لاختياري تخصصي الجامعي بُعداً مختلفا. كنتُ حريصاً على استكمال معرفة حقيقة العلوم الاجتماعية باعتبارها وعيا يمنحني القدرة على رؤية العالم بالطرق الفكرية، ومن خلال النظريات المختلفة، إدراكا مني أن الشعرَ لدي سيكون وعيه بالعالم معرفياً، ويمكن من خلاله، أي علم الاجتماع، أن نجد تفسيراً لجوانب غامضة لا نستطيع أن نفهمها إلا في إطار يكون فيه الإنسان فيلسوفاً، حيث يمكن فهم حقيقة الحياة وشرط الحضارة ومعنى الوجود.
■ وكيف ظهر ذلك في شعرك؟
□ المعرفي هو شرط المأزق الإنساني في العالم… لقد حاول الإنسان أن يجد معرفة لتفسير الجوانب الخارجة عن الوجود والطبيعة والمجتمع.. الإنسان باختلاف أطواره الزمنية هو الإنسان لم يتغير في جوانبه الخالدة، ومشكلاته وقلقه في الوجود، بل كلما ازداد وعيه تعددت أبعاده المأزقية، أو رؤيته للعالم والحضارة، وكلما تعقدت الحضارة وأسبابها احتاج الإنسان إلى تأويل جديد مع تشعب مآزق حُزنه، والشعر حاجة أبدية للإنسان، فمنذ القدم ونحن نتأمل المنحوتات التي حاول أن يُمسك بها الفن الشعري، باعتباره أحد الفنون الخالدة التي تسرمدت فيها رؤية الإنسان وتعطشه للعالم وللحب والحياة، وتأويل لحظاته غير المقنعة والتعبير عن مأزق الإنسان مع الحرب، ومحاولته أن يجد تبريراً لوجوده.. والشعر هو من وسائل تلمس الينابيع الأولى للروح الخالدة للإنسان.
الإنسان المعاصر
■ ولهذا تُعنى في قصيدتك بهموم الإنسان المعاصر؟
□ نحن في منطقة محتدمة ولها مشكلاتها الفكرية والإنسانية والتباساتها السياسية. معظم أحداث العالم تدور في الشرق الأوسط وفق الاسم الرائج لهذه المنطقة. منذ وعينا بأنفسنا كعرب، والساحة العربية بؤرة لصراعات العالم، وهي منطقة اختير لها أن تكون قلقة بشكل مستمر. من فترات ومراحل مضت والعالم العربي يحلمُ بالسلام والوحدة… هذا كله مع التباسات الأيديولوجيا، ينعكس قلقاً شعرياً لفن الشعر ديوان العرب، الذي كان يحاول فلسفة مأزق الإنسان منذ الشعر الجاهلي وحتى الآن… وبالتالي من الطبيعي أن تكون جزءاً من هموم لحظتك المعاصرة كإنسان.
التاريخ
■ لكن في سياق ذلك نجدك تستدعي التاريخ، وبالتالي نجد ثنائية المعاصرة والتاريخ تظهر كأنها جناحا قصيدتك؟
□ التاريخ سرداب عميق، وكل المشكلات التي تلمسها في التاريخ تجد أبعادها في الحاضر، لكن تختلف رؤيتنا للتاريخ في كل لحظة من اللحظات المعاصرة التي نعيشها. بالنسبة لتاريخ مشكلات الفكر والعالم، مازالت كلها التباسات كان الشعر، ومايزال، يرى التاريخ من خلالها، كما في المنحوتات والمسرح والفنون المختلفة. البلدان الغنية في إمكاناتها في الواقع المعاصر تمنحُ الشاعر قدرات مختلفة في رؤية العالم، تختلف مقارنةً بإمكانات بلداننا المحدودة وحلمها المستمر بالحرية، ومحاولة تلمس عالم أجمل؛ هذا ترك واقعا مأساويا في أحلام الإنسان، هذه الجوانب لا شك في أنها تُلمَس بالوعي التاريخي، وبوجود الوعي بتأريخنا في شكل جدلي مستمر. إن تلمح المأزق اليمني القديم في الحضارة الإنسانية هو الشرط المعاصر لرؤيتك لهذه اللحظة.
■ لكن طروحاتك الشعرية تأتي كونية في أبعادها؟
□ الحياة في بُعدها الزمني لابد أن ينبثق منها الإنسان الكوني، لكن الشعر الذي يصنع لحظته لابد أن تتداخل فيه كل هذه التعالقات التي يمكن أن تراها في نشرات الأخبار، وفي المجتمعات ما بعد الصناعية، يمكنك أن تتقمص ككائن أوروبي ـ مثلاً- وتعيش الجدل والمآزق الإنسانية التي تمر بها أي تشكيلة اجتماعية في تاريخك المعاصر.
عجائز شنغهاي
■ وأين الذات مما تكتبْ؟
□ أنا أرى نفسي في العالم، عندما كتبت نص «عجائز شنغهاي» كنتُ أعيشُ اللحظة وأنا أقرأ الروايات الصينية، خلال القراءة في أدب شعب ما تشعرُ بأن الهم متقارب جداً بين الشعوب، وتشعرُ بذلك في جوانـــب مختلفة من حياة أي شعب. مآزق الإنسان تتقارب في كل أشكال الفنون كالسينما وغيرها. لقد استطاع الإنسان أن يلمس جدله المستمر بالحياة والموت، من خلال علاقته المتواترة بالفنون المختلفة، ولعل الشعر هو التصور العمـــيق للذات والعالم في آن، فبالشعر يمكن لمس ما لا يتكرر وما لا يندثر. الحضارات يمكن رؤيتها بعين مختلفة لأي إنسان في أي مكان يدرك شروط وجوده، حيث يستطيع أن يرى تجربته المباشرة في أي فن من الفنون، مستعيناً بالمتخيل الفني بأبعاده المختلفة.
■ ارتباط المعرفي بالشعري لديك هل هو تأكيد منك لعلاقة الشعر بالحياة؟
□ الشعرُ قادرٌ على أن يلمس أعماق الحياة حتى اللامرئي منها، ويحاور الخيال باعتباره الجانب الخصب في الإنسان من أجل تحقيق شكل من أشكاله منذ امرئ القيس. أنت حين تتأمل أي مأزق إنساني ستجده من أجل الحياة. الحياة في الشكل الجميل والمدهش الذي نحاوله، ويحاوله الشاعر في أي لحظة من اللحظات… وتتبدى مشكلات الدول والعالم بأشكالها المخيفة بدءاً من الأسلحة وغيرهــا من عوامل الدمار، فيلجأ الشــــاعر للحــــياة، والشعرُ هـــو أقـــرب طرق الوصول إلى عمق الحياة وفهمها بهدف أن يدرك حضوره في لوعته وسرمديــــته في الحب، وفي التوق إلى تفكيك هذا العالم، الذي يمكن أن تنيره قصـــائد الشــــعراء في كل الأزمنة. الحروب عبر تاريخها مزرية، لكن الحياة هي أجمل ما في الحرب.
■ كيف؟
□ في ما بعد الحرب وخلالها يدافع الإنسان عن أشكال وجوده… تحاول الحرب أن تنجز بدون قصد شكلاً جديداً للعالم؛ فمن تحت الأنقاض يخرج عالم جديد يرفض الحرب. لم تر، مثلاً، ما مرّ بالعالم في الحربين العالميتين حيث ترتبت عليهما أشكال مدهشة من الإبداع والفنون والديمقراطية، كل ذلك خرج من تحت أنقاض تلك الحرب؛ فبعدما جرت أنهار من الدماء استوعب الإنسان أهمية الحياة وقيمة الوجود وجوانب اتفق عليها لتكون الحياة أفضل تحت مظلة حفظ الحقوق والحريات، لكن بعد ثمن باهظ، إلا أن الحياة تبقى جديرة بأي ثمن.
قد أهمل الكتابة لفترة لعوامل قهر معينة، لكنني أصغي في النهاية لهذا البُعد العميق حينها أكتبُ متجاوزاً أي شيء أحسُ به في هذا العالم. ألجأ للفن كشكل من أشكال الغوص في عمق الذات والعالم بحثاً عن العلاج.
المكان
■ لِمَ يحضر المكان وشخوصه التاريخية في متن صورتك الشعرية في بعض القصائد كقصيدة أبي الطيب المتنبي – نايات عراقية مثلاً؟
□ المكان باعتباره وعاء لتدفق ما يتوهج به وعي الإنسان في زمنه، وتوقه لإنتاج عالم مختلف. المكان هو المفصل الكبير لاختيار اندهاشات الشاعر ورؤيته لعالمه المختلف وتجاربه في ما بعد الحضارة، وبالتالي فحضور المكان هو استحضار للذات والحضارة والقيمة الإنسانية بمعانيها الكبيرة والعظيمة.
قصيدة النثر
■ كيف تنظر لعلاقتك بقصيدة النثر… وما تشاهد عليه تجارب زملاءك من جيل التسعينيات معها؟
□ أولا: أنا ضد رؤية الأجيال فوعي الإنسان لا يمكن تأطيره في مرحلة ما. جيلنا كان جيلا حالما كثيراً وله رؤيته في التفكير والواقع. في ما يتعلق بقصيدة النثر… فأنا لستُ مع هذه التحديدات والمفاهيم والتسميات الأكاديمية للأشكال الشعرية التي تستدعي وعياً نقدياً مختلفاً، فعندما يحضر الشعر كشعر حقيقي تتبدى لي الأشكال والمحاولات التأطيرية أمراً مقلقا. الشعر يحلق ويقترن بأشكاله بدون أن يعترف بتسميات كقصيدة النثر، وهي من الأشكال التي تأثرت بها الثقافة العربية من الغرب، لكن لا شك في أن حضور قصيدة النثر في الشكل العربي له أبعاده المختلفة عن تجربة الشعر الغربي. وعلاقة جيلنا بقصيدة النثر كانت علاقة غير عادية. أما عن تجربتي مع قصيدة النثر… فلا أفرق كثيراً بين التجارب والأشكال، وقصيدة النثر موضوع عصي استسهله الكثير وابتعد عن أبعاده الشعرية. قصيدة النثر تبحث عن شعر يثرى بالأطر الجمالية وحتى الموسيقى. أنا أرى، ككثير، أن هناك فرقا بين الشاعر الذي لم تتعد تجربته كتابة قصيدة النثر والذي دخل عالم هذه القصيدة من تجربة ثرية بمعرفتها…وفي نتاجات قصيدة النثر يمكن أن نلمس عدداً من التجارب والأصوات المتجاورة والضائعة في لحظات معينة؛ لأن هذه الأشكال لم تتضح كتصور نقدي، لكن قصيدة النثر أثبتت جدلها وقوتها ودراميتها على مستوى العالم العربي المعاصر. وأخاف على التجارب التقليدية أن تنهار مع هذا الفن الثوري الهائل، الذي يتحقق في أي إطار في الكتابة ومازال خاضعاً لتجريب مستمر، وهو شكل من أشكال الكتابة الحقيقية التي تستمر فيه رؤية المشهد الواسع للعلاقة بالذات والفكر والرؤى المختلفة للفن داخل قصيدة النثر.
■ على مدى ربـــع قـــرن من تجربتك الشعرية لم تنشر ســوى ديوانين… لما الإقلال وهل هو في النشر أم في الكتابة؟
□ انا لا أكتب يومياً، لكنني أعيش تجارب تؤهلني للكتابة، وما هو أكثر من الكتابة. قد أهمل الكتابة لفترة لعوامل قهر معينة، لكنني أصغي في النهاية لهذا البُعد العميق حينها أكتبُ متجاوزاً أي شيء أحسُ به في هذا العالم. ألجأ للفن كشكل من أشكال الغوص في عمق الذات والعالم بحثاً عن العلاج.