رصــــيـــــف

رصيف (1) على باب المنزل وقفت وكأنها تنظر لكل زاوية من زواياه للمرّة الأخيرة أمسكت مقبض الباب أغلقته بِخفّة حملت حقائبها ورحلت .على الرصيف وبجانب حقائبها جلست منتطرة بحذر ما يُعلن عن وصول الحافلة. هُناك في الجهة المقابلة لها وتحديداً على المقعد الذهبي اللون جلس ذاك الرجل المسّن وحوله مجموعة من الأشخاص – لربما هُم […]

رصــــيـــــف

[wpcc-script type=”ed7071eca7edf05fbbc601a3-text/javascript”]

رصيف (1)
على باب المنزل وقفت وكأنها تنظر لكل زاوية من زواياه للمرّة الأخيرة أمسكت مقبض الباب أغلقته بِخفّة حملت حقائبها ورحلت .على الرصيف وبجانب حقائبها جلست منتطرة بحذر ما يُعلن عن وصول الحافلة.
هُناك في الجهة المقابلة لها وتحديداً على المقعد الذهبي اللون جلس ذاك الرجل المسّن وحوله مجموعة من الأشخاص – لربما هُم أبناؤه – تبادلوا الأحاديث والابتسامات التي يشوبها شيء من الحزن ولربما الخذلان منحوه القُبل وهمّوا بمغادرة المكان.
يَقطع صوت الحافلة الذي بات يُعلن قرب وصولها متابعتها لما يجري على الرصيف الآخر حاجبةً عنها ما تبقّى من الحكاية، وبينما يهم الرجل المسن بالصعود إلى الحافلة ينطلق صوتٌ يُشير إلى انتهاء مدة انتظار فترة صعود الركّاب، شيئاً فشيئاً تُغلق الأبواب، وبحيرة تسكن عينيها تَقِف تترقّب تحرُّك الحافلة لاستكمال ما تبقّى من المشهد – ها هو المقعد بدأ بالظهور – تقول بصوت منخفض. هدوء المكان، المقعد الفارغ كل شيء يوحي بأنّ جميع من كانوا هناك قبل لحظات قد غادروا…. تفضّل البقاء وانتظار الحافلة التالية التي ربما تأخذها، حيث أرادت أو تبقى مكانها لاختيار ما أرادته هي.
رصيف (2)
«أحمد أحمد حان وقت الاستيقاظ» يُحاول أحمد فتح عينيه شيئاً فشيئاً علّه يمنع وصول الضوء لعينيه بشكل مفاجئ – نعم إنّها أمي وهذا سريري ليس حُلماً ـ يُخاطب نفسه قائلاً، «هيّا يا أحمد أعلم بعد تناولك للحليب ستخاطبني مبتسماً بأنك اعتقدته حُلماً وتمنيّت لو كان كذلك لاستكمال نومك». يجلس أحمد على حافة السرير يتناول منشفته البيضاء الصغيرة يتوجه لغسل وجهه يشرب الحليب ويبدأ بجمع أدواته يفتح باب المنزل الخشبي الكبير يتوجّه نحو عربته الصغيرة وينطلق.
«صباح الخير يا أحمد» – بصوت مرتفع – يشير أبو حسن جار أحمد الكبير في السن له بيده من بعيد يبادله أحمد تحية الصباح مع ابتسامة صغيرة تكاد أن تختفي فور ظهورها سريعاً. بعد قطع أحمد للمسافة التي اعتاد اجتيازها يومياً يصل إلى المكان المعتاد يبدأ بجمع الحجارة الكبيرة المتناثرة حوله لتثبيت عربته الخشبية وترتيب كتبه التي اختارها بعناية، فيمنح الكتاب الذي لم يحظَ بفرصة البيع بعد التواجد في الصف الأول علّ ذاك الأمر يساعده على مغادرة العربة التي ألفت وجوده منذ فترة طويلة. يجلس أحمد بجانب العربة وتحديداً على الرصيف المقابل لها يتناول دفتره الصغير الذي اعتاد أن يخط تفاصيل حياته اليومية عليه، وقبل أن يهُم بمسك قلمه الرصاص الصغير يقاطعه صوت يبدو أنّه بات قريباً مِن العربة «صباح الخير أحمد شو جايبلنا معك اليوم شي جديد؟!» يسأل المُشتري أحمد وهو يتفّحص الكتب المرتبة على العربة بدِقّة.
يقف أحمد تاركاً دفتره الصغير على الرصيف متّجهاً بسرعة نحوه «صباح الخير والله أنا بنصحك بكتب الصف الأول». ينظر المُشتري لأحمد بشيء من الاستغراب مجيباً له «كتب الصف الأول؟ ليش يعني لانها ما عم تنباع معك يا أحمد بدّك تخلص منها آه» مبتسماً ابتسامة كبيرة. باستنكار شديد يجيبه أحمد: «لا لا أبداً ما في كتب ما بتنباع بس في كتب ما بتاخد حقها وصار لها وقت معروضة مع باقي الكتب لازم أعطيها فرصة لانو إزا ضلّت أكتر من هيك ممكن تفقد اشي من رونقها!»، يُمسك أحمد أحد الكتب وينتشله بخفة قائلاً : «متل هاد مثلاً».
يأخذ المشتري الكتاب من أحمد قائلاً «لقد اشتريت» يدفع المال يُغادر المكان يتّجه أحمد للجلوس مجدداً على الرصيف ممكساً دفتره «صباح الخير يا أمي أنا صحيت من النوم وشربت الحليب وبِعت أول كتاب متذكرة الطريقة اللي كنتي تحكيلي عنها لما أرجع للبيت وأخبرك أنو في كتب عندي ما عم تاخد فرصتها بالبيع هي الطريقة نفسها اللي عم تساعدني دايماً لأعطي الكتب حق الانتقال لمكان تاني! ما تنسي بكرة بنفس الموعد تصحّيني من النوم!». يضع النقطة يُغلق الدفتر مُنتظراً مُشتريا جديدا.

تُسدل الستارة ليبقى هُناك على الرصيف الأصفر صوت قطرات الأمطار التي تُشير إلى انتهاء الحكاية.
رصيف (3)
خلف نافذة الشباك مساءً وقفت تنظر إلى السماء بغيومها التي توحي إلى احتمالية سقوط المطر، تراقب خطوات المارّة السريعة التي تحاول اجتياز الطريق بخطوات كبيرة قبل أن يُباغتهم وصول المطر. وقبل أن تّسدل الستارة للذهاب إلى النوم لفتت انتباهها تلك السيدة التي تقف على الرصيف الأصفر وبجانبها طفلتها الصغيرة مُمسكة يدها بشدة وحذر. في تلك اللحظة بدا واضحاً أن هناك حديثاً يدور بين الطفلة ووالدتها – تمنّت لو استطاعت سماعه – تمر دقائق ليست بكثيرة ضوء أبيض يقتحم المكان، مُشيراً إلى أنّ هناك سيارة متجهة نحوهم لتقطع الحديث بينهم ينزل منها رجل طويل لم تستطع رؤية ملامح وجهه بشكل واضح يقترب من الطفلة محتضناً لها، يطلب منها إلقاء التحية على والدتها قبل الرحيل، تجلس والدتها على الرصيف تّقبّل جبينها وتصعد الطفلة السيارة. وقبل مغادرة المكان تتّجه الأم مُسرعة نحو السيارة طارقةً لها بقوة يفتح الأب النافذة يأخذ منها الحقيبة الحمراء الصغيرة يُسارع بإغلاقها وينطلق.
يتلاشى الضوء يعود الصمت فارضاً سطوته على المكان وبخطواتها الثقيلة تبتعد الأم مُعلنةً مغادرة المكان. تُسدل الستارة ليبقى هُناك على الرصيف الأصفر صوت قطرات الأمطار التي تُشير إلى انتهاء الحكاية.
عادةً ما نقف على الرصيف كي يمنحنا فرصة أمان العبور بين شارع وآخر وبين مفترق وآخر، ولربما تلوذ بالاحتماء به كي يمنحك فرصة الراحة بعد قطعك تلك المسافات الطويلة، وتعود قادراً على استكمال ومواصلة ما تبقّى من المسافة. أيّاً كان رصيفك الذي لربما تقف عليه أحياناً أو تجلس عليه باكياً مُبتسماً شارداً يقِظاً أحياناً أخرى تذكّر بأنّ تواجدك عليه لن يطول وبأنّ هنالك طريق عليك استكمال تخطَي شوارعه وحدك أنت!

٭ قاصة من لأردن

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *