في الذكرى العاشرة لغياب إحسان عباس: شيخ النقاد والمحققين العرب في النصف الثاني من القرن العشرين
[wpcc-script type=”2131ffc45754e6d6d824a560-text/javascript”]
في الأول من آب عام 2003م توفي في العاصمة الأردنية عمان المبدع الكبير والباحث الموسوعي، والناقد الفذ، والمترجم الخلاّق، والمؤرخ، والمحقق، وسادن التراث الذي لا يُشقُّ له غبار، ابن قرية عين غزال، الراعي الذي اغترب في العالم، إحسان عباس، شيخ النقاد والمحققين العرب في النصف الثاني من القرن العشرين في مجالي الأدب والتاريخ.
وإحسان عباس ناقد ومحقق وأديب وشاعر، ولد في فلسطين في قرية عين غزال في حيفا سنة 1920م وأنهى فيها المرحلة الابتدائية ثم حصل على الاعدادية في صفد، ونال منحة إلى الكلية العربية في القدس (1937-1941) وكانت الشهادة المتوسطة التي نالها تؤهله لأن يكون مدرساً في المدارس الثانوية إلا أنه تابع تحصيله فنال عام 1946 الليسانس في الأدب العربي من القاهرة عام 1948 فالماجستير عام 1952 والدكتوراه عام 1954. ثم عمل في التدريس سنوات، وقد بدأ تدريسه الجامعي في كلية غوردون التذكارية بالخرطوم، ثم في جامعة الخرطوم (1951م-1961م)، ثم انتدب للتدريس في الجامعة الأمريكية ببيروت (1961م- 1986م)، وشغل فيها منصب رئيس دائرة اللغة العربية ولغات الشرق الأدنى، ومدير مركز الدراسات العربية ودراسات الشرق الأوسط ، ورئيس تحرير مجلة الأبحاث، وأثناء عمله في الجامعة الأمريكية في بيروت سافر للولايات المتحدة الأمريكية للعمل كأستاذ زائر في جامعة برنستون في الفترة (1975م- 1977م)، وعمل باحثاً متفرغاً في الجامعة الأردنية (1986م- 1994م) وقضى آخر أيامه أستاذاً في الجامعة الأردنية بعمان، وهو عضو في المجمع العلمي العربي بدمشق والمجمع العلمي الهندي (مندوباً عن فلسطين). وانتدب للمشاركة في عشرات المؤتمرات والنداوت العالمية، وعين مستشاراً لعدد من الجامعات العربية والإسلامية، ونال عدداً من الجوائز والأوسمة منها: جائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي 1981م وجائزة سلطان العويس الثقافية 1992م.
ولم يكن إحسان عباس مجرد ناقد فذ أو دارس رفيع للتراث العربي الانساني، أو محقق لا يشق له غبار للتراث العربي القديم أو مؤرخ كبير، أو مترجم خلاّق، أو أستاذ لا يجودُ الزمن بمثله في كل حينٍ فحسب، بل كان كلَّ هؤلاءِ معاً، كان أكبرَ من مجموع هذه التخصصات مفرده أو مجتمعه، لأنه كان يتحرك في كل حقل من هذه الحقول بمرونة المتخصص الذي أمضى كلَّ حياتهِ على التدرب على هذا المجال المعرفي دونَ غيرهِ، ونحنُ لا نعرف في العصر الحديث كثيرين غيرَه جمعوا في شخوصهم مثل هذه اَلموسوعية المعرفية الاستثنائيه مثلما كان عليه هوْ، بل أن ما أنجزه إحسان عباس في سنوات عمره لا تقوى عليه مؤسساتٌ علميةٌ بكامل امكانياتها وطواقمها المادية والبشرية، فقد كان كما وصفه كثيرون مؤسسةً معرفيةً قائمةً بذاتها وأكاديميةً بطوابقَ متعددةٍ وسواء تحرك الدارسُ في حقل الأدب العربي القديم، أو النقد القديم، أو الدراسات المقارنه، او الفلسفة الاسلامية أو تحقيق التراث او تاريخ الانباط، او تاريخ بلاد الشام أو جهود المستشرقين أو الترجمة أو النقد الحديث المتعلق بالشعر ومنجزه الابداعي فسوف يجد إحسان َعباس قائماً أمامه دائماً مثل منارةٍ عملاقةٍ كأنها زُرعت في هذا المجال بعينه ولم تغادرْ إلى ايِّ حقلٍ معرفي آخر.
ومما لا شك فيه أن إحسان عباس كان واحداً من أكبر العلماء الموسوعيين الذين عرفتهم العربيةُ في مختلف عصورها، فإلى جانب الثراء الكمي الباذخ الذي امتدَّ في ما يزيد على تسعين مجلداً، فقد امتاز منجزه بتنوع معرفي نادر، وعمق مدهش في كل ما ألف وترجم وحقّق.
وقد كان إحسان عباس ـ رحمه الله- موسوعة معرفية هائلة، وطاقة بشرية فذة اتسمت بالجلد والصبر، وشخصية نادرة أخلصت للعلم والمعرفة أيما إخلاص، فأنتجت ما يربو على تسعين كتاباً، ما بين التأليف والتحقيق والترجمة من لغة إلى لغة؛ فقد ألف ما يزيد عن 25 مؤلفا بين النقد الادبي والسيرة والتاريخ، وحقق ما يقارب من 52 كتابا من أمهات كتب التراث، وله 12 ترجمة من عيون الادب والنقد والتاريخ والعديد من الكتب الهامة وكتب العديد من المقالات، وهو إلى ذلك حائز سمات العالم الحق من موضوعية وتواضع وتجرد، إذ كان عقلاً منفتحاً مستقلاً، ولم يركن إلى منهج من المناهج الناجزة المعرفة، وإنما كان موسوعياً في معرفته المناهج النقدية، يستفيد منها في سبك منهجه الخاص المميز، وقد أخذه البحث الجاد والإنتاج النقدي الغزير من ساحة الشعر والتفرغ له، حيث أنه وعلى الرغم من كتابته المبكرة للشعر منذ صباه إلا أن ديوانه الشعري الأول (أزهار برية) قد صدر في منتصف عام 1999م، مع ان قصائد الديوان كتبت في فترة زمنية قديمة، أي في مطلع شبابه في الفترة ما بين 1940م – 1948م، ومن أهم أسباب اخفائه لهذا الديوان: خجله الشديد، وخشيته من المجاملة الاجتماعية. ويتميز شعر إحسان عباس بالميل الى الريف والمرأة والعودة للطفولة، وشيء من الوطنية والأسرة، والنقد الاجتماعي، ويبدو تأثير التراث العربي والشعر الرعوي الإنجليزي واضحاً في العديد من قصائده.
وقد أخرج – رحمه الله – كماً هائلاً من النصوص التراثية في شتى مجالات التدوين الثقافي العربي القديم، وقد حقق مجموعة من أهم و أروع كتب التراث العربي كما كانت له إسهامات في حقل الترجمة حيث ترجم إلى العربية (يقظة العرب) لجورج أنطونيوس و(النقد الأدبي ومدارسه الحديثة) لستانلي هايمن بالاشتراك مع د. محمد يوسف نجم، و(دراسات في الأدب العربي) لفون جرونباوم و الرواية الشهيرة (موبي ديك) و(فن الشعر) لأرسطو. ومن أهم آثار الدكتور عباس في مجال خدمة التراث العربي: إعادة نشر كتاب (وفيات الأعيان) لابن خلكان في ثمانية أجزاء (1968- 1972)، و(نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب) للمقري التلمساني(1968) في ثمانية أجزاء أيضاً، و(الذخيرة في محاسن أشعار أهل الجزيرة) لابن بسام الشنتريني (1974 – 1979) في ثمانية أجزاء أيضاً، و(التذكرة الحمدونية) لابن حمدون (بالاشتراك مع شقيقه بكر) (1- 8، 1987)، و(رسائل ابن حزم الأندلسي) (1-4، 1980- 1983)، و(الجليس الصالح الكافي) للمعافى بن زكريا النهرواني (1- 3، 1987)، و(معجم الأدباء) لياقوت الحموي (1993، في سبعة أجزاء)، وأخيراً كتاب ‘الأغاني’ لأبي الفرج الأصفهاني في خمسة وعشرين جزءاً بالاشتراك مع ابراهيم السعافين وبكر عباس (2002)، و(خريدة القصر) للعماد الأصفهاني (بالاشتراك مع أستاذيه أحمد أمين وشوقي ضيف)، و(فصل المقال في شرح كتاب الأمثال) (بالاشتراك مع عبد المجيد عابدين)، و (جوامع السيرة) لابن حزم الأندلسي (بالاشتراك مع الأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد).
وإن المتأمل اليوم لمؤلفات إحسان عباس يجدها متنوعة في موضوعاتها، تتوزع بين النقد والأدب والتاريخ والسيرة، وحتى المحور الواحد تراه متشعباً، ففي النقد نجد له خطرات في النقد، ودراسات نقدية متنوعة، ودراسات نقدية تطبيقية.. وفي التاريخ تجده يبحث في تاريخ الأدب الأندلسي في عصر سيادة قرطبة مرة، وعصر الطوائف مرة ثانية، وتاريخ الأنباط ثالثة، وتاريخ ليبيا رابعة…لكن السمة التي تشترك فيها هذه المؤلفات كلها هي حسن استخدام اللغة للتعبير عن موضوع كل مؤلف منها، ففي كتب النقد يستخدم لغة نقدية مصبوغة بصبغة جمالية، فنقده لم يكن صدى مدرسة أو اتجاه أو منهج، بقدر ما كان نتاج رؤيته وتجربته وممارسته.
وما من شك أن اللغة هي المجال الأول للتجديد سواء في وظيفتها الدلالية والجمالية أم الميل في استقائها من المعاجم والقواميس، وهذا ما فعله إحسان عباس عندما خط لنفسه منهجاً لغوياً كان قاسماً مشتركاًَ لجميع أعماله سواء أكان ذلك في كتب السيرة الذاتية أم في الكتب النقدية، حيث كان بناؤه اللغوي منطقياً ومبوباً…فكان في دراساته الشعرية يجمع مزايا الشاعر الشعرية ثم يصنفها ويقسمها إلى محاور كبرى ليشرع – بعد ذلك – بدراستها وتحليلها. ومن ميزاته في الجماليات اللغوية ميزة التسلسل اللغوي المنطقي الذي ينم عن تسلسل فكري منطقي أيضاً، فنراه يصنع مقدمات تفضي في النهاية إلى استنتاجات ونتائج تكون أحياناً بمثابة نصائح. وإلى جانب الوضوح والبساطة في الاستخدام اللغوي نلحظ – أيضاً – الصراحة والتلقائية وعدم التصنع في البناء اللغوي المعبر عن آرائه، فلغته مفهومة يسيرة إلى درجة الوضوح التام. وأما أسلوبه فيتسم بـ: الوضوح والقوة والجمال وهذه المقاييس لا تظهر إلا عند إنسان امتلك كل صفات الإبداع الحقيقي..
وأما بالنسبة للتجربة الشعرية الحديثة فيراها إحسان عباس وليدة تجربة لغوية جديدة،وتعامل مغاير مع الفضاء اللغوي لخلق بناء فني ينسجم وطابع الطرق التعبيرية الحديثة التي سلكها الشاعر العربي الحديث، وإن لغة الشعر الحديث تكون اللفظة فيه عملاً ليس له ماضٍ مباشر، وأن اللغة ليست بريئة أبداً، فالكلمات ذات ذاكرة ثانية تلح على مثولها من خلال المعاني الجديدة، والكتابة هي هذه المصالحة بين الحرية والتذكر. وفي ضوء ما أنجزه الدكتور إحسان باحثاً في الأدب العربي يكاد يتخصص في نقد الشعر سوف يبقى له أنه من أوائل النقاد الكبار الذين وقفوا إلى جانب حركة الشعر الحديث، وقدم الذين أصبحوا بعد ذلك من أعلامها في دراساته الباكرة عن البياتي ونازك والسياب وسواهم، ولا عجب أن يكون هو أول من دشن في كتابه عن البياتي والشعر العراقي الحديث باعتراف المؤسسة الاكاديمية والنقدية بحركة الشعر الحديث منذ طفولتها الاولى في بداية الخمسينات في الوقت الذي كان منشغلاً فيه في السودان حيث كان يعمل في تحقيق التراث الاندلسي واخراجه الى النور.
وحينما أصدر احسان عباس كتابه ‘فن السيرة’ عام 1956م كان أول ناقد عربي يقف على أصول هذا الفن وقواعده، وأنبأ ذلك الكتاب عن مقدرة فذة وبصيرة نافذة في الكشف عن جذور فني ‘السيرة’، و’السيرة الذاتية’ في التراث العربي والآداب الاوروبية، من خلال إظهار معالمهما، هنا وهناك، في قراءة تقرن التاريخ والتحليل بقران واحد، وتظهر القديم إلى جانب الحديث، في تلك الحقبة من عمر الثقافة العربية التي بدأ ثلة من الأدباء والساسة الالتفات إلى ذينك الفنين، ولا سيما ‘السيرة الذاتية’ التي ذاع شأنها بعد أن أخرج طه حسين كتابه الشهير ‘الايام’، فتنادى نفر من الأدباء والصحفيين والساسة إلى تدوين مذكراتهم وسيرهم الذاتية.
وعلى الرغم من أن أصعب أنواع النقد هو نقد الذات وتشريحها وتسقط عوراتها إلا أن إحسان عباس في سيرته الذاتية ‘غربة الراعي’ كان ناقداً جليلاً، ولم يجد الرجل غضاضة في مؤلفه الجميل من أن يقول ما يواريه الآخرون ويتمنون ان يُدفن مع جثثهم، فهو يعترف – وهذا يجب أن يسجل له – بأنه لم يتمكن وزميل عمره الناقد محمد يوسف نجم من أن يلحقا بركب الثورة الحديثة في النقد الأدبي، وما حملته البنيوية والتفكيكية والحداثة وما بعد الحداثة لأن: ‘هذا كله قد جدّ بعد الفترة التي كنا من روادها ومعاصريها..
ونظراً لأهمية تجربة الدكتور إحسان عباس فقد أصدرت مؤسسة عبد الحميد شومان في عام (1998م) كتاباً تكريمياً ضخماً يقع في (320) صفحة من القطع الكبير، بعنوان (إحسان عباس ناقداً، محققاً مؤرخاً) ساهم في الكتابة فيه (84) كاتباً. وأصدرت المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت كتاباً بعنوان (حوارات إحسان عباس) وضع مقدمته وأعدّه للنشر الدكتور يوسف بكار. ونشرت مجلة الدراسات الفلسطينية العدد 56 (خريف 2003) مقالاً لرضوان السيد بعنوان (إحسان عباس والتراث العربي). وفي صيف عام 1985 نشر الدكتور عبد النبي اصطيف مقالاً له في العدد 6846 من جريدة (البعث) بعنوان (وقفة مع عميد الأدب العربي الثاني الدكتور إحسان عباس)، وفي جريدة الوطن: العدد (1072) يوم (6/ 9/ 2003) مقال للأستاذ عبد العزيز مقالح بعنوان (إحسان عباس: الأستاذ الإنسان).
وبمناسبة الاحتفال بأسبوع اليوم العالمي للكتاب، واستناداً الى قرار الجمعية العمومية لملتقى فلسطين الثقافي بتاريخ 15/9/2012 فقد تم الإعلان في مدينة رام الله عن إطلاق جائزة إحسان عباس للإبداع الثقافي التي ستكون مخصصة في دورتها الأولى للنقد الأدبي والدراسات النقديةِ المتعلقةِ بالابداع الأدبي الفلسطينيِِِِ في فلسطين والشتات، وهي مفتوحةٌ أمامَ المثقفينَ والنقادِ والدارسينَ من جميع ِ ارجاء ِالوطن العربي الكبير.
بقي أن نقول إن احسان عباس كان شاهقاً في معرفته، بسيطاً في ذاته، ومتواضعاً بقدر ما كان عملاقاً، يحسن الاصغاء والحوار، ويتابع كل جديد في الابداع العربي الحديث، وقد كان ـ رحمه الله- نخلةً معرفيةً باسقة تضرب جذورُها عميقاً في التراث العربي والانساني القديم، وتشمخُ برأسها عالياً في الثقافة الانسانية الحديثة من غير أن تتناقضَ هُويُته الثقافية مع انتمائه الحداثي، وقد ترك وراءه سيرة أستاذ من أساتذة القرن العشرين البارزين، وأرسى الكثير من التقاليد في حقول البحث والمعرفة، وسوف يظل حاضراً في الذاكرة العربية لأجيال وأجيال، فهو وإن غاب عن الحضور اليومي اللامع فإنه موجود دائماً في أعماق طلابه ومريديه وعشاق أدبه.