ناجي العلي… خبز الفقراء اليوميِّ
[wpcc-script type=”acda1ce7cd5b818952dbc0d7-text/javascript”]
في الثاني والعشرين من تمّوز/ يوليو 1987، أطلقت يد آثمة النار من كاتم الصوت على رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي في أحد شوارع لندن، حيث أسلم الروح في 29 آب/ أغسطس 1987.. في مستشفى تشيرلنغ كروس في لندن.
وناجي العلي من أولئك الذين لا يستأذنون أحداً… حينما يمضون باتجاه الشمس والنجمات، من أولئك الذين احتملوا عبء التواصل مع هذا الوطن، رغم المخاضات الكثيرة والعسيرة، هو من الذين برهنوا على قداسة التراب العربي المسلم على امتداد مساحة الوطن الكبير. والرصاصة التي طالته في لندن، لم تكن بحجم الهدف.. ولم تنل منه شيئاً، وإن كان قد توقف عند حدود (50) عاماً فسيبقى كل الزمن المقبل عمرٌ له ويومٌ من أيامه.
واليوم، في الذكرى الثامنة والعشرين لغيابه، يبدو العلي، مثقفًا ارتبط بطبقته حتى اللحظة الأخيرة، ورفض الإغراءات والعروض الكثيرة للانحراف عن المسار الوحيد الذي رأى فيه ضمانة العودة إلى الوطن السليب.. هذا الفتى المرهف الشفاف المثقف الملتزم، صاحب القضية وحامل الرسالة، كان شاهد عصره، ومؤرخ قضيته، وكانت الدنيا كلها أمامه ليمتح منها أفكاره ورؤاه، وفي ضميره هذا الكم الهائل من التجارب والأحاسيس التي جعلت منه فناناً متفرداً في فنه شكلاً ومضموناً.
ولأن ناجي العلي بريشته التي رسمت حكاية فلسطين الجريحة، كان يبحث عن الحرية.. ويشعل لها مجامر البخور, ويؤجج نار الثورة والغضب والنضال من أجل الوصول إليها, فقد قتلوه ظناً منهم أن قتله ينهي الحقيقة التي مازال الفلسطينيون يرسمون ببطولاتهم ومقاومتهم أروع صورها، متسلحين بفلسفة الموت والاستشهاد.. فلسفة تعبق برائحة التحدي والقوة المؤدية إلى الانتصار العظيم المكلل بالمجد.
لقد كان ناجي العلي – عليه رحمة الله- يعتز بعروبته، إذ تعبر إحدى لوحاته عن مكنونات نفسه، فيقول في إحداها: «لست سنياً ولا شيعياً ولا مسيحياً ولا درزياً أنا عربي يا جحش». وقد استطاعت رسوماته أن تشعرنا بالذل والقوة, بالعودة والتشريد, وما تزال رسوماته تمثل تنهيدة المواطن العربي، عندما يتأمل حال أمته ولا يجد ما يقول، فهي ما تزال تحمل صلاحية الفكرة وضراوة الهجاء الذي نحتاجه حين يعز الكلام، على الرغم من مضي أكثر من ربع قرن على جريمة اغتياله.
وقد نشر العلي أكثر من 15 ألف لوحة كاريكاتيرية طيلة حياته الفنية، عدا عن المحظورات التي مازالت حبيسة الأدراج، والتي كثيراً ما كانت تسبب له تعباً حقيقياً. وقد شاركت رسومه في عشرات المعارض العربية والدولية، وصدر له ثلاثة كتب في الأعوام (1976، 1983، 1985) ضمت مجموعة من رسوماته المختارة، وكان يتهيأ لإصدار كتاب رابع، لكن الرصاص الغادر حال دون ذلك. وقد حصلت أعمال ناجي العلي على الجوائز الأولى في معرضي الكاريكاتير للفنانين العرب أقيما في دمشق في سنتي 1979م و1980، وحاز كذلك عدة جوائز كبرى في معارض دولية وعربية، وأقيمت لرسوماته عدة معارض قبل استشهاده وبعده، وقد انتُخب أميناً عاماً لاتحاد رسامي الكاريكاتير العربي، إضافة إلى كونه عضواً مؤسساً في الاتحاد العام للفنانين التشكيليين الفلسطينيين وعضواً في الأمانة العامة للاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن اللقاء العابر لناجي العلي في عام 1962 مع الأديب والكاتب الفلسطيني غسّان كنفاني قد غيّر مجرى حياته، فلقد أطلعه على عدد من رسومه التي لمس كنفاني فيها موهبة ناجي وحماسته، فنشر له رسماً في مجلة «الحرية» يمثل خيمة على شكل بركان، حيث شكلّت له تلك اللحظة النقلة الأهم في حياته وتعاطيه مع قصة الرسم، التي كانت لها تأثيراتها اللاحقة والأساسية في تجربته الحياتية والإبداعية، إذ أنه سافر بعد عامين من ذاك اللقاء إلى الكويت ليعمل رساماً ومخرجاً وكاتباً في مجلة «الطليعة» الكويتية، لسان حال القوميين العرب في الكويت، التي كانت آنذاك إمارة صاعدة، وقد استُقبل العلي بحفاوة في الطليعة التي أضحت مدرسته الأولى ومنبره الأسبوعي لمخاطبة قرائه، وكان ذلك بداية عمله كرسام محترف، راح ينشر رسومه بتواتر متزايد، إلى أن انتقل عام 1969 إلى جريدة «السياسة» الكويتية، وبقي فيها رسام كاريكاتير حتى عام 1974، عندما عُرض عليه العمل في جريدة «السفير» اللبنانية، في وقت كان الانقسام السياسي في لبنان قد بلغ مبلغه، وراحت رهانات القوى اللبنانية تفرز بحد السكين القوى السياسية والاجتماعية، وتترك ظلالها القوية على كل وسائل الإعلام.
وقد عمل العلي في صحيفة «السياسة» الكويتية من شهر تشرين الأول/أكتوبر عام 1976 حتى نهاية عام 1978 وأصبح العلي يعمل رساماً لصحيفة «السياسة» الكويتية، إضافة إلى «السفير» حتى عام 1983، وفي هذه الحقبة كانت رسومه تمس كل الأطراف، من الأعداء المعلنين: إسرائيل وأمريكا، إلى قائمة دول الاستبداد العربية إلى كل أعداء العرب وفلسطين، فرسم عن الديمقراطية، والبترول، والمخيمات، والفقر، والمعتقلين السياسيين، والخلافات العربية، والخلافات الفلسطينية، والتنازلات المعلنة والمضمرة، وكانت في كل ذلك نجمة الصبح لها اسم واحد هو فلسطين.
وبين عامي 1983و1985 غادر إلى الكويت وعمل في صحيفة «القبس»، حيث نشر فيها مجموعة من أقسى الرسوم النقدية عن القيادات الفلسطينية، التي ظلّ يهاجم فيها كل من يبتعد خطوة عن فلسطين الوطن والمعاناة والحلم، من الأنظمة العربية إلى القوى الفلسطينية نفسها، الأمر الذي أجبره مجدداً على مغادرة الكويت بسبب الضغوط الفلسطينية، إلى لندن ليعمل في «القبس الدولي» خلال ذلك بقي وفياً بصرامة نادرة لخطه السياسي النقدي، الذي لا يقبل المساومة ولا المناورة.
أما في الفترة ما بين 1985و1987فإن خريطة فلسطين السياسية لم تعد هي نفسها خريطة الخمسينيات والستينيات، ولم تعد خريطة لبنان الحرب الأهلية هي ذاتها… تغيّر العالم، انتصر أعداء فلسطين، أُبعدت منظمة التحرير إلى تونس، انتصرت الأنظمة على المجتمعات. هُزمت القوى والأفكار التي سادت جيل ناجي، غير أنه هو نفسه لم يهزم، بقي يقاوم متمترساً خلف النقاء السياسي السابق نفسه. وهذا وسّع خريطة خصومه، فالأعداء بالنسبة له هم أيضاً أولئك الذين يعيدون الحسابات أو يميلون إلى المساومات من أهل البيت الفلسطيني.. هكذا وجد نفسه في السنوات العشر الأخيرة من حياته يتناول بالنقد المفرطين وأصحاب الكروش والموسومين بأرقام القرارات الدولية (242- 238) حول فلسطين وتقاسمها.
كاتب فلسطيني
نضال القاسم