الجزائري رفيق طيبي: الأدب الذي لا يحتمي بالفلسفة مهدد بالموت
[wpcc-script type=”68ebca447e11ebe4b6de178e-text/javascript”]
روائي وشاعر شاب، شق طريقه عبر العمل المهني، سواء في الصحافة أو غيرها من مجالات الكتابة. أصدر مجموعة شعرية واحدة بعنوان «أعراس الغبار» وروايتين «الموت في زمن هش» و«257»، الصادرة هذا العام، التي ستشارك في أعمال معرض الجزائر للكتاب المقبل. كان لنا معه الحوار التالي..
■ من هو رفيق طيبي.. كيف جاء إلى الأدب ومن أي باب؟
□ يستسهل كثير ممن يشتغلون على الكتابة تقديم ذواتهم وتعريفها، كأي كائن أو شيء يحمل تعريفات واضحة، تجعله في خانة المعلوم، لكنني أجد سؤالا مثل هذا في غاية التعقيد والغموض، فماهي الأهمية المعرفية والإنسانية التي تجعلني قابلا للتعريف والتقديم لجمهور القراء، فأنا من وجهة نظر فلسفية أقل بكثير مما أظن في لحظة نرجسية، وأبسط مما يراني الآخر في لحظة فضول وإعجاب. رفيق طيبي، قارئ، كاتب، شاعر جزائري ضمن حلقة من الفاعلين في مجال البحث عن الجمال. قدِمت إلى الأدب بما أراه موهبة، وبطفولة ثقيلة تحرضني بدون توقف، على الكتابة، دخلت من بوابة الخواطر والقصائد المدرسية كونه الباب الأوسع لطفل يحلم، كبرت قليلا فطرقت بوابة الشعر في شكله المحترف، ثم طرقت بوابة الرواية، وأنا إلى غاية اليوم واقف أمام كل الأبواب التي انفتحت لتبهرني بنورها، وتشترط عليّ تكوينا كثيفا ودائما لتنغلق عليّ إلى الأبد وهذا ما أتمناه.
أعظم المواهب تتفلسف وتكتب الأدب الحقيقي المنطلق من أسئلة عميقة، تخلخل الجاهز والراسخ من الرؤى والأحكام.
■ الأدب أم الفلسفة، أيهما أكثر قربا لتفسير الواقع واستنهاض المخيلة؟
□ قد يكون الأدب عاديا أو باردا حتى نفلسفه، الأدب الذي لا يحتمي بالفلسفة مهدد بالموت السريع، أما الفلسفة فظلت لقرون تلاحق الأدب الذي يوظفها، وتسائله كزوجة أب قاسية، فسؤال المعنى الذي لا يعرف حدودا سؤال تطرحه الفلسفة على الأدب وكل المنتوجات الروحية، قد تكون الفلسفة المصحح الحامل للقلم الأحمر أو الجرس الرنان، كلما حاول الأدب تسلق جدران معرفية بدون عدة ضرورية، في حين يقوم الأدب بتلطيف الرؤي الفلسفية وتقديمها لجمهور أوسع، كون الفلسفة بمعاييرها ولغتها الخشنة غير متاحة للجميع، أما الواقع فلا يفسر إلاّ بتعاون بين كل المكونات المعرفية، الأدب، الفلسفة، الأنثروبولوجيا، علم الأديان، الشعر، وغيرها من علوم إنسانية تعيش مرحلة سوداء في العالم العربي، حيث تختصر في قاعات التدريس والمدرجات، ويترك تفسير الواقع للأطروحات الدينية التقليدية، أو الشعوذة السياسية والإعلامية، التي باتت مظهرا أكثر من عادي في عالم يتهاوى نحو اللامعنى. استنهاض المخيلة وليد الموهبة، أعظم المواهب تتفلسف وتكتب الأدب الحقيقي المنطلق من أسئلة عميقة، تخلخل الجاهز والراسخ من الرؤى والأحكام وأبسطها (المواهب) تكتب الورديات، قد يكون الوصف طريفا بشكل ما، لكنه حقيقي من وجهة نظري على الأقل.
■ بين روايتين ومجموعة شعرية، هل يبقى الهاجس فلسفيا أم أنه يجنح إلى روح الأدب؟
□ قد تكون البدايات الأدبية تحمل روحا طفولية مغامرة، بحثا عن إجابة كافية لسؤال: من أنا هو سؤال فلسفي يجيب عنه الكاتب في بداياته بنصوص فيها كثير من الضعف والهشاشة. تدريجيا تتكاثر الأسئلة المرتبطة بالذاتية والجدوى من الكتابة، وبالاحتكاك واتساع دائرة القراءة من نصوص الأصدقاء، والنصوص الكلاسيكية التي تبني أولى التصورات حول الأدب إلى النصوص الكبيرة، تصير الرؤية أوضح بشكل عام، لكنه وضوح مريب مع التقدم في القراءة، هناك أسماء قادرة على إحداث تصدعات روحية كبيرة، من شأنها وضع الكاتب في حرج أمام اعتقاداته القديمة ومحاولاته النصية: نيتشه، محمد أركون، أورهان باموق، إريك فروم وغيرهم، لذلك ستبقى الهواجس مشتركة بين الأدب والفلسفة، وانفصالهما قد يكون بداية للميوعة.
■ ثمة مقولة إن الرواية هي المتسيدة على الذائقة القرائية والمهرجانات والمسابقات؟ وهي التي جعلت الشعراء والصحافيين يلجؤون إليها، هل تعد هذه مثلبة أم ظاهرة صحية، كون الأدب أخذ حيزا من تفكير الشباب على الأقل في ظل الظروف الراهنة؟
□ إن كتابة الرواية مقام سامق، اللجوء إليها ليس وليد الاختيار أو الصدفة، قد يتهور أي شخص خرج من الشعر أو الصحافة، ويكتب رواية ظنا أنه تحول بسيط، من أجل مصالح مالية ترتبط بالجوائز أو الشهرة، لكن الموهبة والمعرفة يفصلان بسرعة في شأنه. الأدب لم يأخذ حيزا من تفكير الشباب فجأة، الاهتمام بالأدب قديم ومن كل الفئات، فقط مواقع التواصل الاجتماعي، جعلت الاهتمام به يأخذ طابعا تفاعليا، وتأسست مجموعات القراءة التي روجت للكتب، وقرّبت أسماء لم تكن لتظهر في حقب مضت.
■ وماذا عن ارتباط الصحافة مع الأدب؟
□ ارتباط الصحافة مع الأدب معروف في حياة كثير من كبار الأدباء الذين مارسوا هذه المهنة في مراحل من حياتهم. غابرييل غارسيا ماركيز، همنغواي، وغيرهما. الحقيقة أنني لست صحافيا بالمفهوم الوظيفي، فأنا لست تابعا لأي جهة إعلامية بشكل رسمي، أكتب مساهمات وأنشرها وأمارس التحرير في سياق علاقات التعاون مع الكتاب ودور النشر، وكل هذا خارج مفهوم الوظيفة. وما أكتبه من مساهمات يندرج في العمل الثقافي، حيث أتابع النصوص الصادرة حديثا، والأعمال التي بإمكان المتابعة الإعلامية لها أن تزيد من حظوظها في الانتشار، وهذا مهم بشكل ما في ظل إعلام ثقافي عربي يعيش وضعا صعبا يجعله غير قادر على مواكبة كل ما ينشر، ناهيك عن وجود إعلاميين في الأقسام الثقافية لا يملكون دوما الأدوات الكافية من القدرات القرائية والرؤية التي تتيح لهم تقديم محتوى إعلامي مختلف عن محتويات الأقسام الأخرى، بما أن القسم الثقافي يختلف جذريا عن الأقسام الأخرى، ولهذا القسم فضائل كثيرة على الأدب، منها تقديمه لأسماء كثيرة عربيا بدأت في الإعلام وانتهت في الرواية والشعر وباقتدار.
كانت المركزيات القاتلة ولا تزال بشكل أخف تحد من الطموح، حيث يعيش الأديب القريب من دوائر صناعة القرار الثقافي والسياسي ازدهارا ورواجا، ولو في غياب مستوى إبداعي كبير.
■ قبل ظهور السوشيال ميديا والفضائيات كان الأديب العربي معروفا في بقية البلدان العربية. ومع تطور التقنيات لم نعد نعرف المبدعين، هل يعود السبب لسطيحة التناول أو لكثرة الأسماء؟
□ قديما كان التعرّف على أديب يتم عبر الإعلام الذي يتعامل مع النشاط الثقافي والمبدعين بشكل برتوكولي رسمي، حيث صنع نجوما على المستوى العربي، أما قبل الفضائيات فكانت المجلات والإذاعة تبثان وتعرفان الأدباء حسب معايير ليست عادلة دوما. في ذلك الوقت هناك كثير من الأسماء التي حرمت حقها في الظهور والمنافسة، كانت المركزيات القاتلة ولا تزال بشكل أخف تحد من الطموح، حيث يعيش الأديب القريب من دوائر صناعة القرار الثقافي والسياسي ازدهارا ورواجا، ولو في غياب مستوى إبداعي كبير، في حين قد يبقى كاتب رفيع المستوى رهين العزلة والنسيان إلى الأبد، بسبب بعده عن مراكز الإشعاع. كثرة الأسماء ظاهرة صحية إذا كان «سكانير» النقد مشتغلا بشكل دائم ومستمر، وعدم معرفة المبدعين أمر طبيعي كون تعرف الآخر على كاتب بلد ما يتطلب من الكاتب نفسه جهدا إبداعيا وسنوات من النضال، وعلى سبيل المثال لا يوجد عراقي أو مصري لا يعرف الجزائرية أحلام مستغانمي أو واسيني الأعرج، كما يعرف الجزائري جيدا محمد مهدي الجواهري وبهاء طاهر، التعرف والاعتراف يكون بناءً على مسار ولا يكون فجأة كما يحدث في الفيسبوك وغيره من وسائط التواصل الاجتماعي، حيث يظهر نجوم لشهر أو أسبوع ويختفون كليا.
■ كيف ترى أن ما يطرح دائما في كل البلدان العربية لا هو أدب حقيقي ولا نظرية أدبية؟
□ المسألة عميقة، يمكن إيجازها في عقدة الاضطهاد وجلد الذات التي ورّثها لنا الاستعمار، هناك نزعة احتقار عميقة تسكن الذات العربية التي تخرج حديثا من استعمار لم يتوقف عن محاولات الطمس والتشويه لشخصية تعرضت خلال قرون لأنواع من البطش على يد استعمارات مختلفة، من الطبيعي ألا تقدر هذه النخب على الاعتداد بذاتها وتشكيل رؤيتها وسياقها الذي يتيح لها سلطة الاعتراف لنفسها أو لغيرها بالجهود التي تستحق الاعتراف. صحيح أن هناك تأثرا ونقلا عن الغرب، حيث تصبح البحوث العربية مستلبة وغير رصينة، لكن في الوقت نفسه هناك جهود كبيرة جديرة بالتنويه.
■ في روايتك الأخيرة «257» يبدو العنوان مشابه لرواية «1984» أم هو رؤية أخرى لمخالفة السائد في العناوين؟
□ العنوان واقعي، هو الرقم الذي أعلنت عنه وزارة الدفاع الجزائرية بعد حادثة سقوط طائرة عسكرية قرب مطار بوفاريك بالبليدة (شرق العاصمة) بتاريخ 11 أبريل/نيسان الفارط، حيث فقدت الجزائر 257 من أبنائها. هذه الرواية التي صدرت مؤخرا يبدو أنها تحاول الإجابة عن موضوع الموت، حتى إنك نبهت إلى هذا بمقطع لمحمود درويش.. هل اللحظة الفارقة تبقى محط اهتمام الأفكار المتخيلة؟
□ النص يحاكي حادثة سقوط الطائرة ويطرح مجموعة من الأسئلة حول نفسية الإنسان حين يشرف على الموت، في حيثيات سقوط الطائرة يقول القائد للركاب عليكم بتلفظ الشهادتين، سنسقط. في هذه اللحظة الحرجة جدا إنسانيا تشتغل الخلفية الدينية والثقافية. يتحرك المسافرون داخل مساحة الطائرة عشوائيا وينزف الوعي باللحظة، كل يعبر بطريقته عن هلع رهيب، وهنا تكمن اللحظة السردية.
■ بمعنى أدق ما الذي أردت أن تقوله في الرواية كعنوان وفكرة وتدوين روائي؟
□ تدور أحداث الرواية داخل زمن ضيق، خمس دقائق على الأكثر بالنسبة لســــبع شخصيات هي نماذج من 257 مسافرا. اخترت شخصـــية إبراهيم مولاي أحمد محمد من الصحراء الغربيــــة، حيث كان رفقة ستة وعشرين فردا من مواطنـــيه ضمن الطائرة وقد مر رحيلهم باردا على المســـتوى الشعبي والإعلامي، من خلاله قاربت قضــــية الصحراء الغربـــية من زاويتي وتناولت البعد الروحي لسكان المنطقة، الذي كان مفيدا لحالة إبراهـيم في لحظاته الأخيرة.
النص مليء بالتذكر، القلق، الهواجس وكل الحالات الإنسانية المعقدة. سعيت لجمع كل المعطيات المرتبطة بالحادثة تقنيا وواقعيا، ووقفت على ظروف عائلات الضحايا واستعنت بخبراء في الطيران لبناء النص. كلها لحظات روائية كتبتها بحثا عن تخليد الضحايا في نص بمثابة عزاء لوطن فجع في خيرة أبنائه.