من العسير أن ينجو أي مبدع من فخاخ الذاكرة الشعرية: عبدالله بيلا: شعراء فشلوا في التميز فاتجهوا إلى كتابة الرواية

أن تكون شاعراً إفريقياً، يعني أن تحلق في فضاء إيمي سيزار، والفيتوري، وكل ما بينهما من أسماء خالدة في ذاكرة الشعر والإنسانية، وأن تسري في دمائك مشاعر الرفض لكل ما يتنافى وقيم الإنسانية والحرية والمساواة. هكذا نجد المدخل لقراءة قصيدة الشاعر عبدالله بيلا، الشاعر المكي السعودي البوركيني.

من العسير أن ينجو أي مبدع من فخاخ الذاكرة الشعرية: عبدالله بيلا: شعراء فشلوا في التميز فاتجهوا إلى كتابة الرواية

[wpcc-script type=”e831316017797e8b839fdaff-text/javascript”]

أن تكون شاعراً إفريقياً، يعني أن تحلق في فضاء إيمي سيزار، والفيتوري، وكل ما بينهما من أسماء خالدة في ذاكرة الشعر والإنسانية، وأن تسري في دمائك مشاعر الرفض لكل ما يتنافى وقيم الإنسانية والحرية والمساواة. هكذا نجد المدخل لقراءة قصيدة الشاعر عبدالله بيلا، الشاعر المكي السعودي البوركيني.
شاعر إفريقي اتخذ اللغة العربية سماءً لحمل سحابه، والشعر وطناً والإنسانية هوية، متسامياً بهما عن كل ما عداهما، وظل يصافح الحياة عبر كفوف القصيدة.
صدر لعبدالله بيلا ديوانان من الشعر الفصيح: « تآويل ترابية»، و«صباح مرممٌ بالنجوم»، وحاز في مسيرته الأدبية عدة جوائز وتكريمات، وشارك في الكثير من المهرجانات والأمسيات الشعرية داخل وخارج السعودية. في الحوار أدناه يَرى عبدالله بيلا أنه من العسير أن ينجو أي مبدع من فخاخ الذاكرة الشعرية، وأنه لا يمكن لجنسٍ أدبي مهما زاد مريدوه أن يلغي جنساً أدبياً آخر.
■ ما هي قصة البدايات مع القصيدة؟
□ وُلدت ونشأتُ ككل أبناء الحيّ «شارع أم القرى»، وبدأت في خطوات التعلّم والحياة، ممتزجا بتلك البيئة التي يصعب الانعتاق من سحرها وجمالها وبساطتها وحيويتها وصدقها. وبين حارات مكة المتصلة كسلاسل إنسانية متعانقة كانت خطواتي وجولاتي اليومية تتسع وتتقد وتتعمق هناك، ولا أستطيع الجزم بمقدار الإضافة الشعرية والإبداعية التي رفدتني بها تلك الخطوات والمشاهدات والمواقف، ولكنها فعلت الكثير وأسهمت في تكويني الفكري والشعري.
وبما أنّ الشعر ارتبط باللحن والموسيقى، فإنّ أثر الموسيقى والغناء بشكل عام كان حاضراً منذ طفولتي، وربما كانت جل تلك الكتابات الأولى محاولة تفريغ لشحنات فنية كنت قد تشبعت بها منذ الصغر، فقد شُغفت بحفظ وترديد الأغاني التي كانت حاضرة بشكل يومي في المنزل منذ صغري، ولا شك أن هناك الكثير من الظروف والعوامل التي ساعدتني على أن أكتشف حس الشعر في داخلي، وسأظل دائما رهناً لهذا الطور وباحثاً عن عوامل وظروف مساعدة على الإبداع.
■ بالنسبة لك: كتابة الشعر انغماس في الذات، وإصغاء لصوت الدواخل، أم محاولة لتصوير الواقع بالكلمة؟
□ كتابة الشعر إن صحّ هذا التعبير، هي محاولة لتفسير شعورٍ ما يختلج في أعماق الجميع، ولكن هناك قلة فقط من الناس من يجرؤون على الإفصاح عنه بأحد أشكال الإفصاح الكثيرة، ومن بينها الشعر، وأزعم أنّ الشعر كله يصدر من الذات ثم قد يتشكل بأشكال وصور مختلفة، وأحاول دائماً الانحياز لذاتي في الكتابة والتفتيش في دواخلها لأكتب ما تمليه عليّ، مع أنّ الذات لا تنفك عن التأثير ربما والتأثر بمحيطها وواقعها، ذلك التأثر هو الذي يرفد الشعر بالصور والحالات والأفكار، وبهذا يتعانق الصوتان الداخلي والخارجي ليبدعا بناء النص الشعري.
■ كيف ينجو الشاعر بنصه من فخ الذاكرة الشعرية؟
□ يبدو من العسير أن ينجو أي مبدع من فخاخ الذاكرة الشعرية، وتبدو هذه أزمة شعريةً أزلية، منذ أن قال قائلهم قبل مئات السنين:
■ هل غادر الشعراءُ من متردم؟
□ ذلك لأنّ الشاعر كائن مشاء، يمر على خطى شعراء سبقوه، ويحاول قدر الإمكان أن يحتال على تلك الخطى، ليرسم لنفسه طريقا يحسبها حديثةً، ولكنها قد لا تكون خالصةً ونقيةً ومتجاوزةً فخاخ الذاكرة الشعرية، ولم يجد النقاد طريقةً يفسرون بها هذا السقوط الحاد أحيانا في فخاخ الذاكرة الشعرية، إلا أن يسموا تلك الحالة بوقع الحافر على الحافر، ولكنَّ حوافر الشعراء بلا استثناء قد وقعت على حوافر لشعراء آخرين. وإن كان ثمة طريقة لتخفيف آثار السقوط في هذه الفخاخ، فقد يكون توسيع مجالات القراءة والمعرفة خارج إطار الشعر خاصة، وتقنين الانبهار بأيّ شاعر مهما بلغت تجربته من الذيوع والإتقان.
■ يقول الروائي الإنكليزي سومرست موم: «ليس بوسع كاتب النثر إلا أن يتنحى حين يمر الشاعر» فهل تتفق معه؟
□ إنّ النبرة الإقصائية والمشحونة بالتطرف ضد بعض الأجناس والأشكال الأدبية والفنية تثير الغرابة والدهشة، خاصة أن مثل هذه النظرات الحادة القطعية الجازمة، تصدر من مبدعين وفنانين، وهم الجهة الوحيدة التي يمكن للعالم التعويل عليها، لحراسة وسدانة ورعاية الجمال، وهم الأولى بأن يجمعوا كل الفنون تحت سقف واحد ويسمحوا للوجود كله بأن ينهل منه ويروى. وهذه النبرة التي يتحدث بها سومرست تقابلها تلك النبرة التي تتحدث عن موت الشعر وضرورة تنحيه عن المشهد وفسح المجال للرواية لأنّ هذا هو زمنها. أظن أنّ الأجناس الإبداعية قادرة على التعايش، ولا يمكن لجنسٍ أدبي مهما زاد مريدوه أن يلغي جنسياً أدبياً آخر.
■ يؤيد الكثير من الحداثيين هدم حواجز الشكل بين الأجناس الأدبية تدريجيا، فأين تقف منهم؟
□ لا يمكن للكتابة أن تنفك عن سلسة التطور الديناميكي التلقائي، وهي سنة كونية لا فكاك منها، لذلك لا أعتبر هذا التطور هدماً للحواجز بقدر ما هو قفزٌ زمنيٌ مرحليٌ لا يمكن للحياة الإبداعية أن تستمر بدونه، ولا أجد أي مسوغ منطقي لرفض أي شكل أو تجربة حديثة تضيف إلى الساحة الأدبية الجديد والثري، وعلينا أن نختلف حول القيمة الفنية لأنها هي الأصل، عوضاً عن اختلافاتنا التي تظل منهجية مدرسية لا تتجاوز الاسم إلى المسمى.
■ ما سر تحول الشعراء إلى روائيين؟ هل هي قيود الشعر، أم الأزمة التي يمر بها الشعر وانصراف الجماهير عنه؟
□ الشعراء مختلفون في مناهجهم الفكرية وقراءاتهم الفنية والإبداعية، ومتفاوتون كذلك في القيمة الفنية الإبداعية لكل منهم، ولكنّ ظهور الرواية واحتفاء الأوساط الحكومية والشعبية بها، وإفساح دور النشر المجال للرواية وإسباغ الدعاية المفرطة أحيانا في المديح عليها، ربما جرّ أقدام الكثيرين من الشعراء لتجربة الكتابة الروائية والدخول في اللحظة والزمن، خاصة أن بعضهم يصدق تلك المقولة الرائجة بأنّ هذا هو زمن الرواية. ويبدو أنَّ هناك شعراء فشلوا في أن يكونوا شعراء مبرزين فاستعاضوا عن ذلك بمحاولة كتابة الرواية، متجاهلين الكثير من تقنيات وأساليب وأدوات الرواية. وأظن أن الشعر لا يقيد كاتبه أبدا، وفي تنوع أشكال الكتابة الشعرية غنية للمبدع الحقيقي، ولكن هناك قيود فكرية وانطباعات مرحلية قد يؤمن بها الشاعر ويجعل منها سببا في انتقاله من كتابة الشعر إلى الرواية. الشعر ما زال وسيظل حياً والمستقبل للجمال مهما اختلــــفت أشكاله، ولا أشعر بأنّ هناك أزمة في الشعر، الأزمة الحقيقية هي في التلقي، وهي سبب مباشر لانتقال المتلقي من الشعر إلى الرواية.
■ يقول أدونيس: «لا تبدأ بأن تكون ناقداً، إلا إذا بدأت بنقد نفسك»، وأنت تكتب، هل تصغي إلى الناقد بداخلك؟
□ أظن أنّ أدونيس يعني هنا ذلك النقد المصاحب للكتابة حذو القُذةِ بالقُذة، وهو نقد مرعب متعب، ولكنه بلا شك في صالح النص وكاتبه، ولا يمنع المبدعَ أيضا من أن يعيد ذات الدور ليمارس النقد على العمل بعد فراغه أيضا، وأزعم أنني أفعل هذا في الكثير مما أكتب.
■ في الساحة الأدبية الآن، إلى أي مدى يواكب النقد الحركة الشعرية؟
□ من مشكلات الشعر المعاصرة ضمور النقد أو اضمحلاله، وفي بعض الحالات يمكن لي أن أقول بأنّ النقد مات وانقطع عن الحياة تماماً، والمشكلة ليست في الشعر غالبا، ولكن في الناقد الذي أصبح كسولاً وفضّل اجترار الكثير من الأعمال المنهكة بحثا وقراءة، ليخفي عجزه الحقيقي عن تطوير أدواته وقراءة المشهد الشعري الحديث كما يجب. وما يمكن تسميته نقدا هذه الأيام هو في مجمله رأي انطباعي مجمل ينحو بالعمل المنقود نحو التزيين والمجاملة، وأزعم أن الشعر قد تجاوز الحركة النقدية بمراحل بعيدة جدا، وحين أتأمل الساحتين الشعرية والنقدية المعاصرة أقول: كم أود لو أنّ فيها ناقدا واحداً فقط بثقافة واطلاع وصدق وشجاعة طه حسين.
■ إفريقيا، تلك الأنثى السمراء، كيف تسللت إلى قصيدتك دون أن تلتقيها؟
□ إفريقيا حاضرة دائما، ونسغها يجري بعروقي، ولا يمكن لجذور الوالدين والأجداد أن تنقطع عني، رغم انقطاعي الجسدي عنها، وعدم زيارتي لها إلى هذه اللحظة. وقد تسللت إفريقيا إلى قصيدتي عبر مسامات الذات والوجدان، وعكفت أنقب عن مكنوناتها، وأبحث عن كل ما خفي عني من كنوزها، وما زلت، وأي حدث سعيد في إفريقيا يسعدني حقا، كما يؤلمني أي خبر سيئ يحدث فيها، وقد حضرت في بعض نصوصي الشعرية حضورا لا بأس به، على أمل في لقاءٍ قريبٍ بها.
■ الهوية والانتماء، ما بين وطن نسكنه، وآخر يسكننا، أين يجد عبدالله نفسه بين مكة وبوركينا فاسو؟
□ الهوية بشتى معانيها ودلالاتها تعد الآن من مواطن الالتباس والاشتباه، وكلما أوغل المبدع في الكتابة شعر بتلك المعضلة ماثلة أمامه، لأن الكتابة بحد ذاتها تمثل هويةً ووطناً منفصلين للمبدع، وكلما زاد شغفه بالإبداع زاد تشظيه واقتحمته أسئلة الهوية والانتماء، وبالنسبة لي كشخص مولودٍ في السعودية المكان «المسكون فيه»، ومنتمٍ لبوركينا فاسو «المكان الساكن فيّ، أجد أنّ مسألة الانتماء أصبحت أكثر رحابة بالنسبة لي، نعم هناك قلقٌ لا يمكن الانعتاق عنه، ولكنه قلق جميل في بعض حالاته حين يصبح محرضا على الكتابة وإثبات الذات المضطربة وسط هذا الركام الكتابي الهائل. وأجدني بكل صراحة كائنا لا منتميا، منصهر الهوية في ذاته وعلاقاته وصداقاته وكتاباته، هذه هي هويتي الحقيقية وانتمائي الأول.
■ في قولك: مملوءٌ .. هو هذا العالمُ بالشعراءْ
□ الحمّالونَ، الزبّالونَ، الخيّاطونَ، البنّاؤونْ، أصحابُ الحِرَفِ المنسيونْ شعراءُ.. ولكنْ.. لا يدرونْ!
■ تطرح رؤية عميقة لمعنى ومفهوم الشعر، فهل جاءت من باب أنك ترى أن الشاعر يقاسم المنسيين البؤس والتهميش، أم يشاطرهم مهمة حفظ توازن العالم، وتغييره جوهرياً؟
□ قبل الإجابة عن هذا السؤال تجدر الإشارة إلى أنني عثرت على هذا النص القصير وأنا أتمشى بين الباعة، فهم الملهمون الحقيقيون لي. وفكرة النص قائمة على شعرنة العالم من حولي، الكل يشترك في صياغة قصـــــيدة الحــــياة، ويسهم في إنجازها كأبدع ما يكون، والغريب حقا أنّ الشاعر يظن نفسه وحده الجدير بلقــب الشاعر، بينما تكمن الحقيقة في أنّ الجميع شعراء مبدعون خلاقون، ولولاهم لما اكتملت للحياة أي قصيدة، ولكنهم للأسف لا يدرون.

من العسير أن ينجو أي مبدع من فخاخ الذاكرة الشعرية: عبدالله بيلا: شعراء فشلوا في التميز فاتجهوا إلى كتابة الرواية

حاورته: منى حسن

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *