سامح درويش والهايكو العربي
[wpcc-script type=”1f49990bb484e4e7130b8873-text/javascript”]

صحيح أن الهايكو صناعة يابانية بامتياز، رسم ملامحه الأولى الزعيم الروحي ماتسوو مانوفوسا المشتهر بلقب «باشو»، رائد هذا الفن الذي غذته نوعا ما طقوس «الساموراي»، مثلما استنبته المناخ الصوفي التعبدي، الموغل في مفردات التأمل والإيحائية.
كي يغتدي لاحقا، لغة عالمية، ينفتح عليها العديد من الألسن، وها هو الآن ومنذ انبجاس أولى ينابيعه في مطلع ستينيات القرن الماضي، يتم تبنيه في بيئة عربية متعطشة لألوان الحداثة، ومنجذبة إلى أبجديات التجريب في كل ما تفرزه التجارب الإنسانية، حيثما ولدت، ودونما تقيد بالاعتبارات العرقية أو الدينية أو الثقافية، وما إلى ذلك من زوائد، ربما تعيق الفعل الإبداعي الإنساني، المصطبغ بقناعات عولمة الكائن، واعتماده لهوية مشتركة، من شأنها تذويب سائر الخصوصيات التي تقلص حيز الحرية في الإبداع والخلق والإنتاج إجمالا.
من هذا المنطلق، سنحاول البحث في تجربة قامة أدبية وشاعر هايكو مغربي، لم يدخر جهدا، ناضل ولم يزل، ليثري معجم لغة الضاد، بفصول مغامرة الانتماء إلى هذا الفن الجديد الوافد، بمعزل عن مزايدات أو تحايلات الفرانكفونية على اللغة الفصحى في سحر هويتها وكريستالية قواميسها وطاقتها الرهيبة على التجدد، وتقمص الأشكال والقوالب التي هي من إملاءات روح التعصرن، والمضي قدما والتسليم بمعطيات التسارع التقني والتكنولوجي.
الهايكيست سامح درويش، المنتقل من عوالم السرد إلى آفاق الهايكو، وقد جدد وابتكر في معانيه، وأعطاه الصور اللائقة به كمولود عربي بجينات يابانية صرفة، بحيث استطاع سامح درويش لفت نظر النقد إلى هذا الفن، عبر تقديم مادة تغني بتذوقها عما سواها من التأويلات التي قد تضع هذا الجنس التعبيري في قفص اتهام.
بين التقليد والتأسيس
كثر هم من رفضوا هذا الفن الوافد، حتى لا أقول الدخيل، بدعوى أنه سوف لن يتجاوز في استعمالاته وأقصى درجات تعاطيه، مستوى التقليد، ودوخة التخبط في قشرته وشكله، بدون النفاذ إلى روح شعريته، للنهل منها، ومن ثم إثراء العربية، بل بصم هوية هايكو عربي خالص، يجترح انشغالات وهموم الإنسان العربي، وينغمس في عوالمه وأوجاعه معبرا عن آلام وأحلام هذا الكائن الذي سوف لن يجديه تهجين لغته ووخز هويته، من خلال استقطاب خجول لهذا الضيف الأدبي الذي شكّل ثورة في منبته الأصلي.
كثر هم من رفضوا هذا الفن الوافد، حتى لا أقول الدخيل، بدعوى أنه سوف لن يتجاوز في استعمالاته وأقصى درجات تعاطيه، مستوى التقليد
بالطبع، كل تلك المخاوف لم يكن لها ما يبررها، وهي هواجس في غير محلها ولت أدراجها، مع أول خيوط التماعة هذا الفن، على يد نخبة من مبدعيه، عبر الربوع العربية، وقد تمكنوا من ضخ دماء عربية في شرايينه، من بينهم عراب الهايكو المغربي، الأول سامح درويش، فكان ذلك إيذانا بمولد حقيقي لهذا الجنس، ملأ القلوب وأنعشها قبل المنابر الإعلامية، وزعزع قناعات وفتح نوافذ أمل في غد أدبيات الهايكو الذي راحت تكتبه الحقبة العربية بدم، أي نعم بدم. بذلك، أخذت تتشكل حساسة جديدة، يعتقد بها جيل الهايكو الحامل لبصمة وخصوصية عربية بامتياز. نقتبس لشاعرنا بضع فلتات، تفرض على متلقيها كؤوس ذوق خاص، مركز ومكثف، لا تجود به سوى ممارسة الهايكو بوعي وتشبع بالعمق والتجذر العربي، يقول: (ظُلْمة/ المِرآةُ ضَريرَةٌ / لا تَرانِي ).
حتما، فهي ظلمة تعادل واقع نسخ الأدب، وعدم إخضاعه لصياغات مبتكرة تناهض التدجين والتقليد، وتوافق حالات الكذب على الذات، بهدر الوقت في تملي مرآة «ضريرة» لا تعكس غير ثقافة الأصل أو المنبت، الذي استنسخت عنه، كضرب من اجترار وسلبية ونقصان.
نلفي نرجسية الهايكيست، وقد أضفت بعدا لدوال المفارقة، وأرخت بمعاني الاستثناء، وكأنها دعوة إلى كتابة الهايكو بوعي عربي متوهج، ويقول أيضا:
عائدا من الحج / الربوة / تبدو له مثل نهْد.
وهو مقطع يوضح حس الصراع الخفيض مع هذا الجنس كعائد، وإن تم ربطه برمزية دينية تعبدية، وهي برعمه الذي فتقها في الأصل ونقاط البداية، بيد أن هناك دائما، ما يشبه النداء الدال على رفض الجاهز وعدم تقبله، مقابل ترجيح خطاب التجديد والتمرد على قوالب الأصل، عبر معالجات أو مقاربات للراهن العربي من داخل هويته ولغته، ليمكث ما تبقى مجرد وعاء، فيما الجوهر صفحات نابضة بالسر العربي ممتلئة بمشاهده، إذ ثمة تبدل وتجدد يفيد معارضة منطق الاجترار والاستنساخ. .
الطبيعة مرآة الهايكو
مثل هذا المفهوم حاضر وبقوة في خطاب سامح درويش، فهو منذ البداية يعلن تصالحه مع المكون الطبيعي بتنوع تجلياته، وينفتح على مختلف عناصر الطبيعة، على نحو لا يخلو من أنسنة، تجب لغة التشيؤ والإقصاء والهيمنة، في تجربة تسد بعض ثغرات الإبداع بقواعد انصهاره في الترجمة الخائنة، أو التحريف الناجم عن تلقن حيثيات المصدر، بما العملية تحرر من سلطة المرجع، وانتصار لهوية مولدة وثقافة إنسانية جديدة مبتكرة.
نقرأ له، قوله كذلك: الريح / تكْنسُ أوراقًا يابسةً /وتأتِي بأخْرى، وقوله: دوْري النافذة / بِرَفِيفِه / يُعيدُ تشْكيل الهَباءِ.
من هنا يترسخ لدينا الوعي التام بضرورة إعادة التشكيل والإنتاج والبناء، في كل مناحي الذات والحياة والوجود، وأكيد أنها فلسفة الشعر المدبج برسائل الواقعية التي في مقدورها تصحيح وعينا بفن وافد اسمه الهايكو، آخذ في الاصطباغ بالخصوصية والهوية العربية غير المؤدلجة ولا المدجنة.
٭ شاعر وكاتب من المغرب
.