الفلسطيني هلال الفارع: القصيدة التي تخلو من المرأة قصيدةٌ عاقر
[wpcc-script type=”19374332232b28b8b8c3012d-text/javascript”]
يرى الشاعر الفلسطيني هلال الفارع، الذي لا يتجلى إبداعُه بمعزلٍ عن قضايا أمته المصيرية، أن المراقب الواعي لمعطيات الربيع العربي، لن يحتاج إلى كثير جهد ليصل إلى نتيجة حتمية مؤداها، أن هذا الربيع تم تفصيله بدقة على مقاسات القضية الفلسطينية، وأنه استُخدم باحترافية منقطعة النظير للدفع بهذه القضية إلى الخلف مسافات بعيدة، كما أرادها صائِغو وصانِعو هذا الربيع، الذين استطاعوا خداع الجميع بامتياز.
ويواصل الفارع قائلا: لقد ترك الربيع العربي الفلسطينيين لقدرٍ غير قدرهم، وانتزع همومهم من أجندة أمتيهم العربية والإسلامية، وجعلهم أمام خيار واحد لا غير، ألا وهو مشاهدة قضيتهم تتم تصفيتها على مسرح أبطالُهُ أهلُهم، الذين تركوهم بلا اكتراث أمام كل الجهات بلا بوصلة، وفي وجه جميع العواصف بدون سواتر. ومجرد نظرة واحدة إلى تراتبية الأخبار على الفضائيات، تجعلنا نعي معنى أن تكون أخبار فلسطين وأهلها، في سياق الأخبار المتفرقة الثانوية، بعدما تم الدفع بها إلى خارج دائرة الاهتمام. ثم يتابع متسائلا: هل كان الربيع العربي فصلا صهيونيا بامتياز، غطاؤه «داعش» و«النصرة»، وحاشيته الكبرى الصراعات المذهبية المرتبة بإتقان؟
الضياع الأخير على مائدة الأمتين المترهلتين سيجيب عن هذا إلسؤال الكبير، الذي يبدو صغيرا جدا، كما أراده واضعوه
■ حدثنا عن القرية التي تسكنك، وكيف فارقتها وأنت ما زلت طفلا لمعتقلٍ أعقبته الهجرة والمنفى؟
□ قُصرة، أو قُصرى تلك القرية الفلسطينية المسوّرة بالحب والشهادة، بالعشق والجرح، تلك قصة أخرى لا فصول لها، لأنها نبضة واحدة تتكرر في كل قلب عاشها، أو اشتم رائحة زعترها، أو استشرف من على أحد جبالها الكون كلّه. ذات ليلة قروية لا تعرف طعم الكهرباء، ولا تصل إليها الخطى إلا على بساط من عناء.. في تلك الليلة المعنونة بالسابع من سبتمبر/أيلول 1969، لم تكن بساطير جنود الاحتلال في حاجة إلى كثير عناء لكسر باب خشبي بسيط، منسدل ببدائية متناهية على بيت بدائي في طينه، موغل في أمنه، ليدخل نصف دزينة من المحتلين المدججين بالكراهية والرطنة العبرية، فيقتادونني، مع حوالي العشرين شابّا وصبيّا إلى مركز الاعتقال، لأعرف بعد تهديد وضرب وصراخ، يتلوه بكاء حارق، وخوف خرافي، أن والدي ـ يرحمه الله ـ قد ارتقى منذ الليلة السابقة شهيدا، وأنني، ومن معي من المعتقلين سنكون وجبة جيدة لانتزاع المعلومات الاستخباراتية للاحتلال. واستمر اعتقالي سنة وبضعة أيام، لأخرج بعدها عن أربعة عشر عاما مدجّجا بكبرياء الرجولة ـ كما تهيّأ لي ـ وأكمل حياة ملؤها قصرة، أو قصرى، لكنها حياة توزعتها عناوين بعيدة عنها، مداراتها من المحيط إلى الخليج.
■ متى صافحت القصيدة لأول مرة، وكيف تَسللتَ إلى مرقدها بداخلك؟
□ لأنني ابن قرية تنام بهدوء على وسادة الفطرة، كنت دائم الاستماع إلى أحاديث كبارها. وكان في القرية بعض الشعراء، ومنهم والدي ـ يرحمه الله ـ يتوزعون على الشعر الشعبي والفصيح، لذا وجدتني أحفظ معظم ما أسمعه، وأردده.. وفي المرحلة الدراسية المتوسطة، كنت أحتال على معلم اللغة العربية، حين يطلب منا أن نستشهد بالشعر في مواضيع التعبير، فأكتب ما يمكن تسميته نصوصا محفوظة مما كنت أسمعه، ولكنها نصوص محرّفة، استخدمت فيها حبي للشعر كأداة لوضع بعض الألفاظ التي تخيلت أنها تُبعد عني تهمة السرقة، أو النقل، وكنت أنجح دائما في الإيهام. لكن القصيدة، التي يمكن تسميتها بالقصيدة الصريحة، بدأت عندي في المرحلة الثانوية، وفي نهايتها تحديدا، حين بلغت الثامنة عشرة من العمر.
حين سافرت إلى بيروت لتكملة دراستي الجامعية، تكللت أولى عناوين رحلتي بحضوري أمسية شعرية هناك للشاعر محمود درويش.. وربما كانت تلك الأمسية بداية اكتشافي لعالم الشعر الحقيقي، حيث قمت بعدها بإعدام عشرات المحاولات الشعرية، التي وجدتها قزمة أمام ما سمعته من الدرويش لتستمر الرحلة بعدها، وتكون قصيدة «الانتظار» هي التي يمكنني اعتبارها المصافحة الأولى الحقيقية للشعر، وكانت حول «جميلة» الأم التي انتظرت أسبوعين كاملين على الرصيف، في انتظار إخراج وحيدها المدفون تحت بناية «الصنايع»، التي هدمتها قنبلة الصهاينة الفراغية على رؤوس من فيها.
■ هل أثرى عملك في الصحافة مسيرتك الأدبية، أم كان خصما عليها؟
□ ابتدأت العمل في الصحافة عام 1982 محررا ثقافيا في جريدة «القبس الكويتية» وبقيت فيها حتى عام 1990. تلك المرحلة ـ على مهنيتها ـ كانت محطة استثنائية في حياتي كلها. صحيح أنني كنت حتى بداية تلك المرحلة قد اطلعت تماما على المدارس الشعرية الحديثة، الإحياء، والواقعية، والرومانسية، وأبوللو، لكن العمل الصحافي جعلني من خلال تغطياتي للأمسيات والمحاضرات، أكون جزءا من الحالة الشعرية والأدبية العامة. وكانت المقابلات التي أجريتها مع كبار الشعراء والأدباء والنقاد، على سبيل المثال؛ الحوارات مع محمود درويش، ويوسف الخطيب، وسلمى الخضرا الجيوسي، وشوقي ضيف، وشكري غالي، وجبرا إبراهيم جبرا، وغيرهم الكثيرون مما لا يتسع المجال لذكرهم، تلك الحوارات والمقابلات أبحرت بي بعيدا، وجعلت مني مواكبا للحظة الشعرية والنقدية، وواقفا على النبع الأول للإبداع من شفاه أصحابه، لا من كتبهم فقط.
■ هل تتفق مع نظرية تداخل الأجناس الأدبية وضرورة عدم تأطير الإبداع في ضيق المسميات؟
□ في لعبة كرة القدم، يضع المدرّب كل لاعب في إطار الدور المناط به، وبناء على هذا التوزيع، يضع خطة اللعب المتكاملة، مع الاحتفاظ بالخطط البديلة. بعض المدربين ـ وهم قلة ـ يعتمدون خطة اللعب الحر، أو يحرّرون بعض اللاعبين من أدوار مرسومة مستقلة.. في الحالتين تتحقق النتائج، التي قد تسرّ تارة، وقد تغضب تارة أخرى. هل وصلنا إلى النتائج التي يمكن الاعتماد عليها في تأطير هذه النظرية، بعد تسلّق الجدران بين الأصناف الأدبية، ومن ثم محاولة نسفها؟ ربما تكون الإجابة بالنفي، لأن أصحاب هذه النظرية أرادوا التحرر من النقد، فأتوا بما يحرج النقاد، أو ربما أرادوا التحرر من الأطر، فجاؤوا بما يكشفها كمعوّق أمام الإبداع، وربما ـ أيضا ـ شاؤوا العبث بكل معنى مقدس بالوراثة، وغامروا، لعلهم يصلون إلى مرافئ جديدة، لا يمكن الرسوّ فيها إلا بالعبث.. كل ذلك ممكن، خاص وأن بعض من ركبوا هذه الموجة ـ النظرية، رأوا في أنفسهم أنهم أكثر من شعراء، وأكبر من روائيين، وأوسع من قصصيين. لننتظر هؤلاء «الرواد»، فلعلهم يأتون بما لم يأت به الأوائل، تماما كما يحاول رواد قصيدة النثر مثلا الزواج من الأدب برحميه؛ الشعر والنثر، بكتاب واحد، عند شيخ واحد، في حفلة عرس واحدة.
■ يقول بودلير: «هناك من لا يستطيع أن يلهو إلا وهو في قطيع، البطل الحقيقي يلهو وحيدا» ، كشاعر.. هل تتفق مع هذه المقولة؟
□ الفن الحقيقي- أي فن ـ لا يقبل القسمة على اثنين في إبداعه، ولا يمكن لاثنين أن يصنعا معا تحفة فنية موحّدة الأنفاس. ربما تشترك مجموعة من الفنانين في صنع تمثال، أو لوحة جدارية، أو في كتابة قصيدة – كما يحصل هذه الأيام- لكنهم مهما تقاربوا أرواحا وأقلاما وأزاميل، لن يخرجوا بقطعة تتنفس برئة واحدة، وحين تتعدد الرئات، تتباين دورات الدماء في القلوب والشرايين. وحتى في الروايات، لا يمكن أن يتساوى بطلان، فيقتسمان دور البطولة الأول. الفنان الحقيقي شاعرا كان، أو رسّاما، أو أديبا، هو القادر على أن يغدو وحيدا إلى الفضاء، ويؤوب بعد ذلك إلى الأرض، حاملا في حقيبته من الهدايا ما لم يحظَ بها أحدٌ في يوم ما، ولم يتذوق لسانٌ عذوبتها من قبل.
■ يقول فرويد: «إنه لتدريب جيد أن يكون المرء صادقا تماما مع نفسه» إلى أي مدى تشعر بأنك صادق مع نفسك فيما تكتب؟
□ صدق الشاعر مع نفسه مفردة لا مناص منها عند كتابة القصيدة. ثم إن الشاعر ليس مطالبا بأن يكون شعره مرآة لحياته هو فقط، وإلا، فبم نفسّر القصائد المبدعة التي يأتي بها الشعراء على ألسنة أخرى: الحبيبات، والطبيعة، والملائكة، والجن، والشياطين.. إلخ؟ الشعر وجبة روحية خالصة، أوحت بها حشاشة شبعت تهويما، وأُشبعت إرهاقا، فكيف يمكن أن تكون غير صادقة؟ حتى لو كانت كاذبة، فهي في كذبها صادقة حدّ الشفافية
■ المطلع على لوحاتك الشعرية، يقف طويلا عند صورة المرأة/الوطن فيها، من حيث كونها رمزا شعريا متعدد الألوان، فإلى أي الألوان ينحاز شعرك أكثر؟
□ أعتقد أن القصيدة التي تخلو من المرأة هي قصيدة عاقر، محرومة من الإنجاب، مهما حلّقت بعيدا، ومهما أوغلت في بحورها. والقصيدة التي لا تنجب، لا تستمر طويلا في الحياة، ولا تستطيع دخول حلبة التمايز. قد يظن البعض أن المرأة، أو الأنثى هنا تعني المرأة المجردة، وينسى أن الأرض ولود، والسماء كذلك، والقصيدة أيضا، ولكن بأرحام متباينة في احتضان جينات القصائد. وحين يعشق شاعر راية الوطن، يخلو بها، ويذيب ألوانها في حبره، ويملأ أقداحه منها، ويشربها على ظمأ، ويكتبها بجسارة العاشق الدنف، ويسوقها إلى الآفاق عذراء قادرة على إنهائه فيها، تماما مثلما يعشق امرأة، أو يناجي عشيقة، أو يبتهل إلى قصيدة.
■ صدر لك «هدايا آخر الليل»، في الثمانينيات، ثم طبعت خمسة دواوين أخيرا، فما سر هذا الخصام الطويل مع الطباعة؟
□ عام 1988 صدرت لي عن دار القبس في الكويت مجموعتي الشعرية الأولى «هدايا آخر الليل»، ثم كان الرحيل القسري من الكويت عام 1990 بعدما عرف بالغزو العراقي لها، بعد قرابة العقدين من العيش فيها، إلى حياة قسرية في المنافي الجديدة. وربما كان للانغماس في شؤون الحياة الجافة أثر كبير في ابتعادي عن نشر أشعاري، لكنني لم أتوقف عن كتابتها. وكانت وسائل التواصل الاجتماعي بعد ذلك البعد الفضائي المثالي لنشر قصائدي، إلى أن وجدت الكثير منها يتسلل إلى بعض الهواة من لصوص الشعر، فآثرت أن أحميها، خوفا من أن أفقد قدسيتها واحترامها، فبدأت بنشـر بعض منها، فكانت خمس مجموعات جديدة على التوالي. لكن ذلك لم يأت على مئات القصائد المنشورة على الشبكة العنكبوتية، وغيرها من القصائد التي لا تزال حبيسة الورق، ومن بينها مئات الرباعيات أيضا. ولن أضيف جديدا على ما يعانيه الكثيرون من الشعراء من زهد دور النشر في إبداعاتهم. لكنني في الوقت نفسه لن أتنازل عن الاعتراف بأن الشعر في زماننا هذا لا يستطيع ـ مهما بلغ شأنه ـ أن ينافس أغنية قوامها الجسد، أو لعبة مفردتها كرة يتبع فنونها اثنان وعشرون «شاعرا كرويّا»، ويلهث خلف جنونها الملايين.
■ أطلعنا على المشهد الأدبي العربي الآن، من شباك رؤيتك؟
□ لا أدّعي أنني ملم بكل أطراف المشهد، لكنني أرى أن على الخشبة أجناسا متفاوتة المشارب، متقابلة الأغراض، جلّهم يكتفي بالدور الثاني، وقلة قليلة تحاول الظهور بثياب البطولة المطلقة. حتى من يحاولون ذلك يصطدمون بأنفسهم. في أحد الأركان يقف الشعراء لاهثين خلف ظلالهم المتحركة، وعلى مساحة أكبر يهرول الروائيون الكثيرون، وفي زاوية ملونة عشوائيّا يجلس النقاد. ما بين القصيدة والرواية والنقد خطوط متوازية لا تلتقي، ولن تلتقي، ربما لأن طبيعة العصر الذي نحيا، لا يقبل الخطوط المتقاطعة، أو ربما لأن رسّامي تلك الخطوط لا يتقنون الهندسة… ولا أزيد.
■ ما هي مشاريعك الكتابية المقبلة؟
□ مشروعي الوحيد الآن يكمن في انشغالي بكتابة الرباعيات، وصلت تقريبا إلى ما يزيد عن مئتين وستين رباعية، ولا أعرف الرقم الذي سأنتهي عنده.. لكن هذه الرباعيات تستهويني جدّا، وأراني فيها مجدّدا.. بحسب زعمي.
الفن الحقيقي لا يقبل القسمة على اثنين في إبداعه
حاورته منى حسن